على مدخل أحد المكاتب في قصر العدل في بيروت كان يقف قاضٍ بلباسه المدني لحظة مرور قاض آخر مرتدياً الروب الرسمي، يُناديه زميله: “إلى أين؟” فيُجيب: فقط “موقوفين”. لا تُفهم العبارة إلا عندما نصل إلى أحد الأقلام حيث نجد ورقة طُبع عليها “لن تُعقد الجلسات بسبب اعتكاف القضاة”، ليتبين أن القضاة قرروا الاعتكاف عن العمل، إلا بتسيير الملفات التي لا تحتمل التأجيل مثل الموقوفين، مع العلم أن مجلس القضاء الأعلى أعلن عدم سيره بأي اعتكاف.

الاعتكاف المستقلّ بدأ نهار الإثنين بعدما أعلن عدد من القضاة، ومن بينهم غالبية من المنتسبين إلى نادي قضاة لبنان، الإضراب عن العمل ضدّ ما تضمّنه مشروع الموازنة من بنود من شأنها المس بحقوقهم المالية المكتسبة. ومن شأن هذه البنود إلغاء قسم هام من موارد صندوق تعاضد القضاة من غرامات السير وتخفيض مساهمات الدولة في الصندوق. وكان القضاة قد دعوا لاجتماع نهار الجمعة استمر لأربع ساعات في قاعة محكمة التمييز في قصر العدل بيروت، على أن يعاد التجمع نهار الأربعاء، اليوم.

ويأتي هذا المس بحقوق القضاة في الوقت الذي تقوم الحكومة فيه بدرس مشروع الموازنة في إطار البحث عن موارد لسد العجز في الموازنة. لذا، لجأت إلى سياسة التقشف التي طالت الأجور والتقديمات الإجتماعية لموظفي القطاع العام. وغير اعتكاف القضاة، فإن إضرابات تعوم البلاد على صعيد غالبية الإدارات والمؤسسات العامة، بدأت الأسبوع الفائت للضغط على الحكومة للتراجع عن سياساتها.

اعتكاف القضاة هذا تكرر في السنوات الثلاث المتتالية منذ 2017 حتى العام الجاري. وكان كُل مرة يسير القضاة في الاعتكاف لأسباب تتعلق بالتشريعات المتعلقة بالقضاة والتي يقوم بها مجلس النواب دون احترام رأيهم، كذا واحترام مبدأي فصل السلطات واستقلالية القضاء. وفي المرات الثلاث كانت السلطة التشريعية تلجأ إلى دراسة تشريع مواد، مرة في مشروعي قانون سلسلة الرتب والرواتب وتمويلها 2017 ومرتين في قانون الموازنة 2018 و2019، تطال بطريقة أو بأخرى الحقوق المادية المكتسبة للقضاة، إن كان في الرواتب أو صندوق التعاضد.

المس بالصندوق هو مس باستقلاليتنا

نهار الجمعة الفائت دعا قضاة، عبر مجموعتي واتساب التي تضم كل واحدة منها 257 قاضياً، لاجتماع في قاعة محكمة التمييز في قصر العدل في بيروت. مجلس القضاء الأعلى لم يدعُ إلى الإجتماع إنما حضر جزء منه رئيسه القاضي جان فهد. ينقل قاضٍ بأن القاضي فهد أعلن أمام الحضور عدم رضاه عن الاعتكاف مبدياً أن هناك وعوداً بإيجاد حل لهذه المسألة. وخلال الاجتماع، وبعد خروج القاضي فهد، صوت القضاة الحاضرون وهم نحو 100 قاض على قرار الاعتكاف الذي حاز على تأييد الغالبية من الحاضرين ومن الذين تواصلوا عبر الواتساب وأكدوا رغبتهم بالاعتكاف. القضاة قرروا الاعتكاف التدريجي، معتبرين أنه في الوقت الآني يتم النظر في قضايا الموقوفين والملحة، إنما هم عازمون على التصعيد في حال عدم تجاوب السلطة مع مطالبهم، فيتجهون إلى الاعتكاف الشامل.

وعليه، وفق القضاة، يُشكل من جديد مشروع قانون الموازنة لسنة 2019 سبباً لاعتكاف القضاة وراء مكاتبهم رفضاً لأي تعديلات تطال عائدات صندوق تعاضد القضاة. مشروع قانون الموازنة الذي يتم درسه آنياً في مجلس الوزراء، يتبين أنه في المادة 15 منه والتي تتعلق بالتعديلات الضريبية، تُلغي نص المادتين 401 و402 من قانون السير الجديد رقم 243/2012 والتي يُخصص بموجبها نسبة 30 بالمئة من الغرامات المحصلة من الأحكام القضائية لصالح صندوق تعاضد القضاة، بحسب النسخة التي تم تعميمها في الإعلام لمشروع قانون الموازنة. ويعتبر مشروع الموازنة حصيلة الغرامات الناتجة عن مخالفات السير المستوفاة بموجب طوابع مالية أو من الأحكام القضائية، حقاً عائداً بأكمله وبتمامه لصالح الخزينة العامة.

يشرح قاضٍ للمفكرة بأن غرامات السير تُدخل إلى صندوق تعاضد القضاة ما يوازي 8 مليارات ليرة سنوياً، وهي التي تساعد في تسديد القضاة لتكاليف الطبابة والاستشفاء ومنح المدارس. ويلفت أنه إلى جانب أخذها لعائدات الصندوق من غرامات السير، فإن الدولة تسير في اتجاه تخفيض مساهماتها في الصندوق التي حتى اللحظة تُشكل نسبة 10% من موارده. ويرى أن تعويض العجز لا يتأتى من تنشيف الصندوق، علماً أن موازنة وزارة العدل لا تتعدى 0.5% من موازنة الدولة، إنما من ضبط مكامن الهدر في الإدارات، خاصة في الرسوم الجمركية”. أيضاً، يرى أن منها في “الأرباح المصرفية التي تفوت على الدولة والتي يحميها بعض سياسيو السلطة الذين يملكون جزءاً منها”. أمام هذا الواقع، يتساءل القاضي: “كيف يمكن أن أسعى لحقوق المتقاضين أمام المحكمة، وفي الوقت عينه أنا قلق على حقوقي؟”

وينقل عدد من القضاة للمفكرة في هذا الصدد، أن مشاورات حصلت بين مجلس القضاء الأعلى ورئيس المجلس النيابي نبيه بري توصلت إلى تسوية تقوم على أن يتم قطع التحويل المباشر لعائدات غرامات السير عن الصندوق، على أن تقوم وزارة المال من جديد بتحويل النسبة المالية نفسها إلى الصندوق. والحال أن هذا الحل بشكله الظاهري لا يُشكل أي نوع من التقشف لصالح الخزينة، إنما يُفسر أن هذه “التسوية” بالنسبة للقضاة تفوّض أمورهم المالية إلى سلطة وزارة المال. ومشكلتهم المباشرة مع هذا الإجراء، أن تجربة بعض الإدارات مع وزارة المال لا يبشر خيراً. ويقول قاضٍ للمفكرة بأن “وزارة المال تأخرت عشر سنوات لتحويل مستحقات البلديات من عائدات الخليوي. فمؤخراً، حصلت البلديات على عائدات عام 2007”. ويُشكل هذا التأخر بالنسبة له “سبباً مباشراً لعدم التعامل مع وزارة المالية بحيث لا ضمانة بأن تُحول هذه الأموال إلى الصندوق ما يترتب عنه خوفاً من “ضياع الأموال”.

يشرح قاض بأن “صندوق تعاضد القضاة هو الضمانة التي تؤمن للقاضي الأمان الاجتماعي. فمن خلاله يتمكن القاضي من تأمين أموال الطبابة له ولعائلته، والمنح المدرسية”. ويُضيف، “تحاول السلطة التنفيذية ضرب الاستقلالية القضائية من خلال ضرب هذا الأمان الاجتماعي، من دون الأخذ بعين الاعتبار مبدأي: فصل السلطات واستقلالية القضاء”. ولهذا، يرى القاضي بأن “ما تقوم به السلطة عبر تنشيف موارد صندوق القضاة هو إخضاع السلطة القضائية بشكل تام لها”.

هذا الأمر يحلله قاض آخر لا يرى أملاً إلا بتغييرات جذرية على صعيد القوانين والعودة إلى الدستور في أي تشريع يخص القضاء، مع احترام القضاء كسلطة مستقلة لا يقوم أي تشريع دون الأخذ برأيها. ويشرح بأن المادة 5 من قانون تنظيم القضاء العدلي تؤكد على أنه يتعين استشارة مجلس القضاء الأعلى بأي تشريع يختص بالقضاء”. ويُضيف، إن ما تقوم به السلطتان التنفيذية والتشريعية بمحاولة لتنشيف موارد صندوق التعاضد، يتعارض مع استقلالية القضاء الذي من المفترض أن يكون له موازنة خاصة. ويؤكد في هذا الشأن، أن موارد الصندوق التي يحاولون إلغاءها لا تُشكل مورداً هاماً لخزينة الدولة، خاصة وأن موازنة وزارة العدل لا تتعدى 0.5% من موازنة الدولة. والحال، أن هذه الموازنة الضئيلة تتعارض مع الأرباح التي تدخل إلى الدولة عبر وزارة العدل، والأخيرة تأتي في المرتبة الثالثة بعد وزارتي المال والاتصالات.

 

نريد وضع قانون استقلالية القضاء

يتجه عدد كبير من القضاة إلى التمسك بحقهم الأول الذي بدأوا الحراك لأجله عام 2017، حين وقعوا على عريضة تخطت موقعيها الـ 300 قاض وقاضية، والتي تُطالب بوضع قانون لإستقلال السلطة القضائية. والحال، أن القضاة لا يجدون أملاً بقرارات مجلس القضاء الأعلى، الذي يعارض هذا الاعتكاف، بأن يأتي يوماً ويضع جهوداً في سبيل حقوقهم. وكانت ردة فعل الأخير على إنشاء نادي قضاة لبنان قد أكدت بالنسبة لهم توجهات مجلس قضاء الأعلى التي تتماهى مع السلطة. إذ أن المجلس أرسل مرتين كتباً لكل قاض بالاسم يطلب إليهم الخروج من مجموعة الواتساب، ومرة  ليشرح فيه عدم اعترافه بشرعية النادي، مستخدماً لغة من شأنها تخويف القضاة من الانضمام إليه ومنعهم من ممارسة حقهم الحقوقي”. والجدير ذكره أن نادي قضاة لبنان بعد إنشائه العام الفائت والذي يضم نحو 100 قاض وقاضية، أصبح عضوا مؤسسا في الاتحاد العربي للقضاة، وهو بصدد الانضمام إلى الاتحاد الدولي للقضاة الذي تأسس في عام 1953 ومقره روما. ومنذ يومين كان يحتفل بسنويته الأولى في غياب أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وكل هذا حصل في الوقت الذي يستمر مجلس القضاء الأعلى بإنكار شرعية نادي قضاة لبنان.

 

بيان القضاة وردّ من مجلس القضاء الأعلى

بعد اجتماع نهار الجمعة أصدر القضاة بياناً يدعون فيه إلى الاعتكاف عن حضور الجلسات حتى نهار الأربعاء، اليوم. وقد تضمن البيان تعليلا للاعتكاف مفاده أن القضاة أعربوا عن رفضهم لأي تعديلات تمس حقوقهم المالية مطالبين بوجوب احترام المادة 5 من قانون التنظيم القضاء العدلي التي تنص على أن القضاء سلطة لا يجوز المساس بضماناتها وأمنها الاجتماعي من دون موافقتها. كما ذكّر البيان على أن “مكافحة الفساد لا يمكن أن تتم، إلا عبر السلطة القضائية المعززة التي ينبغي أن تبحث السلطتان (التنفيذية والتشريعية) كيفية تعزيز وضعها بالطرق كافة. أخيرا، شدد البيان على أن “التقشف لا يمكن في أدنى المصاريف الضرورية، فاتحة التقشف تكون بوقف التسرب الأزلي في مالية الدولة”. وأضاف البيان: “القضاء متقشف منذ نشوئه، إذ أن القضاة كانوا يعملون بشكل شبه مجاني قبل عام 2011 براتب 480 دولارا في المعهد و960 دولارا بعد التخرج تزاد 50 دولارا كل سنتين، وباتوا بعدها يؤدون رسالتهم بأجر زهيد لا يتناسب البتة مع المهام الجسام الملقاة على عاتقهم (940 دولارا صافيا في المعهد وضعفها عند التخرج)، علما أن السلسلة الأخيرة لم تشملهم. وهذا طبيعي كونهم ليسوا موظفين.
وأخيراً، اعتبر البيان أن “طمأنينة نفس القاضي التي تؤهله للحكم قد تلاشت في ظل ضرب أمنه الاجتماعي للسنة الرابعة على التوالي، بحيث بات القاضي يعيش توترا واضطرابا في ضوء المساس بطبابته وطبابة أولاده وجزء من تعليمهم، علما أنه لا يمكن للقاضي العمل في ظروف ضاغطة وغير مستقرة معنويا وماديا، وفي أماكن غير لائقة تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات العمل”.
وقد دعا البيان في النهاية “المساعدين القضائيين إلى مواكبتهم (في الاعتكاف) كونهم يستفيدون من صندوق التعاضد المستهدف”.

وعلى خط مواز، حذر البيان من تصعيد الاعتكاف، على أن يُصبح اعتكافاً شاملاً في حال لم تعزز الحكومة في مشروعها الوضع المعنوي قبل المادي، وذلك لناحية دعم السلطة القضائية في كل تفصيل”. وأعلن البيان أن الاجتماعات مفتوحة لغاية الاجتماع الكبير نهر الأربعاء.

بدوره، أعلن مجلس القضاء الأعلى في بيان نهار السبت رفضه التام لأي قرار بالاعتكاف، إذ أوضح أن “ما تم تداوله من دعوة إلى توقف القضاة عن العمل لم يصدر عن مجلس القضاء الأعلى، وأن المجلس يدعو القضاة إلى متابعة عملهم كالمعتاد وعدم التوقف عن العمل”.
ولفت بيان المجلس إلى أن “المجلس لم ولن يتوان عن عقد اللقاءات واتخاذ المواقف المناسبة لمنع المس بحقوق أفراد السلطة القضائية وضماناتهم، وهو المؤتمن عليها، وهي جاءت نتيجة معاناة ونضالات على مدى السنوات السابقة، ويؤكد حرصه على التعاون مع سائر السلطات، بما يحفظ ضمانات القضاة وكراماتهم ويثبت استقلاليتهم.”

وأمام رفض مجلس القضاء الأعلى السير بأي اعتكاف، أصدر نادي قضاة لبنان نهار الاثنين وهو أول يوم اعتكاف، أن النادي “كان جزءا من الحراك القضائي المجسد للنبض الحقيقي للقضاة والذي قرر الاعتكاف ضد التشريعات غير الدستورية التي تطال القضاء والذي كان قد تكرر لثلاثة أعوام على التوالي، وبالتالي فإن النادي مؤيد للاعتكاف التحذيري ويؤكد استمراره لغاية نهار الأربعاء دعما لمجلس القضاء ومكتب شورى الدولة ومجلس الديوان في سبيل نيل المطالب المحقة انطلاقا من مسؤوليتهم في السهر على كرامة القضاء وصون استقلاله”.

والحال أن القضاة المعتكفين لاقوا دعماً من النوادي العربية والدولية، فيما يعكس تطورا جديدا في صراعات القضاة مع السلطة السياسية في لبنان. وقد أكد بيان الاتحاد العربي على أن المبادىء الأساسية المتعلقة باستقلال السلطة القضائية … قد جعلت من السلطة القضائية سلطة مستقلة تتمتع وجوبا بالإستقلال الإداري والمالي الذي لا ينفصل عن الإستقلال الفردي والمؤسسي للسلطة القضائية”. وتابع البيان، “لا يستقيم أن تقوم أي سلطة أخرى سواء كانت سلطة تشريعية أو تنفيذية بالمساس بضمانات القضاة وصناديقهم، تحت أي مبرر كان، باعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من استقلالهم..”. كما ذكر البيان بدور القضاء المستقل في مكافحة الفساد في دولة القانون.

 

مقالات ذات صلة:

موازنة الهيئات القضائية  

رواتب القضاة وتعويضاتهم

حين تجمع القضاة في لبنان

اقتراح قانون حول استقلال القضاء العدلي وشفافيته