للذكرى: حين نقض رئيس مجلس شورى الدولة اجتهاده “مئة وثمانين درجة”


2012-01-06    |   

للذكرى: حين نقض رئيس مجلس شورى الدولة اجتهاده “مئة وثمانين درجة”

في ظل الدور الذي يؤديه مجلس شورى الدولة – وتحديدا الغرفة التي يرأسها القاضي شكري صادر- فيما يتصل بمدى قانونية مراسيم زيادة الاجور، يهم "المفكرة القانونية" اعادة التذكير بوثيقتين يستشف منهما ان رئيس هذا المجلس قد وقع في غضون اقل من سنتين على رأيين متناقضين تماما، في مسألة اجتماعية اساسية، تتصل بحرية المعتقد وتحديدا بصلة الفرد بالطائفة:
الرأي الاول آل الى اعلان حرية المواطن اللبناني بشطب قيده الطائفي وقد وقّعه آنذاك بصفته رئيس هيئة الاستشارات والتشريع (استشارة، تموز 2007)،
والرأي الثاني آل الى حبس هذه الحرية في اطر النظام الطائفي، وقد وقَعه آنذاك بصفته رئيس الغرفة الأولى في مجلس شورى الدولة، على نحو يمنع المواطن من حق شطب قيده الطائفي (قرار، 15 تموز2009). ومما جاء حرفيا في الرأي الأخير: "فـ"الحرية الدينية في لبنان مرتبطة بالنظام الطائفي الذي يفرض على كل لبناني ان ينتمي الى طائفة من طوائفه الرسمية فلا يبقى طليقا في حياته الاجتماعية والسياسية خارج الاطار الطائفي الذي ولد فيه او انتسب اليه" (بشأن التتمة انظر ادناه).  
وللاضاءة على ذلك، تنشر المفكرة أدناه مقالا نشر بتاريخ 21 آب 2009 في جريدة الاخبار.
 
"رئيس شورى الدولة يقلب اجتهاده: ليس للبناني أن يحيا خارج القيد الطائفي!
نزار صاغيّة
بتاريخ 15 تموز 2009، أعلن مجلس شورى الدولة عدم اختصاصه للنظر في الدعوى المقدمة من مواطن لبناني بإلزام الداخلية بشطب قيده الطائفي، وذلك بحجة أن المحاكم العدلية هي المرجع المختص للنظر في دعاوى النفوس. وكانت الدعوى قد قدمت في أواخر 2007 وباتت دون موضوع بعدما شطب المدعي قيده سندا للتعميم الصادر عن وزير الداخلية (شباط 2009). وموضوع نقدي للقرار ليس أن المجلس رفع يده عن الدعوى، انما على نقيض ذلك، أنه اصر على تبيان وجهة نظره بشأنها تجاوزا لقواعد اختصاصه. فكأنما ثمة ضرورات تبيح المحظورات! ولعل أغرب ما في الأمر، أن هذا الرأي الذي حمل توقيع رئيس مجلس شورى الدولة (شكري صادر) جاء مناقضا تماما، مئة بالمئة، لرأيه السابق يوم كان رئيسا لهيئة الاستشارات والتشريع (2007) والذي صدر تعميم الداخلية بناء عليه.
فبخلاف الاستشارة التي أعلنت حرية المعتقد، حرية الانتماء واللاانتماء، حرية التصريح واللاتصريح وبالنتيجة حرية شطب القيد الطائفي، تضمن القرار حيثية لافتة مفادها الآتي: "ان الحرية الدينية في لبنان مرتبطة بالنظام الطائفي الذي يفرض على كل لبناني ان ينتمي الى طائفة من طوائفه الرسمية فلا يبقى طليقا في حياته الاجتماعية والسياسية خارج الاطار الطائفي الذي ولد فيه او انتسب اليه باعتبار ان حرية المعتقد تستتبع اعتراف القانون اللبناني بحق الفرد في تغيير دينه ومذهبه ومعتقداته (مع الاشارة الى ان أنظمة الأحوال الشخصية عند المسلمين لا تجيز للمسلم تغيير دينه)، أما مسألة شطب الدين كليا من سجلات النفوس فمقيدة بقيود لا يمكن تجاوزها في لبنان نظرا لخصوصية وضعه في تعدد المذاهب (18 طائفة) فضلا عن اعتبارات أخرى لها علاقة بامن المجتمع وبالوحدة الوطنية وميثاق العيش المشترك وبتجذر النظام الطائفي وتمسك اللبنانيين بمعتقداتهم الدينية". وقد وضع الشورى هذه الحيثية بعدما رأى أن الحرية المعلنة في المواثيق المذكورة وفي الدستور ليست مطلقة بل هي قابلة للتقييد بموجب "قانون" على ضوء الفقرة "ج" من مقدمة الدستور والمادة 9 منه، "على أن لا تتجاوز الحدود التي يضعها المشرع ما هو ضروري لحماية بقية الحقوق والحريات وأهداف المصلحة العامة وموجب احترام الغير".
فما عدا ما بدا؟ وما هي الضرورة القصوى التي دفعت مرجعا رفيعا بهذا المستوى، في قضية بهذا الحجم، الى نسف منطلقاته ومبادئه المعلنة واعتناق ما يناقضها تماما، كل ذلك في غضون ما يقارب سنة ونصف؟ هذا ما سيحاول هذا المقال الخوض فيه، بحيث أعرض بداية أوجه الاختلاف بين رأيي الهيئة والشورى وصولا الى تقويمه. 
1-  في عرض أوجه الاختلاف:
في هذا الصدد، وانطلاقا من مقارنة الحيثية أعلاه مع استشارة الهيئة، جاز استخلاص الفوارق الآتية:
أولا أن الشورى عدّ حرية المعتقد حرية قابلة للتقييد بموجب قوانين ضمن ضوابط تحكمها الضرورة. وهو بذلك خالف تماما هيئة الاستشارات وتعميم الداخلية واللذين أكدا على اطلاق هذه الحرية على اساس المواثيق الدولية. بل أن الشورى لم يجد حرجا في الاحالة الى نصوص لها معاني مختلفة تماما عما أراد افتراضه بمنأى عن أي تعليل. وهذا ما نقرؤه في الاحالة الى الفقرة (ج) من مقدمة الدستور التي نصت حرفيا أن "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد.." وأيضا في الاحالة الى المادة 9 من الدستور التي نصت حرفيا وقبل أي شيء آخر على أن "حرية الاعتقاد مطلقة". فأين الاشارة الى تقييد الحرية في هاتين المادتين؟ بل هذا ما نقرؤه أيضا بوضوح كلي في تتمة المادة9 حيث جاء أنها تضمن "للأهلين تنظيم أحوالهم الشخصية وفق معتقداتهم": فاذا ضمنت هذه العبارة للبنانيين العيش وفق معتقداتهم مهما بلغ حجم الطائفة التي ينتمون اليها (في مواجهة أي أكثرية)، فانها تضمن لهم بالطبع وحكما عن طريق الاستدلال العكسي، أن يبقوا بمأمن عن أي تنظيمات تخالف معتقداتهم، مما يتنافى هنا أيضا مع أي قيد لهذه الحرية (وأيضا في مواجهة أي أكثرية). هذا مع العلم ان قراءة الشورى تصطدم بشكل كامل مع الفقه الدولي في مجال حقوق الانسان والذي يصنف حرية المعتقد (من خارج اقامة الشعائر الدينية في الأماكن العامة) ضمن الحريات غير القابلة لأي قيد او استثناء أيا كانت الظروف المحيطة.
ثانيا، أن الشورى رأى أن التنظيمات الطائفية الحاضرة، تشكل بحد ذاتها قيودا قانونية على حرية المعتقد. فأن تكون بعض الحقوق الاجتماعية أو السياسية مرتبطة بالانتماء الطائفي يجعل اللبناني (كل لبناني) ملزما بالانتماء الى احدى طوائفه الرسمية للاستفادة منها، فلا يبقى "طليقا"! وهذا القول يتعارض هو الآخر تماما مع الاستشارة التي رأت أن التنظيم الطائفي ربما يؤثر على بعض حقوق المواطن المرتبطة بانتمائه الطائفي دون أن يؤثر بحال من الأحوال على حرية المعتقد، وتاليا على حرية الانتماء أو اللاانتماء الى طائفة: فبامكان الفرد ان يضحي بحقوق اجتماعية معينة تمسكا بمعتقده دون أن يكون للمجتمع أن يلزمه بالانتماء قسرا الى طائفة ضمانا لهذه الحقوق. لا بل أن الشورى بدا في هذا المجال في تعارض مع ذاته الى حد العبثية: فكيف جاز استنتاج تقييد حرية اساسية في مصاف حرية المعتقد دون الاستناد الى أي قانون صريح بهذا الشأن، خلافا لما سبق وأكده في متن الحيثية نفسها المبينة أعلاه؟ بل أكثر من ذلك، كيف جاز ذلك في ظل قوانين تكرس صراحة حق المواطن باللاانتماء الى طائفة وتفرض على الدولة وضع قانون مدني للأحوال الشخصية ضمانا لحقوقه كما يتأتى من القرار 60 ل/ر الصادر منذ 1936؟ وألا يظهر بنتيجة ذلك أن الاستنتاج المذكور استند ليس على المنظومة القانونية، انما على قراءة خاصة تصور الأمر الواقع المتمثل بإحجام الدولة عن وضع قانون مدني وتاليا باعتدائها على حقوق الخارجين عن الطوائف على أنه قانون؟
ثالثا، وبعدما أعلن الشورى إلزامية الانتماء، لم يجد صعوبة في إعلان إلزامية التصريح عن هذا الانتماء لأسباب عدة أهمها "خصوصية الوضع اللبناني وتعدد المذاهب (18 طائفة)، والاعتبارات المتصلة بأمن المجتمع وبالوحدة الوطنية وميثاق العيش المشترك وبتجذر النظام الطائفي وتمسك اللبنانيين بمعتقداتهم الدينية". وبذلك ناقض هنا أيضا استشارة الهيئة التي رأت أن عدم التصريح عن المعتقد او الانتماء (سواء ان وجد أو لم ينوجد) نتيجة طبيعية لحرية المعتقد.
وأسوأ ما في الحيثية في هذا الخصوص، هو أن الشورى لم يبنِ موقفه على اعتبارات الاستقرار القانوني، والتي تفرض تحديد الانتماء الطائفي عند وجوده، انما استرسل في استحضار كلمات كبيرة كأمن المجتمع أو الوحدة الوطنية والعيش المشترك، دون اي محاولة لاظهار الرابط بينها وبين التصريح عن الانتماء. فكأنما استحضار كلمات بهذا الحجم كاف بحد ذاته لاثبات ما يريد افتراضه!
ولعل أول ما يخطر للمرء عند قراءة كلمات مماثلة أن الشورى يرى بأن تصنيف المواطنين في سجلات الدولة، وبشكل واضح، ضمن خانات طائفية هو شرط أساسي للوحدة وللأمن وللعيش المشترك فيما يشكل أي خرق لذلك تهديدا لهذه الأمور قاطبة وأن هذا الاعتقاد راسخ لديه رغم الأدلة الواقعية المحيطة والتي كلها تؤكد (وعلى الأقل توحي بِ) عكس ذلك. ولربما قصد الشورى في هذه الحيثية أن عدم التصريح عن الانتماء الطائفي أي اخفاءه يضيّع "الشنكاش"، بحيث يصعب اذ ذاك معرفة انتماءات المواطنين (الناخبين) وتاليا أوزانهم وتوجهاتهم. وهو جهل يصعب معه احترام الموازين ووضع خطط مسبقة مما يؤدي ربما الى الفوضى وربما الاقتتال!
أما تذرعه بتمسك اللبنانيين بمعتقداتهم الدينية لتبرير تسجيل بعضهم في خانات الطوائف ولو خلافا لمعتقداتهم، فهو يصطدم تماما بمبدأ "حرية المعتقد". فأليس مبرر اعلان هذه الحرية (بل أي حرية عامة)  قبل كل شيء ضمان هامش تحرك للفرد بمعزل عما تريده الأكثرية، وأحيانا تحديدا في مواجهة ما تريده؟  
رابعا: وأخيرا، تجدر الاشارة الى الملاحظة الواردة عرضا وبين قوسين ودون تعليل في قرار الشورى، ومفادها بأن "الأحوال الشخصية عند المسلمين لا تجيز للمسلم تغيير دينه"، وذلك من باب اعلان حد آخر لحرية المعتقد مفاده منع المسلمين من تغيير الدين على نحو يشكل قفزة هائلة الى الوراء في هذا المجال. فما حدا المجلس الى اعلان موقف مماثل؟ ونقرأ العبارة مرة وعشرات المرات، ونحك أعيننا مرة وعشرات المرات، للتأكد من ورودها في متن القرار. فهل يجهل الشورى أن حق المسلمين بتغيير دينهم مكرس قانونا وواقعا وأنه يحصل بشكل دائم منذ عقود في سجلات الدولة؟ أم أنه يتنبأ بمستقبل يعاد فيه العمل بأحكام "الارتداد"؟ هذا ما اردت قوله بشأن الاختلاف بين رأيي الهيئة والشورى، بقي أن أحاول تقويمه.
في تقويم الاختلاف:
هنا، وبمعزل عن مدى صوابية أي من الرأيين، فان استعراض الفوارق يظهر أنها جذرية وأنها لا تقتصر على سهو عن مادة أو قاعدة قانونية معينة (وهذا أمر قد يحصل)، بل هي تعكس تباينا عميقا وتاليا رؤية ضبابية متقلبة بشأن أصول هذا النظام ومبادئه الأساسية، لدى رئيس مجلس شورى الدولة أي لدى المرجع الذي يفترض به أن يكون الأكثر علما بهذه الأصول والمبادئ وادراكا لها.
ومن الناحية العملية، السؤال المشروع الذي يتبادر الى الأذهان وهو يبقى حكما ضمن حدود النقد المباح: كيف أمكن لمن يتولى حاليا أعلى منصب قضائي مختص في مساءلة الادارة ومحاسبتها، أن يعلن، ومن خارج اختصاصه، مواقف ورؤى اجتماعية مناقضة تماما لمواقفه ورؤاه التي أعلنها حين كان يتولى مهمة توجيه الادارة (كرئيس لهيئة الاستشارات والتشريع)، كل ذلك بناء على فرضيات ودون استشعار اي حاجة لتوضيح أسباب انقلابه على ذاته؟ فألا يعكس ذلك استخفافا بوزارة الداخلية التي عملت باستشارته، فاذا بها تجابه لهذا السبب بالذات، ومن قبله بالذات، اتهاما ضمنيا بالمس بأمن المجتمع وبالوحدة الوطنية وبالعيش المشترك، فكأنما استهاب أن الوزير أخذ استشارته على محمل الجدّ وحولها الى واقع فسارع الى اصلاح الخطأ عند اول مناسبة؟ بل ألا يعكس ذلك استخفافا بالناس الذين هللوا للاستشارة ورحبوا بها كباب لاقرار الحق والحد من هيمنة الطوائف، فاذا به ينسف كل ما جاء فيها بثقة متناهية بالكاد تترك مجالا للجدل؟
لا بل أن رئيس الشورى لم يكتف بنسف الاستشارة وحسب، بل أطلق موقفا مفاده حرمان المسلم من حق تغيير دينه وهو موقف لم تسبقه اليه على حد علمي أي هيئة قضائية. وهو بذلك، أعلن نفسه صاحب الموقف الأكثر التزاما بحقوق الطوائف، بعدما كان له شرف اتخاذ الموقف الأكثر تقدمية في هذا المضمار. 
أقل ما يمكن قوله ازاء تقلب مماثل أن التعليل القانوني، بدا في هذا المجال أقرب الى أسلوب الخطابة منه الى العدل. رحم الله سقراط!"

الصورة عن شطب القيد الطائفي من مدونة فرفحين: http://farfahinne.blogspot.com 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني