ثلاثة مشاهد لاعتداء سلطات الدولة المصرية على الدستور


2016-10-14    |   

ثلاثة مشاهد لاعتداء سلطات الدولة المصرية على الدستور

أصدرت يوم الخميس 29/9/2016 محكمة القاهرة للأمور المستعجلة حكمها، بوقف تنفيذ حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية وما ترتب عليها من نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة. وجاء حكم الأمور المستعجلة مخالفا لكافة التوقعات، حيث خالفت المحكمة النص الصريح للمادة 190 من الدستور والتي قررت أن مجلس الدولة يختص دون غيره بالفصل في المنازعات الإدارية، ومنازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه. وفي الواقع، ما قامت به المحكمة من اعتداء على اختصاص مقرّر لمجلس الدولة طبقا لنص دستوري صريح وقاطع الدلالة، يثير مسائل أكثر خطورة من المسألة التي تناولها والتي هي قضية صحة تنازل الحكومة عن الجزيرتين، لجهة مدى التزام مؤسسات الدولة بالدستور.
جاء دستور مصر المصري وتعديلاته المعمول بها منذ يناير/كانون الثاني 2014 معبرا بشكل كبير عن طموحات ونضالات المصريين التي استمرت على مدى 4 عقود هي عمر دستور 1971، ولم يتوقف ذلك عند الضوابط التي وضعها الدستور للحفاظ على مقدرات الوطن و كرامة مواطنيه (في البابين الثاني والثالث)[1]، لكنه امتد ليشمل تنظيم العلاقة بين السلطات لاسيما القضائية والتشريعية فيما يتعلق بتنفيذ أحكام بطلان العضوية، التي تصدر من محكمة النقض ولم ينفذ البرلمان أيا منها، مستنداً على نصوص معيبة كانت موجودة بدستور 1971. وهو ما عمل المشرع الدستوري على تلافيه، فنص صراحة على مجموعة الحقوق الأساسية بهدف تحصينها دستوريا لعدم تغوّل أيّ من السلطتين التشريعية والتنفيذية عليها، وسمح للسلطة القضائية أن تعمل رقابتها الممنوحة لها بنص الدستور على سلطتي التشريع والحكم.
هنا، نختار مشاهد من شأنها أن تعطي صورة واضحة لتعامل السلطات الثلاث مع أحكام الدستور، ومدى احترامها لأحكامه والمبادئ التي قررها.

المشهد الأول: مخالفة نسب الانفاق الحكومي على الصحة والتعليم بالموازنة العامة للدولة
جاء الباب الثاني من الدستور مترجما لشعارات الثورة المصرية المنادية بالعدالة الاجتماعية. فوضع حداً أدنى للإنفاق على كلا من الصحة والتعليم، بنسبة محددة من الناتج القومي، فألزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي.[2] وألزمها بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم _قبل الجامعي_ لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي[3]، يضاف إليها ما لا يقل عن 2% من الناتج القومي الإجمالي مخصصة للتعليم الجامعي[4]. وقد نص الدستور على أن تتصاعد هذه النسب الثلاث تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية.
ونصّ الدستور على أن تضمن الدولة تنفيذ التزامها بتخصيص الحد الأدنى لمعدلات الإنفاق الحكومي تدريجياً اعتباراً من تاريخ العمل به، على أن تلتزم به كاملاً في موازنة الدولة للسنة المالية 2016/2017 [5]
وهي النسب التي لم تلتزم الحكومة بتحققها عند وضع الموازنة العامة للدولة. فوفقا لتقرير أعدته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية[6]، فإن مشروع الموازنة العامة للعام المالي 2016/ـ2017 تجاهل الاستحقاقات الدستورية المتعلقة بتخصيص حدّ أدنى للإنفاق على التعليم والصحة وذلك من واقع تحليل البيانات التي جاءت في الوثائق التي قدمتها الحكومة إلى مجلس النواب للعام المالي المذكور. فقد وجهت الحكومة للإنفاق على الصحة 49.8 مليار جنيه، وهو ما يقل عن %2 من الناتج المحلي المتوقع خلال نفس العام المالي. كما وجهت للإنفاق على التعليم والتعليم العالي 104 مليار جنيه، أي بالكاد 4% من الناتج الإجمالي المتوقع في نفس العام المالي بدلًا من 6٪ وفقًا للاستحقاق الدستوري.
وقد تمّ التحايل على هذا الأمر، حين تمّ سدّ العجز عبر إضافة المخصصات المالية لمستشفيات الشرطة والجيش والأزهر والتأمين الصحي والسكة الحديد ومصر للطيران، والمصل واللقاح وغيرها من المستشفيات التابعة لهيئات حكومية، إلى مخصصات الصحة. ومحلّ التحايل هو أن موازنة هذه المستشفيات تخرج عن الموازنة العامة للدولة على أساس أنها ملك للهيئات التابعة لها والتي أنشئ كلا منها بقانون مستقل. وجدير بالذكر أن هذا التحايل تم اقتراحه من قبل لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان، لتكون السابقة الأولى التي يساهم فيها البرلمان في تحرير الحكومة من التزاماتها الدستورية.

المشهد الثاني: تعامل البرلمان مع حكم محكمة النقض ببطلان عضوية أحد اعضائه
في ظل العمل بدستور 1971، كان مجلس الشعب هو الجهة الوحيدة صاحبة الاختصاص بالفصل في مدى صحة عضوية أعضائه. فقد نصت المادة 93 منه على أن "يختص المجلس بالفصل في صحة عضوية أعضائه. وتختص محكمة النقض بالتحقيق في صحة الطعون، على أن تعرض نتيجة التحقيق والرأي الذي انتهت إليه المحكمة على المجلس". وقررت المادة عدم اعتبار العضوية باطلة إلا بقرار يصدر بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس، وهو ما أطلق عليه بعد ذلك العبارة الشهيرة بان "المجلس "سيد قراره". وبناء علي هذه المادة، استمرّ العديد من أعضاء المجلس في مناصبهم على الرغم من انتهاء محكمة النقض لبطلان عضويتهم. وهو ما فطن اليه المشرع الدستوري في الدستور الحالي فنص في المادة 107 على أن تختص محكمة النقض بالفصل في صحة عضوية أعضاء مجلس النواب، وفي حالة الحكم ببطلان العضوية، تبطل من تاريخ إبلاغ المجلس بالحكم.
وهي المادة التي ضرب بها البرلمان الحالي عرض الحائط. ففي 20 يوليو 2016، صدر حكم من محكمة النقض[7]، ببطلان عضوية النائب أحمد مرتضي منصور وتصعيد النائب عمرو الشوبكي بدلا منه. وهو الحكم الذي لم ينفذ حتى الان، دون وجود أي مانع قانوني. جلّ ما يحصل هو إصرار أعضاء المجلس ورئيسه على مخالفة الدستور عنوة.

المشهد الثالث: تصدي محكمة الأمور المستعجلة لإشكالات التنفيذ في أحكام القضاء الادري
نص الدستور على اختصاص مجلس الدولة دون غيره بالفصل في المنازعات الإدارية، ومنازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه. وأتى هذا النص ليكرس مبدأ استقرت عليه أحكام المحكمة الإدارية العليا، والمحكمة الدستورية، بمناسبة تصديهما لما كانت تقوم به حكومات الحزب الوطني المتعاقبة من الطعن على أحكام مجلس الدولة، أمام القضاء المدني عن طريق إقامة إشكالات في التنفيذ أمام محكمة الأمور المستعجلة. وكانت الحكومات المذكورة قد انتهجت هذا السلوك للإلتفاف على أحكام المجلس، لاسيما تلك المتعلقة بوقف إجراءات الانتخابات. وقد وصفت المحكمة الإدارية العليا هذا السلوك بتطاول على قواعد الاختصاص الولائي، وخروج على قاعدة من قواعد النظام العام. فالإدارة تكون ملزمة بتنفيذ الأحكام الصادرة بالإلغاء، فإذا اعتدت بواقعة الإشكال أو امتنعت عن تنفيذ الحكم أو عطلت تنفيذه أو تثاقلت عن ذلك، كانت شريكاً في اقتراف هذه الواقعة[8]". وأكدت المحكمة على أنه "بات مستقراً أبياً على الجدل أن جهة القضاء الإداري هي – دون غيرها – المختصة بالفصل في منازعات التنفيذ التي تتعلق بما يصدر عنها من أحكام سواء كان الهدف منها المضي في تنفيذها أو إيقافه".
وبناء على هذه الحكم وغيره من الأحكام والفتاوي الصادرة عن مجلس الدولة، جاء نص 190 من الدستور مترجما لأحكام المحكمة الإدارية العليا والمحكمة الدستورية. وتفعيلا لهذا النص، أرسل مجلس الدولة المصري اقتراحا بتعديل قانون مجلس الدولة، من ضمن هذه التعديلات اقتراح بإضافة مادة جديدة تحت رقم 50 مكرر والتي نصت على اختصاص محاكم مجلس الدولة دون غيرها بالنظر في إشكالات التنفيذ ومنازعات التنفيذ المتعلقة بالأحكام الصادرة عنها، ولا يترتب على رفع الإشكال أمام أية محكمة أخرى وقف تنفيذ الحكم، وهو التعديل الذي وافق عليه مجلس النواب بشكل نهائي في 7 أغسطس الماضي. وإذ أرسل هذا المشروع لرئاسة الجمهورية لإصداره، فإن ذلك لم يحدث حتى الآن، وذلك على الرغم من قيام رئاسة الجمهورية بإصدار عدد من القوانين التي نوقشت وتم إقرارها في وقت لاحق على هذا التعديل.
وعلى الرغم من مجمل ما تقدم على صعيد الدستور والقانون، فإن قاضي محكمة القاهرة للأمور المستعجلة، الذي قام بالنظر في إشكال تيران وصنافير، لم يجد حرجاً في التذرع بعدم وجود قانون يمنعه من نظر اشكال وقف التنفيذ علي أحد احكام مجلس الدولة، وسار على خطى السلطة التنفيذية والتشريعية، في الاعتداء على احكام الدستور.
مشاهد ثلاثة ذات دلالة على تجاهل السلطات المصرية لأحكام الدستور التي جبلتها نضالات أجيال.

 

 


[1] الباب الثاني المقومات الأساسية للمجتمع الباب الثالث الحقوق والحريات والواجبات العامة

[2]  وضع هذا الالتزام بموجب نص المادة 18 من الدستور المصري الصادر في 18 يناير 2014،

[3]  وضع هذا الالتزام بموجب نص المادة 19 من الدستور المصري الصادر في 18 يناير 2014

[4]  وضع هذا الالتزام بموجب نص المادة 21 من الدستور المصري الصادر في 18 يناير 2014

[5]  وضع هذا الاتزام بموجب نص المادة 238 من من الدستور المصري الصادر في 18 يناير 2014

[7] حيثيات حكم بطلا عضوية احمد مرتضي منصور وتصعيد عمر الشوبكي http://tinyurl.com/z5ambh8 

[8]  الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا في  الطعن رقم 4931 لسنة 57 القضائية عليا بتاريخ 25/11/2010

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، دستور وانتخابات ، مصر ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني