قضية غسان رباح وحكاية المحاسبة الضائعة: خروج مهين.. مع “حبة مسك”


2013-04-15    |   

قضية غسان رباح وحكاية المحاسبة الضائعة: خروج مهين.. مع “حبة مسك”

تبعا لواحدة من أبشع الأزمات الأخلاقية على رأس الهرم القضائي، خرج غسان رباح (رئيس غرفة في محكمة التمييز وعضو مجلس قضاء أعلى سابقا) بحكمٍ مذل، بعدما تم التصديق استئنافا على الحكم التأديبي بصرفه من العمل. وقد تمت ملاحقة رباح على خلفية ما أثاره الإعلام في هذا المجال لجهة أن الرجل سعى الى استغلال وظيفته للحصول على رشوة مالية بثلاثة ملايين دولارا أميركيا، وذلك في احدى القضايا التجارية العالقة بين الأخوين سعادة[1]. وكان عدد من القضاة نظموا عريضة لعدم الاكتفاء باستقالة القاضي المذكور (كما حصل في حالات عدة سابقة) بل محاكمته مع كل من يحتمل تورطه معه مسلكيا وجزائيا، وتبنتها المفكرة القانونية داعية المواطنين كافة الى التوقيع عليها، في مبادرة شكلت الملتقى المطلبي الأول من نوعه بين المنظمات المدنية والقضاة. وما أسهم في الملاحقة أيضا، اصرار احدى مستشارتي الغرفة التي يرأسها رباح على ملاحقته في ظل أنباء أنه طلب رفع قيمة الرشوة لتمكينه من ارضاء هاتين المستشارتين، فضلا عن الموقف المتميز لوزير العدل في هذا المجال. وفي هذا الاطار، تمت احالة رباح الى المجلس التأديبي الابتدائي (مؤلفا من القضاة سهير الحركة وسهيل عبود وأيمن عويدات) الذي انتهى الى فصله من العمل في قرار صدر في منتصف 2012، وهو القرار الذي تمت المصادقة عليه في آذار 2013 من قبل الهيئة التأديبية العليا. وفيما يجيز القانون الاعلان عن قرار الفصل، فان حيثيات الحكم تبقى رغم أهميتها البالغة للأسف سرية. وما زاد من أهمية الحكم الصادر بحق رباح، هو أن المجلس التأديبي الابتدائي أصدر، في السنة نفسها، حكمين بفصل قاضيين آخرين على خلفية تزوير محاضر ورشوة، مما جعله المجلس التأديبي الأكثر فاعلية، أقله في فترة ما بعد الحرب، وقد شكل الأمر سابقة تبشر ببدء المحاسبة داخل القضاء. وهذا ما بدا في خطاب وزير العدل عامل تفاخر دائم. الا أنه ودون التقليل من أهمية ذلك، فان هذا الحكم بما رافقه من معطيات وظروف يستدعي الملاحظات الآتية:  
 
أولا، أن القرار نص على عقوبة الفصل عن العمل، وهي عقوبة تأديبية أقل قسوة من عقوبة العزل، بحيث أن عزل القاضي وحده يؤدي الى تجريده من حقه بالحصول على تعويض نهاية الخدمة. وتاليا، يبقى من حق رباح رغم صدور هذا الحكم التمتع بهذا التعويض كاملا الذي يقارب نصف مليون دولارا أميركيا. وهذا أمر يقلل بشكل كبير من عدالة القرار الذي وان خطا خطوة هامة في طريق المحاسبة، فانه يبقى متراجعا بالنسبة الى خطورة الرشوة المعزوة الى المحكوم عليه. فأن تدخل هذه الأفعال بداهة ضمن فئة الأفعال الأكثر خطورة التي قد يرتكبها قاض، يحتم منطقيا الحكم بأقسى عقوبة يتيحها القانون في ملاحقة مماثلة عملا بمبدأ التناسب؛ أما أن تقرر عقوبة أدنى، فذلك يشكل سابقة خطيرة قد تحول دون تطبيق العزل في مجمل قضايا رشوة القضاة  ومن باب أولى في حال كانت الأفعال المنسوبة الى القاضي أقل خطورة. وما يزيد هذه العقوبة قابلية للنقد هو أن رباح أساء ليس فقط الى منصبه كقاض وكرئيس غرفة في محكمة التمييز، انما أيضا الى مجمل المناصب العليا التي كان يشغلها عند ارتكاب تلك الأفعال وأبرزها عضويته في مجلس القضاء الأعلى وعضويته في الهيئة التأديبية العليا، هذا دون الحديث عن نشاطاته الاجتماعية المتعددة في مجالات الطفل وحقوق الانسان هنا وهنالك. كما تجدر الاشارة في الاتجاه نفسه أن المذكور لم يقر أبدا بفعلته ولم يعبر قط عن ندمه بل هو مستمر في ادعاء البراءة وتمجيد الذات عبر تشبيه نفسه بدرايفوس لبنان[2]، هذا فضلا عن أنه هدد عند بدء ملاحقته بتسييس المسألة في استحضار واضح لدرع التطييف. ثم، ما هي قوة الردع لعقوبة مماثلة بالنسبة الى قاض يرتشي على أبواب سن التقاعد، بحيث تظهر الرشوات المقبوضة وكأنها "حبة مسك مشروعة" تضاف الى تعويض التقاعد، حبة مسك قد تبلغ أضعاف هذا التعويض على قدّ التوفيق والشطارة.    
 
ثانيا، أن القرار مسلكي محض، على الرغم من أن الأفعال التي تناولها الحكم تشكل جرائم جزائية (صرف نفوذ، رشوة، تدخل في القضاء..) وتستدعي اذا عقوبات جزائية قد تصل الى حد الحرمان من الحرية فضلا عن مصادرة الرشوة في حال قبضها والحكم بغرامات باهظة ردعا لميول الجشع التي تميز أفعالا مماثلة، فيما لا توفر الوزارة أي معلومات حول وجود دعاوى جزائية مماثلة أو المرحلة التي وصلت اليها هذه الدعاوى في حال وجودها. ومن هذه الجهة، لا تبقى المحاسبة منقوصة بشأن رباح وحسب، ولكن أخطر من ذلك، فانها تبقي الأشخاص الذين سعوا الى رشوته أو التأثير عليه بطريقة أو بأخرى، مباشرة أو غير مباشرة، وهم على الأرجح من أصحاب النفوذ والثروات الكبرى، بمنأى عن أي ملاحقة؛ فيسوغ لهم تكرار محاولاتهم وأساليبهم من دون أي رادع. وخطورة هذا التلكؤ انما تكمن في أمور ثلاثة: أولا، استمرار ثقافة التدخل في أعمال القضاء مع ابقاء النصوص التي تجرم هذا التدخل نائمة؛ ثانيا، ابقاء القاضي وحيدا أمام الضغوط والتأثيرات التي تمارس عليه فلا يقدر على جبهها الا بما لديه من مناعة أو قدرات خاصة؛ ثالثا، وهذا هو الأمر الأخطر، ابقاء القاضي اللاعب الأضعف في المعادلة، وكأنه المسؤول الوحيد عن عمليات الرشوة والارتشاء، مما قد يجعله رهنا لارادة من نجح في توريطه بقبول الرشوة أو المطالبة، ويزيد تاليا من مخاطر استمراره في العمل القضائي، بعدما باتت الحرية والتوبة أمرين مستحيلين.
 
ثالثا، أن هيئة التأديب العليا اكتفت بتصديق الحكم الصادر بحق رباح، فيما أنها لم تنظر بعد في استئناف القاضيين الآخرين المفصولين عن القضاء ويخشى تاليا أن تتوقف المحاسبة التأديبية عند رباح دون سواه، ولا سيما أن أحد القاضيين المفصولين معروف بقربه من أحد المراجع السياسية. وما يزيد الأمر مدعاة للقلق هو البيان الذي نشرته احدى الصحف والذي جاء فيه أن ثمة مؤامرة تحاك لصرف قضاة جنوبيين في اشارة الى القاضيين المصروفين، ويستشف من البيان استحضار واضح للطائفية، تماما كما نستشف من بعض تصريحات رباح عند بدء ملاحقته[3]. وما يزيد الأمر مدعاة للقلق هو أن اثنين من رؤساء غرف التمييز تم الحاقهما بوزارة العدل على خلفية معلومات بقيت في اطار الشائعات حول ارتكابهما مخالفات عدة، فكان أن استمرا لسنوات (منذ 2010) بقبض راتبيهما مع زيادة 20% هي بمثابة تعويض للقضاة الملحقين بوزارة العدل من دون أن يقوما بأي عمل فعلي، ومن دون أن تنشأ ضدهما أي ملاحقة من أي نوع كان. ومن هذه الزاوية، بدت الشائعة بالقيام بمخالفة مسلكية بالنسبة اليهما وكأنها مصدر خير (زيادة في الراتب) وراحة (اجازة دائمة ولو مقنعة) بدل أن تكون سببا للتحقيق والملاحقة وربما في حال صحتها لانزال عقوبات مسلكية وجزائية بحقهما.
 
هذه هي أبرز الملاحظات بشأن صرف رباح الذي حصل في زمن وزير سعى ما قدر، وفق مؤشرات عدة، الى اعمال المحاسبة. فكانت النتيجة ما كانت. وهو أمر انما يدل على مدى تجذر المشكلة، التي تتخطى بالتأكيد شخص الوزير أو مدى التزامه باصلاح القضاء أو حتى مدى التزام القيمين على أجهزة التفتيش أو التأديب بذلك. ولعل الاصلاح يبقى مستحيلا ما لم يقتنع المعنيون بأن المحاسبة تبدأ ليس بتخويف القضاة أو بتقويمهم في ظل نظام فاسد انما بالدرجة الأولى بتحسيس القضاة بانتمائهم الى جسم متضامن ذات أخلاقيات معينة، الى جسم يحرص كل من أعضائه، بما له من احترام لذاته، على محاسبة كل من ينتهك هذه الأخلاقيات.


[1]محمد نزال، الأخبار 16-2-2012.
[2] رضوان مرتضى، الأخبار، 3 نيسان 2013.
[3] الأخبار، 2-10-2012.
انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني