أول انتصار للقضاة منذ 1982: مدخل هام لبناء القضاء المستقلّ والدولة


2018-03-30    |   

أول انتصار للقضاة منذ 1982: مدخل هام لبناء القضاء المستقلّ والدولة

سبعة أشهر فصلت بين نهاية اعتكاف القضاة في صيف 2017 ونهاية اعتكافهم في آذار 2018. ولكن شتان بين هاتين النهايتين:

ففيما انتهى الاعتكاف الأول الذي استمر زهاء أربعين يوما، بقرار أحادي من مجلس القضاء الأعلى تحت وطأة الضغط السياسي الحاد ومن دون تحقيق أي مكسب عملي، فإن الاعتكاف الثاني انتهى بمجموعة من الانتصارات المعنوية والمادية، بما يعلمنا كثيرا حول الآفاق المفتوحة أمام القضاة والقوى الاجتماعية الديمقراطية الهادفة لتحقيق القضاء المستقل. وما كانت هذه النهاية السعيدة على الأرجح لتتحقق لو لم يتعلم القضاة من إخفاقاتهم السابقة في اتجاه تطوير أدوات عملهم وأدائهم، وبخاصة لجهة علاقتهم مع الهرمية القضائية. وللتذكير، وبخلاف اعتكاف صيف 2017 الذي بدأ وانتهى بقرار من مجلس القضاء الأعلى، باشر القضاة من تلقاء أنفسهم اعتكاف آذار 2018 بمخالفة لتوجهات مجلس القضاء الأعلى، ولوّحوا منذ اليوم الأول منه بإنشاء نادٍ يمكنهم من الخروج من حال الإستفراد والعزلة. وإذ بدوا من خلال ذلك وكأنهم يستعيدون زمام أمرهم وسلطة القرار، انتهى مجلس القضاء الأعلى فعليا للرضوخ لهم. وقد تبدّى من خلال ذلك كأنما استعادة الاستقلالية الخارجية إزاء السلطات السياسية تبدأ بالضرورة من خلال التضامن بين القضاة والأهم استعادة الاستقلالية الداخلية إزاء السلطات القضائية.   

وكما عمدنا إلى إجراء جردة عما جناه القضاة في صيف 2017، ثمة ضرورة من باب أولى لإجراء جردة لانتصارات آذار 2018 لما تحمله من دروس وتحفيز.

 

الانتصارات المعنوية والمادية التي تحققت

بتاريخ 29 آذار 2018، انتهى المجلس النيابي إلى إدخال تعديلات على قانون الموازنة العامة 2018، مؤداها الحفاظ على موارد صندوق تعاضد القضاة وتقديماته من دون تعديل وكسب درجات ثلاث. وقد شكل هذا التعديل انتصارا قد يكون الأول من نوعه لحراك قضائي في مواجهة السلطات السياسية منذ 1982 حين كسب القضاة إنشاء صندوق لتعاضد القضاة.

ولكن أهم من هذا المكسب العملي المباشر، ثمة مكاسب أخرى لا تقل أهمية وهي الآتية:

  • أن القضاة نجحوا في تطوير أواصر التضامن والتعاون فيما بينهم للدفاع عن المصالح المشتركة. وقد تجلى ذلك في استمرار زخم تواصلهم على مجموعتي الواتساب المنشأ منذ آذار 2017، ولكن بشكل أساسي من خلال توقيع عشرات القضاة خطيا ومن ثم الكترونيا على مبدأ إنشاء ناد للقضاة، بما يشكل خطوة هائلة إلى الأمام على هذا الصعيد. ويذكر أن أول الدعوات لإنشاء جمعية للقضاة بادر إليها القاضي سهيل عبود في محاضرة ألقاها في تموز 2006. وهذه الدعوة هي بالواقع إعادة إحياء لفكرة بادر إليها قضاة لبنانيون من خامة عبد الباسط غندور ونسيب طربيه في 1969 من خلال إنشاء جمعية "حلقة الدراسات القضائية" التي لم يتسن لها أن تصمد طويلا في مواجهة السلطات السياسية.      
  • أن القضاة نجحوا في استعادة سيادة قرارهم واستقلالهم الداخلي تجاه الهرمية القضائية. ففيما دعا رئيس المجلس قضاة بيروت والبقاع لجمعية عمومية في قاعة محكمة التمييز، فإن القضاة أصروا على مضيهم في الاعتكاف احتجاجا على مشروع قانون الموازنة العامة. وهم بذلك بدوا وكأنهم يعلنون أن القرارات المتصلة بالدفاع عن القضاء تتخذ من الجمعية العمومية للقضاة وليس من مجلس القضاء الأعلى. وقد جاء موقفهم هذا بمثابة صدىً للخيبة التي حصدوها حين تراجع مجلس القضاء الأعلى بشكل أحادي عن اعتكاف صيف 2017، من دون الرجوع إليهم. وفيما تنصل فيما بعد مجلس القضاء الأعلى من قرار الاعتكاف بحجة أن "السلطة لا تعتكف"، فإنه عاد في بيانه الشهير الصادر بتاريخ  21/3/2018 ليقر أن القضاة مستقلون لا يتبعون له إداريا بل لا يخضعون لأي رئيس. وقد ألحق ذلك ببيان آخر صدر بتاريخ 26/3/2018 دعا فيه بذاته إلى الاعتكاف.      
  • أن القضاة نجحوا في تطوير وسائل التعبير عن ذواتهم في مواجهة ما قد يرونه تعديا على القضاء. وقد تطورت هذه الوسائل في اتجاهين:

الاتجاه الأول، تضييق مفهوم موجب التحفظ الذي طالما أدى إلى إسكات القضاة وعزلهم، حتى في المراحل التي شهد فيها استقلالهم تهديدا جسيما. فعدا أنهم نجحوا في إعلان الإضراب بخلاف قرار مجلس القضاء الأعلى للمرة الثانية في تاريخ القضاء (المرة الأولى حصلت في 1982)، فإنهم هددوا بمقاطعة الانتخابات النيابية. وبذلك، بدوا وكأنهم يسعون إلى تطوير وسائل من شأنها التأثير على مصالح السلطات السياسية مباشرة. كما شهدنا تطورا في اللغة المستخدمة من القضاة أنفسهم: ففي بيان تمت مناقشته ولم يقره القضاة بشكل رسمي، لجأ بعض القضاة إلى أسلوب ساخر لإبراز التفاوت بين أوضاعهم وأوضاع عدد آخر من موظفي الدولة أو أصحاب المهن أو أعضاء السلطات العامة. فهم يعملون لساعات تتجاوز بكثير ساعات عمل أساتذة الجامعات، وهم يكسبون أقل بكثير من كتّاب العدل… والأهم أن البيان المذكور تضمن التزاما بأن يعلن القضاة عن جميع التدخلات التي تحصل معهم يوميا من قبل أصحاب السياسة ردعا وفضحا لهذه الممارسة، وأيضا دعوة لأعضاء المجلس المعينين إلى الاستقالة ليتسنى للقضاة انتخاب ممثلين عنهم وفقا لما تفرضه المعايير الدولية لاستقلال القضاء

أما الاتجاه الثاني فقد نص على تطوير التشاركية داخل القضاء. وهذا ما تحقق من خلال عقد عدد من الجمعيات العمومية للقضاة في محاكم المحافظات لمناقشة شؤونهم ولا سيما في البقاع وبيروت، على نحو يؤدي إلى سدّ ثغرة قانونية ناتجة عن انعدام أي ذكر لهذه المؤسسة في قانون تنظيم القضاء العدلي..

وبذلك، بدت هذه الأزمة بمثابة أزمة حميدة، انتهت إلى استعادة القضاة الثقة بأنفسهم وتحديدا الثقة بقدرتهم على التغيير. وهذه الثقة المستعادة تشكل بحد ذاتها مدخلا هاما جدا لبناء القضاء المستقل، الذي يصعب تحقيقه من دون مشاركة القضاة أنفسهم فيه. 

 

ماذا يعلمنا اعتكاف آذار 2018؟

قد يكون من المبكر استخلاص الدروس من هذه التجربة بالغة الأهمية. لكن ثمة درسان أساسيان:

الأول، أن استقلالية القضاة الخارجية (أي إزاء السلطات السياسية) تبدأ بالضرورة من خلال استعادة الاستقلالية الداخلية إزاء الهرمية القضائية وتحديدا مجلس القضاء الأعلى. وهذا ما تثبته مقارنة نتائج اعتكاف صيف 2017 ونتائج آذار 2018 حيث تولى القضاة زمام أمرهم مما أعطاهم زخما وقوة كبيرين في مواجهة الضغوط السياسية. 

الثاني، أن أحد المداخل الأساسية لإصلاح القضاء، وربما المدخل الأهم، يقوم على إخراج القضاة من حال الصمت والعزلة والاستفراد التي يعيشون فيها. وفيما شهد هذا الواقع تطورا لافتا مع تطور مجموعتي الواتساب، فإن إنضاج هذا التضامن وضمان استمراريته يقتضي بالضرورة إنشاء نادٍ للقضاة يكون فضاء عاما لالتقاء القضاة وتطوير وعيهم الإصلاحي والآداب القضائية ووسائل عملهم.

ومن شأن هذه الدروس أن تشكل العنوان العريض للمعارك القادمة التي يؤمل أن تستفيد من زخم الانتصار المحقق لتحقيق مزيد من الانتصارات في اتجاه بناء القضاء المستقل، في اتجاه بناء الدولة.   

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني