قراءة في اعتصام قاض احتجاجا على الحيف ضده


2013-06-17    |   

قراءة في اعتصام قاض احتجاجا على الحيف ضده

تفاجأ الرأي العام القضائي الوطني المغربي والدولي بنبأ دخول المستشار محمد عنبر، رئيس غرفة بمحكمة النقض، ونائب رئيس نادي قضاة المغرب، في اعتصام مفتوح أمام محكمة النقض، ابتداء من الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة 14 يونيو 2013، احتجاجا على ما لحقه من "حيف" من طرف وزير العدل والحريات والأعضاء الدائمين للمجلس الأعلى للقضاء.ويشكل اللجوء الى أسلوب الاعتصام على هذا الوجه سابقة في تاريخ القضاء المغربي. ومن المؤسف أن تأتي هذه الواقعة في ظل دستور حديث جاء ليبشر ببداية عهد جديد يضع حدا لمختلف أشكال الانتهاكات التي تطال الحقوق والحريات. ومن المؤسف أيضا أن تتزامن واقعة الاعتصام مع استمرار فعاليات ما يسمى بالحوار الوطني حول اصلاح منظومة العدالة والذي يبدو أنه لم يحقق أبسط أهدافه في خلق جو من الثقة بين مختلف مكونات العدالة بوجود ارادة حقيقية للإصلاح والتغيير والقطع مع كل الممارسات السابقة.
 
قضية المستشار عنبر: التمسك بحق القضاة بالتجمع
يعتبر المستشار محمد عنبر رئيس غرفة بمحكمة النقض أحد أبرز القضاة الذين لفتوا الانتباه لهم سواء داخل عمله أو من خلال مواقفه وكتاباته، حتى قبل صدور الدستور الجديد. فهو معروف بكفاءته ونزاهته وجرأته في الدفاع عن مواقفه وأفكاره. ويسجل له أنه كان أول قاض من محكمة النقض يلجأ للكتابة باسمه الحقيقي على صفحات التواصل الاجتماعي الفيس بوك مطالبا بالإصلاح، وأول قاض من محكمة النقض أسهم إلى جانب عدد من القضاة في تأسيس أول جمعية مهنية مستقلة للقضاة بالمغرب في ظل الدستور الجديد وهي نادي قضاة المغرب حيث تقدم لانتخابات أجهزتها وانتخب نائبا لرئيسها، وهو أيضا المستشار الوحيد من بين مستشاري محكمة النقض الذي شارك في الوقفة التاريخية للقضاة ببذلهم أمام هذه المحكمة في السادس من أكتوبر من سنة 2012.
ومنذ ذلك الحين وهو يلفت الانتباه بفضل أنشطته التي لم ترق كثيرا للذين ينظرون بارتياب لتزايد المد التحرري لتيار استقلال القضاء الذي يقوده نادي قضاة المغرب داخل محاكم المملكة بمختلف درجاتها، وهو مد أخذ طريقه أيضا وبخطى ثابتة نحو أروقة محكمة النقض التي ظلت ولوقت قريب تمثل قلعة محافظة في مواجهة التغيرات التي يعرفها الجسم القضائي. وقد أتى الرد سريعا من طرف المجلس الأعلى للقضاء حيث تتحرك بعض القوى "القضائية" المحافظة فأصدر المجلس في أول دورة يعقدها بعيد تأسيس نادي قضاة المغرب قرارا بتعيين المستشار محمد عنبر مسؤولا قضائيا بابتدائية أبي الجعد، رغم أنه لم يبادر أبدا إلى طلب تقلد أي مسؤولية قضائية. وقد شكل هذا القرار صدمة قوية للقضاة، خاصة لأعضاء نادي قضاة المغرب لا سيما بالنظر إلى الدلالات الصارخة التي يحملها والتي يستشف منها وجود نية مبيتة لمعاقبة المستشار محمد عنبر وبشكل خاص ابعاده عن منصبه كنائب رئيس فيه وهو منصب يفقده تلقائيا وفق النظام الداخلي للنادي في حال توليه أي مسؤولية قضائية.
فالقرار يحمل بين ثناياه عددا من الرسائل القوية أهمها أن هناك اصرارا من طرف المجلس بإبعاد أي قاض من قضاة محكمة النقض يعلن صراحة انتماءه للنادي الذي كان وإلى حدود تلك الفترة يعامل بنوع من الارتياب الذي يصل إلى حد التشكيك في خلفيات ودواعي تأسيسه. ومن هذه الزاوية، بدا القرار الصادر عن المجلس كما يقول د. المهدي شبو قرارا وإن غلف بالشرعية مفتقدا لأدنى معايير المشروعية خصوصا باستحضار الأعراف التي سبق وأن كرسها المجلس الأعلى للقضاء والتي تقتضي بأن قضاة محكمة النقض لا يدحرجون ولا ينقلون من هذه المحكمة إلى محكمة أقل درجة إلا في أحوال ضيقة وهي: المسؤولية بعد استشارتهم، أو تكليف بعض القضاة الذين لم يستأنسوا بتقنيات النقض بمهام التوثيق بمحكمة أقل درجة بعد استشارتهم أيضا، أو الانتقال لظروف عائلية بناء على رغبتهم، أو وقوع خطأ مهني جسيم يفرض دحرجة المعني بالأمر خارج محكمة النقض. ولعل خطأ المستشار محمد عنبر هو أنه ساهم في تأسيس جمعية مهنية جديدة للقضاة رغم كل التضييقات والملاحقات التي حاولت إجهاض هذه الفكرة في مهدها.
وتستمر مأساة المستشار محمد عنبر فبمجرد مبادرته بالطعن في المقرر الصادر بتنقيله من محكمة النقض إلى ابتدائية أبي الجعد يتفاجأ بصدور قرار جديد من المجلس يقضي بتعيينه نائبا للوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بالرباط. وهو ما يؤكد وجود اصرار غريب من طرف المجلس الأعلى للقضاء على تنقيله من محكمة النقض تحت أي مسمى، مما يطرح أكثر من سؤال حول جدية التبريرات التي غلفت بها القرارات الصادرة من طرف المجلس في مواجهة المستشار محمد عنبر. فكيف يمكن القول أن المصلحة القضائية اقتضت تعيينه مسؤولا قضائيا بأبي الجعد، وبعد بضعة أشهر فقط يقرر المجلس أن نفس المصلحة القضائية هي التي تقتضي تعيين نفس الشخص نائبا للوكيل العام باستئنافية الرباط، ليظهر وبوضوح أن الأمر لا يتعلق بمصلحة قضائية وإنما بمصالح اقتضت تنقيل نائب رئيس نادي قضاة المغرب من محكمة النقض لمحكمة أقل درجة،  وهو ما لا يمكن اعتباره إلا سلوكا ينم عن أقصى أشكالالتضييقومحاولة لاستعمالمؤسسةدستورية في هدر خطير لحرية الانتساب الى جمعية قضائية والذي كفلته الوثيقة الدستورية والمعايير الدولية على وجه سواء.هذا التضييق الذي يبلغ أوجه بإحالته تأديبيا على المجلس الأعلى للقضاء على أساس رفضه الالتحاق بمسؤولياته الجديدة وانتشار أنباء عن اتخاذ قرارات صادمة في حقه تراوحت حسب ما تم ترويجه في إطار الحرب النفسية التي مورست عليه ما بين العزل والإحالة على التقاعد.
 
إشارات الاعتصام المفتوح
إن أول رسالة يمكن استخلاصها من لجوء عنبر الى أسلوب احتجاجي غير مسبوق من خلال الاعتصام أن سلسلة المضايقات والملاحقات التي طالته وصلت الى درجة خطيرة وغير مسبوقة خاصة أمام ترويج أنباء عن مقررات صادرة عن المجلس قبل شهور واستمرار فرض حالة الحصار عليه بتجريده من مختلف مهامه كرئيس غرفة بمحكمة النقض.
ولا شك أن اختيار المستشار محمد عنبر الخروج إلى العلن والوقوف أمام محكمة النقض حاملا لافتة تلخص مطالبه يبقى سلوكا ينم عن دلالات عدة أهمها اختيار المكان وهو محكمة النقض كرمز للسلطة القضائية في ظل الدستور الجديد، هذه السلطة القضائية التي بدأت تولد وتنمو تدريجيا رغم محاولات البعض لإجهاضها.
ثم دلالات اختيار الظهور العلني والذي يحمل رسالة قوية مفادها أن القضاء أصبح شأنا مجتمعيا وبالتالي بات من الضروري أن يعرف المجتمع المغربي أن قضاته لا زالوا يتعرضون لأنواع من التضييقات نظرا لوجود جيوب مقاومة وعقليات ترفض التغيير. وبالرغم من أن نصوص الدستور الجديد تنص على أن القضاة يتولون حماية حقوق وحريات المواطنين، فإن ثمة العديد من الأخطار التي لا تزال تنال من حرية القضاة أنفسهم وحقوقهم خاصة أمام مجلس تغيب عنه أبسط ضمانات المحاكمة ومن بينها الحق في الطعن في المقرر الصادر عنه أمام جهة قضائية، والحق في تجريح أحد أعضائه لسبب من الأسباب، والحق في وجود عين المجتمع ممثلة في الشخصيات غير القضائية التي اعتبرها الدستور الجديد أحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة للقضاة لا سيما وأن تاريخ المتابعات أمام المجلس الأعلى للقضاء في صورته الحالية لا يدفع كثيرا للاطمئنان.
ان دخول المستشار محمد عنبر في اعتصام مفتوح مبادرة تأتي في سياق مجموعة من المبادرات المماثلة التي عرفتها مجموعة من بلدان الجوار منها على سبيل المثال الاعتصام الشهير لقضاة مصر بنادي القضاة، واعتصام جمعية القضاة التونسيين واعتصام قضاة اليمن .. وعدد من البلدان الأخرى للمطالبة باحترام ضمانات استقلال السلطة القضائية. وهي اعتصامات لم تنفك إلا بالاستجابة لمطالب القضاة المحتجين والجلوس إلى مائدة الحوار الجدي بعيدا عن المراوغات السياسية التي لا تهدف إلا لكسب مزيد من الوقت والهروب للأمام من سؤال الاصلاح الحقيقي.
واليوم تعيش الساحة القضائية المغربية بدورها حالة غليان حقيقي تصل إلى درجة الاحتقان سببها بالأساس اصرار السلطة التنفيذية على البقاء جاثمة على أنفاس القضاة ومحاولة استغلال مؤسسات دستورية لتحقيق أهداف تحركها نزعات فئوية ضيقة، وممارسات منحازة، وغياب دور حقيقي للمجلس الأعلى الذي يبدو عاجزا على النهوض بدوره الأساسي في تعزيز الضمانات التي يكفلها الدستور للقضاة، وأبسطها ضمانة تحصينهم من النقل أو العزل إلا في إطار القانون، والبت في وضعيتهم الفردية وفق معايير المساواة والتجرد.
وهي وضعية زاد من تأزمها حالة الفراغ المؤسساتي والقانوني الناتجة بالأساس عن التأخر غير المبرر في تنزيل المقتضيات الدستورية الجديدة في شكل قوانين تنظيمية، الشيء الذي يولد هوة واسعة بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون، وخير مثال على ذلك ما نص عليه الدستور الجديد من الزام القضاة بتبليغ المجلس الأعلى للسلطة القضائية عن أي محاولة لتهديد استقلاليتهم، إذ أن هذه المقتضيات تبقى وإلى حدود هذه اللحظات وبالرغم من أهميتها مجرد أحكام موقوفة التنفيذ نظرا لعدم خروج هذا المجلس الجديد لحيز الوجود واستمرار المجلس السابق في عمله وفق نفس النصوص والممارسات التي لم ولن تستوعب أبدا  وللأسف ما جاء به النص الدستوري الجديد من متغيرات وضمانات تكرس استقلالا حقيقيا وفعليا للقضاة وللسلطة القضائية . فيبقى الحل الوحيد والأوحد هو الاعتصام والتآزر والتضامن بين القضاة، ولا شك أن قضية المستشار محمد عنبر لن تنتهي في مجرد قرار سيصدره المجلس الأعلى للقضاء وإنما ستبقى قضية جيل كامل آمن بإمكانية حصول التغيير.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مقالات ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني