قضيّة هدم المرفأ الفينيقي أمام القضاء مجدداً: واجب الانتقاد دفاعاً عن الآثار


2024-05-03    |   

قضيّة هدم المرفأ الفينيقي أمام القضاء مجدداً: واجب الانتقاد دفاعاً عن الآثار

مرّ اثنا عشر عامًا على قرار وزارة الثقافة عام 2012 السماح بهدم آثار المرفأ الفينيقي لمصلحة إنشاء مشروع عقاري، والمرفأ هو أحد أهم معالم مدينة بيروت الأثريّة الذي اكتشف في العقار رقم 1398 في منطقة ميناء الحصن في بيروت. وبعد مرور كلّ هذه السنوات، لا يزال أستاذ الفنون والآثار الفينيقية والرئيس السابق لقسم الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية، البروفسور ناجي كرم، يُلاحَق قضائيًا على خلفيّة انتقاده قرار إزالة الموقع من لائحة الجرد العام التي تحمي المواقع الأثرية من الهدم وتلميحه لوجود فساد قد يؤدي إلى تغليب مشاريع التطوير العقاري على حماية الآثار. وقد استخدم كرم وسائل الإعلام كما صفحته على فيسبوك عام 2013 لكتابة منشورات تتناول فيها دور وزير الثقافة الأسبق كابي ليّون، ومسؤول الحفريّات في المديريّة العامّة للآثار أسعد سيف في تدمير الآثار، ممّا دفعهما للادعاء عليه بالقدح والذم. وكان قد  كتب في أحد منشوراته، ردًا على قرار إزالة موقع المرفأ الفينيقي عن لائحة الجرد العام: “يجب قطعًا إيقاف المجزرة، ليّون وسيف أنتما لا ترتويان أبدًا”.

وبعد انتصار كرم مرّتين أمام القضاء في دعاوى قدح وذم، ما زال يُدافع عن حقه في التعبير دفاعاً عن الآثار للمرّة الثالثة أمام القضاء، في دعوى رفعها سيف ضدّه أمام القاضية المنفردة الجزائية في بيروت ضياء مشيمش. ويوم الاثنين في 29 نيسان 2024، عقدت القاضية مشيمش جلسة لاستجواب المدعى عليه كرم حول انتقاده لسيف، كما لاستجواب المدعي سيف حول دوره في هدم الآثار، وحدّدت تاريخ 10 حزيران المقبل موعدًا للمرافعة في القضية.

دعاوى متعدّدة في وجه كرم

هذه إذًا ليست الدعوى الأولى التي يرفعها سيف ضدّ كرم، بل هي الثانيّة بعدما خسر سيف الأولى أمام محكمة التمييز الناظرة في قضايا المطبوعات في 17 كانون الأوّل 2019. وبدأ مسار الدعوى الأولى في 7 تشرين الأوّل 2013 حين ادّعى سيف على كرم أمام محكمة المطبوعات برئاسة القاضي روكس رزق التي أصدرت حكمًا في 24 أيّار 2017 بإدانة كرم بجرم المادة 22 من قانون المطبوعات (المرسوم الاشتراعي رقم 104 لعام 1977  تعديل قانون المطبوعات)، وهي المادّة التي تُعاقب “التحقير أو القدح أو الذم الذي يوجّه إلى موظف بسبب وظيفته أو صفته” بالحبس من شهر إلى ستة أشهر  أو بالغرامة”. وعليه، غرّم الحكم كرم بمبلغ 4 ملايين ليرة لبنانيّة من دون أن يحكم بأي عطل وضرر للمدّعي سيف. يومها توجّه الطرفان إلى محكمة التمييز، بصفتها المرجع الاستئنافي في قضايا المطبوعات، لاستئناف الحكم، فأصدرت محكمة التمييز حكمها في 17 كانون الأوّل 2019 الذي خلص إلى اعتبار محكمة المطبوعات غير مختصّة بالنظر في المنشورات على موقع فيسبوك وبالتالي فسخت قرار إدانة كرم. وعلى إثر ذلك، لجأ سيف إلى مرجع قضائي مختلف، فادّعى من جديد على كرم أمام القاضية المنفرد الجزائيّ في بيروت بجرائم القدح والذم والتشهير ونشر الأخبار الكاذبة.

وبالتوازي، كان وزير الثقافة السابق كابي ليّون قد سبق سيف وادّعى على كرم  أمام محكمة المطبوعات على خلفيّة مقابلة أجراها كرم على شاشة MTV تناول فيها دور ليّون في هدم المرفأ الفينيقي والمبنى الذي كان يسكنه الكاتب أمين معلوف في بدارو. وفي 4 كانون الثاني 2018 أصدرت محكمة المطبوعات برئاسة القاضي رفّول البستاني وعضوية المستشارتين هبة عبدالله وناديا جدايل، حكمًا ذهب في اتجاه مختلف عن توجّه حكم المحكمة في دعوى سيف الذي أدان كرم، إذ اعتبرت المحكمةأنّ كرم انتهج “أسلوبًا نقديًا متّسمًا بالموضوعية والمهنية والتقنية العلمية” وأنّه “لا يستقيم عدالة وقانونا إدانة من يصوّب ويدلّ على الفساد بشكل موضوعي”. وعليه قررت المحكمة إبطال التعقّبات بحق كرم، ولم يستأنف ليّون الحكم. وكانت “المفكرة القانونيّة” قد علّقت على هذا الحكم حينها باعتباره قراراً رائداً يعزز من ضمانات حرية التعبير في إطار كشف الفساد.

“القدح والذم” لمواجهة هدم المرفأ الفينيقي

نحو نصف ساعة استغرقت جلسة استجواب المدّعى عليه ناجي كرم والمدّعي أسعد سيف. وفي حين أتى الادّعاء على خلفيّة منشورات لكرم على فيسبوك تعود إلى العام 2013، إلّا أنّ الأسئلة التي طرحها وكيل كرم المحامي ميشال عازار على سيف قادت الاستجواب إلى قضيّة المرفأ الفينيقي الذي تهدّم، والذي كان السبب  ليوجّه كرم انتقادات لاذعة لسيف وليّون.

في البدايّة، استجوبت القاضية مشيمش كرم مستوضحة عن العبارات التي وردت في منشوراته التي كتبها على فيسبوك، فردّ كرم بأنّه “يتبنّى ما ورد فيها” عدا عن أنّه يعتبرها “عبارات ملائكيّة”. وأوضح كرم في ردّه على أسئلة القاضية مشيمش ووكيل سيف المحامي فادي عون، أنّه يعتبر “سيف شريك الوزير ليّون، بخاصّة أنّ هذه القرارات التي اتخذها الوزير كانت مبنيّة على قرارات وقّعها سيف بنفسه”. وتوجّه إليه المحامي عون بسؤاله حول مدى اطّلاعه على قرارات لمجلس شورى الدولة تُخالف ما ورد في منشوره، فأكدّ كرم على “وجود تقريرين صادرين عن مجلس شورى الدولة أحدهما يعتبر أنّ الآثار فريدة من نوعها”.

أمّا استجواب سيف فاتخذ بعدًا مختلفًا، إذ ركّز وكيل كرم المحامي ميشال عازار في أسئلته على دور سيف في المرحلة التي أُزيل فيها المرفأ الفينيقي عن لائحة الجرد العام ممّا أدّى إلى هدمه، كما توقف عند التناقضات في أداء سيف في حمايّة الآثار.

وكان سيف، بصفته المشرف على الحفريات والأبحاث الأثريّة، قد كتب تقريراً في 9 حزيران 2011 عند إدراج المرفأ الفينيقي على لائحة الجرد العام في عهد الوزير الأسبق سليم وردة، أورد فيه أهميّة الموقع المكتشف في منطقة ميناء الحصن في بيروت. وذكر تقرير سيف الذي اطّلعت عليه “المفكرة” أنّ الموقع المكتشف في العقار 1398 هو عبارة عن منزلقين (للسفن) فريدين وكذلك المنطقة المحيطة بهما التي تتمتع بالفرادة أيضًا. ولفت التقرير إلى أنّ “المنزلقين يتمتعان بأهميّة أثرية، علميّة، تاريخيّة وتراثية”، مضيفاً إلى أنّ “اكتشافهما في تلك المنطقة مع المعلومات التاريخية عن وجود ميناء صغير في تلك البقعة يضع الدراسات الأثريّة والطوبوغرافيّة والتاريخيّة في بيروت أمام أسئلة جديدة وإشكاليّات مهمة لا بدّ من الإجابة العلميّة عليها”. والمفارقة أنّه في تاريخ 26 حزيران 2012، وبعد إعادة تشكيل الحكومة وتعيين كابي ليّون وزيرًا للثقافة، عاد سيف ووقّع إلى جانب الوزير ليّون على قرار جديد قضى بسحب الموقع من لائحة الجرد العام. ونصّ القرار الأخير الذي حمل رقم 70 والمنشور في الجريدة الرسميّة على أنّ “أعمال التنقيب التي أجريت في العقار المذكور لا تتمتع بالرصانة والمهنية والمصداقية المطلوبة… وأنّ كامل الملف لا يحتوي على أي دليل يمكن أن يوحي بوجود منشأة مرفئية رومانية أو فينيقية، وأنّ الخنادق المحفورة في الصخر لا يُمكن أن تكون قد استعملت كمزالق للسفن كما لا يُمكن أن تكون قد استعملت لركن المراكب أو تصليحها…”.

وبالعودة إلى الاستجواب، وردًا على سؤال المحامي عازار حول التناقض بين تقرير سيف في عهد الوزير وردة وقرار الوزير ليّون الذي كان لسيف دور في كتابته،  شدّد سيف على أنّ “القرارات النهائية في الوزارة تعود إلى الوزير”، رافعًا عن نفسه أي مسؤولية تجاه هدم موقع يحمل طابعًا أثريًا لصالح مصلحة عقاريّة. وأشار سيف إلى أنّه في عهد الوزير وردة “اعتمد على تقرير صادر عن عالم الآثار هشام الصايغ بينما قرار ليّون اللاحق الصادر في 26 حزيران 2012 استند إلى دراسة للمهندس حسن بدوي صدرت في عهد الوزير ليّون أثبتت أنّ الموقع لا يحتوي على مرفأ فينيقي إنّما مقلع صخري”. وسأله عازار عمّا إذا اعترض على قرار الوزير بإزالة الموقع عن لائحة الجرد العام، فأجاب سيف “ليس من صلاحياتي اعتراض قرارات الوزير، دوري إعداد الملفات ورفعها للوزير الذي يأخذ القرارات النهائية”. وعن الوظائف التي تولّاها سيف أثناء وجوده في وزارة الثقافة أجاب، “كنت مسؤولًا عن الحفريّات في عهد الوزير وردة، وفي عهد الوزير ليّون كنت مشرفًا على الوحدات الفنيّة”. ولم يُشر سيف هنا إلى أنّ الوزير ليّون كان قد عهِد إليه ببعض صلاحيات المدير العام بقرار صدر في 28 تشرين الثاني 2011، على إثر الشغور في منصب المدير العام للمديريّة العامّة للآثار.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني