مخالفة للقاضي ربيع معلوف: تفتيش الهواتف يتطلب إذنا من قاضي التحقيق


2019-05-04    |   

مخالفة للقاضي ربيع معلوف: تفتيش الهواتف يتطلب إذنا من قاضي التحقيق

“Everyone has three lives: a public life, a private life and a secret life.”

― Gabriel García Marquez

“أعطِني تلفونك!” أمرٌ غالبا ما نسمعه من رجال الأمن في المخافر أو على الحواجز في لبنان. وغالباً ما نضطّر لتنفيذه بسبب صعوبة الاعتراض في هذه المواقف. لكن إذا بحثت الشرطة في هاتفكم، ماذا ستجد؟ هل ستجد صورا حميمية لكم أو لأحد معارفكم لا تريدون أن يراها أحد؟ هل ستجد محادثات لا تريدون أن يقرأها أو يسمعها أحد؟ أليس من الطبيعي إذن أن يتم وضع ضوابط على امكانية الاطلاع على محتوى الهواتف بما تتضمنه من معلومات خاصة؟ هذا ما رآه المستشار المنتدب في محكمة استئناف الجنح في بيروت القاضي ربيع معلوف الذي رفض الأخذ بالأدلة المستخرجة من الهواتف من دون إذن قضائي. وقد جاء هذا الموقف في سياق مخالفة القاضي للحكم الصادر عن هذه المحكمة في قضية ثلاثة شبّان مدعى عليهم بإقامة علاقات جنسية مثلية التي تم استعراض تفاصيلها في مقال منفصل.

وأهمية موقف القاضي معلوف تكمن في جانبين:

  • الأوّل، أنه أوّل موقف قضائي ترصده “المفكرة القانونية” يرفض ممارسة تفتيش الهواتف التي لم تقترن بإذن من قاضي التحقيق ضماناً للحق بحماية الحياة الخاصة ولحقوق المشتبه فيهم خلال التحقيقات الجزائية.
  • والثاني، أنه يقدّم نموذجاً على نجاح التقاضي الاستراتيجي المبني على شراكة ضمنية بين محامين وقضاة كوسيلة لتغيير القواعد والسياسات التي تعتدي على الحقوق الأساسية. فقد جاءت هذه المخالفة لتكلّل جهود “المفكرة” في حثّ السلطات القضائية على وضع ضوابط لتعرّض الضابطة العدلية للحياة الخاصة، وبخاصة في ظل انتشار ممارسات التعرض هذه.

وقبل البحث في الحجج القانونية التي استند إليها القاضي معلوف لإرساء هذا الموقف، نستعرض سريعاً الظروف المحيطة بهذه الممارسات وجهود “المفكرة” لوضح حد لها منذ عدة سنوات.

تفتيش الهواتف: ممارسة منتشرة من دون أي ضوابط

“لا يجوز لرجال قوى الأمن الداخلي في غير الحالات التي نص عليها القانون أن يزعجوا الناس في حريتهم الشخصية[1]“. لكن يبدو أن هذا المبدأ تعثّر مع ثورة التكنولوجيا وانتشار الهواتف الذكية بعدما أصبحت حياتنا الشخصية تنتقل معنا أينما ذهبنا. تحتوي هذه الهواتف على كمّ هائل من المعلومات الخاصة بكل فرد على شكل مراسلات (خطية وصوتية ومصوّرة) وصور وفيديوهات ومستندات. وفيما كان كل فرد يستطيع حماية معلوماته ومراسلاته الخاصة في الماضي من خلال إبقائها في مكان آمن كالمنزل، أصبحت اليوم رقمية وتالياً متنقلة وعرضة للإفشاء، مما سهّل للقوى الأمنية الاطلاع عليها.

قانوناً، يُعتبر الاطلاع على محتوى الهواتف “تفتيشاً”، أي من إجراءات التحقيق التي تهدف إلى البحث عن الأدلة الجرمية كالأشياء والأوراق والمستندات التي تدل على وقوع الجريمة وعلى مرتكبيها. وتخضع إجراءات التفتيش المختلفة (كتفتيش الأشخاص والمنازل والمراسلات) إلى قواعد قانونية صارمة تحدد السلطة المخوّلة بإجرائها (قوى الأمن أو النيابة العامة أو قاضي التحقيق) والحالات والشروط التي يُسمح فيها اللجوء إليها، كونها تشكل تغولا على الحيّز الخاص.

لكن رصد “المفكرة” أظهر انتشار عدة أنواع من ممارسات تفتيش الهواتف من قبل القوى الأمنية من دون أي ضوابط قانونية: الأولى، تفتيش هواتف المشتبه بارتكابهم جرائم من قبل الضابطة العدلية في إطار التحقيقات الجزائية (أي خلال تواجد المشتبه فيهم في المخافر للتحقيق)، علما أن بعضها يحصل بإذن من النيابة العامة وبعضها الآخر من دون أي إذن قضائي. وتحصل أعمال التفتيش هذه في إطار تحقيقات بجرائم مختلفة من حيث طبيعتها وخطورتها، إذ قد تحصل في حالتي الجريمة المشهودة وغير المشهودة، كما في حالات لا ترتبط بقضايا الإرهاب أو القضايا الخطيرة. والثانية، تفتيش الهواتف على الحواجز الأمنية وفي المراكز التابعة للقوى الأمنية (الجيش ومخابرات الجيش والشرطة العسكرية وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة) لدى الاشتباه بشخص ما سنداً إلى شكله أو اسمه أو جنسيته أو سلوكه. وطبعاً هذا التفتيش يخرج عن إطار أي تحقيق قضائي، ولا مبرر قانوني له، إلا أن النيابات العامة تستند إليه من أجل فتح تحقيقات جزائية دون التوّقف أمام قانونيته. وقد تتناول هذه الممارسات المعلومات والمراسلات الرقمية كافة، لا سيّما تلك المحفوظة في أجهزة الحاسوب.

وعليه، أصبح اليوم تفتيش الهواتف من أسهل وأسرع الوسائل لجمع الأدلة مقارنة مع الوسائل الأخرى المعتمدة من قبل الضابطة العدلية، مثلها مثل داتا الاتصالات التي هي تشكل دليلاً على التواصل من دون أن تقدّم دليلاً على مضمونه. وبالفعل، غالبا ما يسمح تفتيش الهواتف للضابطة العدلية والنيابات العامة بإنهاء التحقيقات الجزائية خلال مدة وجيزة، إذ يكتفي المحققون بالاطلاع على المعلومات المحفوظة في هواتف المشتبه فيهم (بعد الضغط عليهم للإفصاح عن كلمة السر) ومواجهتهم بها من أجل الحصول على اعترافات وأدلة مادية تكون كافية لإسناد ادّعاء النيابة العامة عليها. وعلى سبيل المثال، تستند الضابطة العدلية والنيابات العامة على تفتيش هواتف المشتبه بميولهم الجنسية المثلية من أجل استدعاء من يتراسل معهم، والمشتبه باستخدامهم المخدرات من أجل استدعاء ليس فقط المروجين والتجار بل مستخدمين آخرين. ويساهم ضعف الموارد المالية والبشرية المتوفرة لدى الضابطة العدلية والنيابات العامة في انتشار هذه الممارسات، خاصة في القضايا التي ترتبط مباشرة بالحياة الخاصة كالتحقيقات في الأفعال الجنسية واستخدام المخدرات. وعليه، وفيما أن الحق بالتزام الصمت هو من أهم حقوق الدفاع خلال التحقيقات الجزائية استناداً إلى الحق الطبيعي بعدم تجريم أنفسنا nemo tenetur se ipsum accusare، فإن هواتفنا باتت تكسر هذا الصمت الذي قد نرغب به وتتكلم نيابة عنا دون أي رقيب، أو “دليل ناطق باسم الانسان” إذا استعرنا عبارة الراحل د. مصطفى العوجي.

ولا يتوقف الأمر لدى النيابات العامة المكلفة بالتحقيقات وبالادعاء على المشتبه فيهم. فلا تتردد المحاكم أيضاً في الاستناد إلى المعلومات المستخرجة من هواتف المشتبه فيهم كدليل لإدانتهم بارتكاب جريمة، دون أن تتحقق من مدى قانونية إجراء التفتيش أساساً. وقد استفادت هذه الممارسات من عدم وجود نص قانوني خاص يتعلّق بأصول تفتيش الهواتف والاطلاع على محتواها. فقانون أصول المحاكمات الجزائية تم وضعه في العام 2001 قبل انتشار الهواتف الذكية. في هذا الإطار، تمثلت الإشكالية القانونية في تحديد النظام القانوني الذي يخضع له تفتيش الهواتف: هل هو يخضع إلى أصول تفتيش الأشخاص أو المنازل أو المراسلات، علماً أن لكل من هذه الإجراءات أصول مختلفة؟”

جهود “المفكرة” لضمان الحق بالخصوصية: القضاء يمتنع عن وضع ضوابط لأصول تفتيش الهواتف

أمام استمرار التعرّض للحياة الخاصة من قبل الأجهزة الأمنية والسلطات القضائية، وبهدف تحصين حقوق المشتبه فيهم خلال التحقيقات الجزائية، قدّمت “المفكرة” في العام 2016 طلبا إلى النيابة العامة التمييزية، بواسطة رئيسها القاضي سمير حمود، لمعالجة هذه المخالفات استناداً إلى سلطتها في وضع السياسات الجزائية ومراقبة أعمال الضابطة العدلية. طلبنا منها إصدار تعميماً يوضح الضوابط القانونية التي ترعى أصول تفتيش الهواتف تفادياً لتجاوز الضابطة العدلية حدود سلطتها. وقدّمنا لها مقترحاً مفصلاً لهذه الضوابط، لا سيما وجوب تطبيق أصول الاطلاع على المراسلات التي تتطلب إذناً من قاضي التحقيق سنداً للقانون رقم 140/1999 المتعلق بصون سرية المخابرات. لكن النيابة العامة التمييزية حفظت هذا الطلب دون أي جواب خطي.

ولدى مناقشة هذا الرفض الضمني مع المحامي العام لدى محكمة التمييز الذي كُلف بدراسة طلبنا، أعلمنا هذا الأخير بأن النيابة العامة التمييزية لا يمكنها أن تصدر هكذا تعميم بسبب ضرورة الاعتماد على تفتيش الهواتف للحصول على المعلومات والأدلة في قضايا الإرهاب والمخدرات. إلا أنها رفضت إصدار تعميم مماثل حتى في الجرائم الأخرى أو الأقل خطورة، من دون إعطاء أي مبرر لذلك. فكأنما تخشى النيابة العامة اتخاذ أي خطوة من شأنها إثارة أي شك حول قانونية هذه الممارسة أو الخروج عن التطبيع الحاصل معها.

في موازاة ذلك، استمر محامو “المفكرة” بمطالبة المحاكم بإبطال إجراءات تفتيش الهواتف المخالفة للقانون  في إطار عملها على التقاضي الاستراتيجي. إلا أن هذه الطلبات ووجهت غالباً بالإهمال أو الرفض. ومن الأمثلة على ذلك، الطلب الذي تم تقديمه في إطار قضية مواطن سوري[2] تمت محاكمته أمام القاضي المنفرد العسكري بتهمة شتم الجيش، بعدما وجدت مخابرات الجيش في هاتفه مراسلات خاصة يشتكي فيها لأصدقائه من سوء معاملته من قبل الدولة اللبنانية. رفض القاضي العسكري النظر في هذا الطلب كلياً من دون أي تعليل، علما أن عدم التعليل يشكل ممارسة يجيزها قانون القضاء العسكري ويعدّ من المؤشرات على انعدام معايير المحاكمة العادلة في المحاكمات العسكرية. وفي قضية حمام الآغا[3] حيث تم تفتيش هواتف 28 شخصاً أوقفوا بشبهة الإخلال بالآداب العامة، رفضت محكمة استئناف بيروت الناظرة في قضايا الجنح (بهيئتها السابقة) النظر في هذا الطلب في العام 2014 لاعتبارها أنه لا يشكل دفعاً شكلياً كونه لا يوجد نص قانوني صريح ينص على إبطال تفتيش الهواتف.

ولم يلقَ هذا الطلب آذان صاغية إلا في المخالفة التي سجلها القاضي ربيع معلوف على القرار الصادر عن محكمة استئناف بيروت (بهيئتها الجديدة) في 14/11/2018 في قضية الشبّان الثلاث. وكان قد حكم القاضي المنفرد الجزائي في بيروت على هؤلاء بالغرامة لإقامة علاقات جنسية “على خلاف الطبيعة” (المادة 534 من قانون العقوبات) بناء على محادثات خاصة وجدها المحققون في هواتفهم دون الحصول على إذن قضائي. وفي حين اكتفت محكمة الاستئناف بإبطال التعقبات بحق الشبان لعدم توفر الركن المادي للجريمة بمعزل عن قانونية الأدلة، ذهب المستشار معلوف أبعد من ذلك واعتبر أنه كان يتوجب (فضلاً عن عدم تجريم العلاقات المثلية) إبطال مجمل التحقيقات الأولية بسبب المخالفات التي تضمنتها، وبشكل خاص انتزاع إفادة أحد الشبان تحت التعذيب وتفتيش هاتفه دون الحصول على إذن من قاضي التحقيق.

مخالفة القاضي معلوف: درس في تفسير القانون لحماية الحقوق الدستورية

على خلاف المواقف القضائية التي أوردناها أعلاه، لم يتردّد القاضي معلوف عن الاجتهاد أمام صمت القانون حول الأصول التي ترعى تفتيش الهواتف، بل قدّم تفسيراً للقوانين يسمح بملء الفراغ التشريعي من أجل حماية الحق بالخصوصية وحقوق المشتبه فيهم خلال التحقيقات الجزائية. فقدّم مجدداً[4] نموذجاً للوظيفة القضائية التي تَفهم وتُفسّر وتُطبّق القانون على نحو يوازن بين مقتضيات العدالة الجزائية والحقوق الفردية الأساسية. أكّد القاضي معلوف أنه يجب إبطال تفتيش الهواتف الذي قامت به الضابطة العدلية من دون إذن مسبق من قاضي التحقيق، وتالياً أنه لا يجوز استخدام المعلومات المستخرجة من الهاتف من أجل إدانة المدعى عليهم. وللوصول إلى هذه النتيجة، قدّم القاضي تفسيراً للقوانين اللبنانية على ثلاث مراحل:

1- تفتيش الهواتف يشكل مساً بحق دستوري

بدأ القاضي معلوف بالتأكيد على أن حق الانسان بحماية حياته الخاصة وخصوصية مراسلته هو من الحقوق الأساسية المحمية دستوريا وفي المواثيق الدولية،[5] وأن المشترع اللبناني جسد هذه الحماية عبر وضع شروط قانونية توفر ضمانات أساسية لخصوصية المراسلات ضمن الموازنة ما بين احترام هذه الخصوصية والحفاظ على النظام العام. بالفعل، يمنع هذا الحق الدستوري التدخل التعسفي في الحياة الخاصة والمراسلات. وهو ما أكد عليه المجلس الدستوري[6] في معرض مراجعته للقانون رقم 140/1999 المتعلق بصون الحق بسرية المخابرات حيث اعتبر أن الاطلاع على المراسلات يشكل تعرضاّ للحرية الفردية وتدخلاً في الحياة الخاصة المحمية دستورياً[7]. فضلا عن أن التشريع والاجتهاد اللبنانيان يقرّان بمبدأ سرية المراسلات كمبدأ قانوني عام.

ويستتبع هذه الخلاصة أن أي تعرّض لهذا الحق (مثل تفتيش الهواتف) يخضع لنظام قانوني يتضمن عدداً من الضمانات، وذلك استناداً إلى المبادئ القانونية العامة التي تنظم القيود على الحقوق والحريات الدستورية. ومن أهم هذه الضمانات أن يكون التعرّض منصوصاً عليه صراحة في القانون، وألا يتم إلا في حالة الضرورة ومن دون تجاوز مبدأ التناسب بين خطورة التعرّض وأهمية الغاية المراد تحقيقها من خلاله.

2- تفتيش الهواتف يخضع لضمانات قانون سرية المخابرات

تبعاً لذلك، رأى القاضي معلوف أن إجراء تفتيش الهواتف يخضع للضمانات التي وضعها المشرّع اللبناني في القانون رقم 140/1999[8] المتعلق بصون سرية المخابرات، معتبراً أن هذه الشروط تمنع التجاوزات خلال التحقيقات الجزائية وتضمن التوازن بين احترام الخصوصية والحفاظ على النظام العام. وبهذا يكون حسم موقفه حول وجوب تطبيق أصول تفتيش المراسلات على تفتيش الهواتف، أسوة باجتهادات دول أخرى وضعت ضوابط قضائية في هذا الخصوص، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية (رايلي ضد كاليفورنيا[9]، 2014).

هذا القانون يؤكّد على مبدأ سرية المراسلات وينظّم آلية اعتراضها والاطلاع عليها بشكل صارم، وذلك لأن “التعرض لهذا الحق يشكل استثناء لهذه القاعدة ولا يجوز أن يتم إلا وفقا لأصول واضحة وفي حالات محددة ينص عليها القانون”. ويتضمن القانون آليتين مختلفتين لاعتراض المخابرات: الأولى بموجب قرار قضائي في إطار التحقيقات الجزائية (وهو ما سنفصله أدناه)، والثانية بموجب قرار إداري صادر عن وزيري الدفاع والداخلية بموافقة مجلس الوزراء بهدف جمع المعلومات عن الجرائم الخطيرة، وهي الآلية المستخدمة من أجل منح الأجهزة الأمنية داتا الاتصالات.

والشروط الأساسية التي فرضها هذا القانون على القرار القضائي باعتراض المخابرات والتي يجب أن يخضع لها أيضاً قرار الاطلاع على محتوى الهواتف، هي الآتية:

  • أن المرجع لاتخاذ القرار هو قاضي التحقيق، وهذا ما تؤكد عليه أيضاً المادة 102 من أصول المحاكمات الجزائية التي تحصر إمكانية الاطلاع على البرقيات والرسائل بقاضي التحقيق وحده. ويستتبع ذلك أمران: الأوّل أن تفتيش الهواتف يتطلب إذناً قضائياً ولا يدخل ضمن صلاحيات الضابطة العدلية التي لها صلاحية تفتيش الأشخاص في بعض الحالات المحددة[10]. والثاني، أن الجهة القضائية التي يحق لها الاطلاع على محتوى الهواتف ليست النيابة العامة، التي هي خصم في الدعوى الجزائية وتخضع للهرمية والتسلسلية، بل قضاة التحقيق الذين يتمتعون بضمانات الاستقلالية والحيادية.
  • أن القرار محصور في حالات الضرورة القصوى، بمعنى أنه على قاضي التحقيق التثبت من وجود ضرورة تتعلق بحماية النظام العام أو غايات التحقيق من أجل اتخاذ قراراً بالاطلاع على محتوى هواتف المشتبه فيهم.
  • أن القرار محصور في سياق ملاحقة جرم يعاقب عليه القانون بالحرمان من الحرية لمدة لا تقل عن سنة، أي أن تكون الجريمة التي يتم التحقيق بها بدرجة من الخطورة لتبرير التعرّض للحياة الخاصة.
  • أن القرار يجب أن يكون خطياً ومعللاً، وهو شرط شكلي يضمن الالتزام بجميع الشروط المذكورة أعلاه. فشرط التعليل الخطي لأسباب تفتيش الهواتف هو أمر ضروري للحد من التعرّض للحياة الخاصة كونه شكلاً من أشكال الرقابة الذاتية للقضاة وضمانة لاستخدام التفتيش كتدبير استثنائي في حالات الضرورة القصوى فقط.

3- إبطال تفتيش الهواتف المخالف للأصول يجوز قانوناً

بعد تثبته من عدم احترام الضابطة العدلية للأصول القانونية الواجب اتباعها عندما اطلعوا على محتوى الهاتف في هذه القضية، رأى القاضي معلوف أنه يقتضي “إبطال كافة التحقيقات الأولية المرتكزة على المعلومات الواردة على هاتف المستأنف”، أي أنه لا يمكن الاستناد إلى الأدلة المستخرجة من الهاتف كدليل ضد المدعى عليهم. لم يتوقف القاضي معلوف أمام غياب النص القانوني الصريح الذي يسمح بالإبطال، واعتبر أنه يجوز الحكم ببطلان إجراء تفتيش الهواتف استناداً إلى سندين قانونيين منفصلين:

الأوّل، هو مخالفة صيغة جوهرية طالما أن إجراء تفتيش الهواتف في هذه القضية يخالف شرطاً جوهرياً (أي ضمانات قانون سرية المخابرات) “يضمن حماية خصوصية الأفراد المصانة دستورياً من أي تعسف خلال مرحلة التحقيق”. وأهمية هذا الموقف أنه يأتي على خلاف الموقف الذي اتخذته محكمة استئناف بيروت في العام 2014 في قضية حمام الآغا حين رفضت إبطال تفتيش الهواتف لعدم وجود نص قانوني يسمح بذلك. بالفعل، في حين توقفت المحكمة أمام قاعدة “لا بطلان من دون نص” (البطلان النصي)، لجأ القاضي معلوف إلى نوع آخر من البطلان (البطلان الجوهري) الذي يسمح بإبطال الإجراء في حال مخالفته لأصول جوهرية، وهي في هذه الحالة إغفال الضمانات القانونية لحماية الحق الدستوري بحماية الحياة الخاصة.

والثاني، هو القياس على النص القانوني المتعلّق بتفتيش المنازل: لم يكتفِ القاضي معلوف بالاستناد إلى البطلان الجوهري من أجل إبطال تفتيش الهواتف، بل دعم موقفه بنص قانوني يجيز البطلان في حالات مماثلة. فبدا وكأنه يستبق الانتقادات الممكنة لتجاوزه قاعدة “لا بطلان دون نص”. واعتبر أنه يجوز الحكم ببطلان إجراء تفتيش الهواتف قياساً (par analogie) على حالة البطلان المنصوص عليها في المادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية المتعلقة بإبطال إجراءات تفتيش الأشخاص أو المنازل. والقياس هي وسيلة لتفسير القانون تسمح بتطبيق قاعدة قانونية تتعلق بحالة معيّنة (تفتيش المنازل) على حالة أخرى مماثلة (تفتيش الهواتف). وبما أن المشترع أكّد صراحة على إبطال تفتيش الأشخاص والمنازل في حال لم تستحصل الضابطة العدلية على إذن من النيابة العامة، فإنه يستنتج قياساً أنه يجوز إبطال تفتيشها للهواتف في حال لم تستحصل على إذن من المرجع القضائي المختص الذي هو قاضي التحقيق وفقاً لقانون سرية المخابرات. ونشير إلى إمكانية القياس أيضاً على المادة 105 من أصول المحاكمات الجزائية التي تنص على إبطال إجراءات التفتيش التي يقوم بها قاضي التحقيق خلافاً للأصول.

إذن أوضح القاضي معلوف الضوابط القانونية لممارسات تفتيش الهواتف، وهي خطوة تبني على جهود “المفكرة” في معركة الدفاع عن الحقوق في نظام العدالة الجزائية. وإلى حين إرساء هذه القاعدة في قرارات قضائية أخرى، يبقى على المشتبه فيهم والمحامين المدافعين عنهم رفض تجاوز هذه الضوابط لدى تفتيش الهواتف في إطار التحقيقات الجزائية. فالحقوق لا تُمنح بل تُكتسب بعد معارك طويلة الأمد، تشكل مخالفة القاضي معلوف إحدى أبرز محطاتها.

  • مقالات ذات صلة:

استئناف بيروت ترفض معاقبة المثلية خارج حالات الجرم المشهود: ومخالفة بمثابة درس بليغ في أصول التحقيقات الجزائية

  • نشر هذا المقال في العدد | 59 |  نيسان 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

 لمن القانون في لبنان؟


[1]  المادة 224 من القانون رقم 17/1990 تنظيم قوى الامن الداخلي

[2]  القاضي العسكري يعاقب مدنيا سوريا بجرم من دون نص: أداة لمعاقبة كل ما يغيظنا. المفكرة القانونية، 9 حزيران 2015

[3]  غيدة فرنجية. المخالفات القانونية في قضية حمام الآغا: ملاحقة جماعية تنتهك حقوق الأفراد. المفكرة القانونية، 2 أيلول 2014

[4]  المفكرة القانونية وجمعية حلم. محكمة المتن تعلن مجدداً: “المثلية هي ممارسة لحق طبيعي وليست جريمة جزائية”. المفكرة القانونية، 26 كانون الثاني 2017

[5]  الحق بحماية الحياة الخاصة هو من الحقوق والحريات الأساسية المصونة دستورياً بموجب المادة 12 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واللتين تمنعان التدخل التعسفي في الحياة الخاصة والمراسلات

[7]  قرار المجلس الدستوري رقم 2/99 تاريخ 24/11/1999

[10]  حصرت المادة 216 من القانون رقم 17/1990 حق قوى الامن الداخلي بتفتيش الأشخاص والاشياء التي ينقلوها بهدف “التثبت مما إذا كانوا ينقلون مواد يحظر القانون نقلها”. كما حصرت المادة 171 من قانون المخدرات رقم 673/1998 إمكانية الضابطة العدلية بتفتيش الأشخاص وامتعتهم عند الحدود وفي الأماكن العامة بهدف كشف جرائم المخدرات.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مجلة لبنان ، لبنان ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني