ثلاثة قضاة يتعاضدون لكشف “صرف نفوذ” في قصور العدل، وعلى الرأي العام ان يكتب التتمة…


2012-05-08    |   

ثلاثة قضاة يتعاضدون لكشف “صرف نفوذ” في قصور العدل، وعلى الرأي العام ان يكتب التتمة…

(في تعليق على حكم صادر بتاريخ 8-3-2012 عن القاضي المنفرد الجزائي في صور بلال بدر)
القضية ليست عادية: متقاض يقصد رئيس المحكمة الناظرة في قضيته (نسيب ايليا) في اواخر 2010 ويبوح له بامر يسبب له قلقا: فثمة شخصا اتصل به من تلقاء نفسه وعرفه من خلال الهاتف على شخص “واصل” (نسميه الواصل ادناه) لديه معلومات عن ملفه العالق امام المحكمة، وبمقدوره الحصول على نتائج ايجابية في هذا الشأن لقاء دفع بعض المبالغ المالية (عشرة ملايين ليرة لبنانية). رئيس المحكمة ينظم على الفور محضرا بالمعلومات التي ادلى بها الشاهد، ويحيله الى النيابة العامة التي تسارع الى التحقيق مع “الواصل” وصلة الوصل بينه وبين صاحب العلاقة، وتوقفهما معا، وهما الشخصان اللذان ادينا بموجب الحكم موضوع التعليق بمحاولة الاحتيال وصرف النفوذ فضلا عن الذم بالمحكمة. وقد كشف هذا الحكم من خلال الوقائع التي وثقها، امرين لا يقل احدهما اهمية عن الآخر: الاول، ان الحالة التي تمت ادانتها غير منعزلة انما تدخل فيها اكثر من شخص وبدت كجزء من ممارسة تصل الى حد الامتهان، والثاني، تعاضد قضاة عدة (القاضي الذي ادعى، قاضي التحقيق والقاضي المنفرد الجزائي)، كلا من موقعه، لردع هذه الممارسة بما يكشف الوجه الآخر “الحسن” من الميدالية. ولكن، اهم من الوقائع التي اسست للنتيجة التي توصل اليها الحكم، الوقائع التي تضع نقابة المحامين وهيئة التفتيش القضائي، ومعهما الرأي العام، امام مسؤولياتهم في التحرك للذهاب ابعد من الحكم، تحقيقا لنتائج قد لا تقل اهمية عنه.
وقبل المضي في عرض هذه الامور، يجدر التذكير بان ما يزيد من اهمية الحكم هو صدوره في خضم الحديث عن فضيحة قضائية اخرى، هزت قصور العدل، وهي فضيحة تمثلت في شبهة تفاوض احد كبار القضاة على تسديد رشوة بقيمة ثلاثة ملايين د.أ. والتي هي الاخرى سلكت درب التحقيق والمجلس التأديبي في اثر تقدم المستشارتين في المحكمة التي يرأسها القاضي المذكور بشكوى امام هيئة التفتيش القضائي فضلا عن العريضة التي وقعها قضاة عدة[1].
في امتهان السمسرة القضائية؟
من خلال قراءة الوقائع، يستدل بوضوح ان تصرفات المدعى عليهما (اقله الواصل) ليست منعزلة انما هي تنساق ضمن ممارسة تصل الى حد الامتهان. وخير دليل على ذلك هو ان عرض التدخل في عمل القضاء هو الذي ولد الطلب عليه، طالما ان الواصل، الذي يعمل كمدير مكتب محامية منذ 17 سنة، هو الذي بادر الى الاتصال بالمتقاضي صاحب العلاقة عارضا خدماته لقاء مبلغ مالي، ف”الدعوى تحتاج الى محاميات” حسبما ورد في اقوال هذا الاخير. كما بينت اقوال صاحب العلاقة انه قد خلط في اول اتصال هاتفي بين دعواه ودعوى اخرى، مما يؤشر على انه ينشط على اكثر من مسار: فكان اعلم صاحب العلاقة بان دعواه تتعلق بارض مشاع ثم عاد تبعا لنفي صحب العلاقة وبعد اجراء اتصالات جانبية الى تصحيح معلوماته وموافقة هذا الاخير بانها تتصل برسم. بل افدح من ذلك، ما ورد في مكان آخر من الحكم ومفاده ان محاميا متدرجا التقى صدفة في المحكمة بالواصل الذي كان بانتظار استجوابه من قبل قاضي التحقيق، فسارع الى الادلاء بشهادة عفوية مفادها ان “الواصل” طلب من اهل موقوف في احد الملفات القضائية، “مبلغا من المال بعدما اخبرهم بان هذا المبلغ سيدفع كرشوة الى قاضي التحقيق لاخلاء سبيله”، وانه “استلم من اهل الموقوف مبلغ اربعة آلاف د.أ. لقاء اخلاء السبيل، ثم عاد واستلم مبلغ ثلاثة آلاف وخمسماية د.أ. بعد ان وعدهم بصدور قرار ظني يعتبر فعل ابنهم جنحة لا جناية”، كما صرح المحامي ان هذا الشخص “الواصل” كان تمكن من التواصل مع اهل الموقوف من خلال شخص آخر. ولكن اخطر من كل ذلك، هو غزارة الاتصالات بين هذا السمسار واحد مستشاري المحكمة والذي ورد اسمه عشرات المرات في ملف الدعوى من دون ان يتم الاستماع الى اقواله في اي من مراحل التحقيق او المحاكمة: وهذا ما يخرج بوضوح من حركة الاتصالات الواردة او الصادرة من رقم هاتف “الواصل”، والتي تؤكد حصول اكثر من 11 اتصالا بين “الواصل” وهذا المستشار في الفترة التي دارت فيها المباحثات بينه وبين صاحب العلاقة.. لا بل ان ذرائع “الواصل” والتي بدت واهية حسب المحكمة وغير قابلة للتصديق، لتبرير اتصالاته به في هذه الفترة هي الاخرى اثبتت وجود نوع من الخوش بوشية مع هذا القاضي: فهما يحضران معا مجالس العزاء في عاشوراء، والقاضي يتصل به missed call فيعاود هو الاتصال به، فضلا عن ان لزوجة الواصل علاقات اجتماعية مع زوجة القاضي.. وبما لا يقل غرابة عن ذلك، هو ان المحامية التي يعمل لديها منذ 17 عاما والتي ورد اسمها هي الاخرى مرارا وتكرارا في ملف الدعوى، لم تجد ما يحول دون توكلها عنه وممارسة الدفاع عنه حتى النهاية، من دون ان تستشعر في اي لحظة اي حرج او ان عليها، هي الاخرى، ان تضع مسافة معينة بينها وبينه. وهكذا، يظهر بوضوح ان الواصل المحكوم عليه كان قد بنى الى حد ما حوله شبكة من العلاقات تسمح له بممارسة السمسرة القضائية بشيء من الامتهان.
في اصرار القضاة على معاقبة هذه الظاهرة
هنا، لا بد من التوقف عند الوجه الآخر للميدالية. فالقضية بلغت ما بلغته بفضل اصرار ثلاثة قضاة على المضي قدما في جلاء الحقيقة، وفق ما سبق بيانه. فرئيس المحكمة الذي اخذ مبادرة فورية في كتابة محضر بادلاءات صاحب العلاقة، لم يكتف بهذا الحد، بل انه ادلى بافادة امام قاضي التحقيق استلحقها بشهادة خطية بين فيها بوضوح مجمل الوقائع في علاقته مع مستشاريه بشأن الملف الذي تناولته محاولة السمسرة. فهو اعد وفق هذه الافادة مشروع قرار في الملف المذكور في 1-12-2010 وسلمه لمستشاره القاضي ن. في اليوم التالي (اي 2-12) ليقوم بدراسته. وبعد ساعات، “دخل القاضي ن. الى مكتبه وكانت بادية عليه علامات الارهاق والتعب، واعلمه بانه سيأخذ الملف ومشروع القرار الى المنزل لدراسته، كونه .. لم يكن يمقدوره التركيز وقتها، ووعده باعادة الملف يوم الثلاثاء (7-12)، ونوه بان القاضي ن. لم يحضر الملف نهار الثلاثاء كما وعد، بسبب مرض ابنته واصحابه لها للمعاينة الطبية، وانه لم يحضر الملف معه كذلك نهار الخميس الواقع في (9-12) لانه كان مريضا، على الرغم من انه حضر الى قصر العدل للتوقيع على قرار باخلاء سبيل محكوم عليه نفذ محكوميته” (المقطع مأخوذ من حيثيات الحكم). وتظهر اهمية هذه الافادة عند النظر بحركة الاتصالات الحاصل بين “الواصل” والقاضي المستشار خلال شهر كانون الاول 2012 والتي يظهر انها بوشرت في 2-12 (اي في اليوم نفسه لاستلام مشروع القرار حسب الافادة) وانتهت في 10-12 (اليوم اللاحق لافادة صاحب العلاقة بتعرضه لعرض السمسرة الحاصل في 9-12)، وان الاتصال بين المحكوم عليهما (اي السمسارين) بوشرت في 3-12 فيما ان الاتصال بين السمسارين وصاحب العلاقة بوشرت في 4-12. كما ان القاضي ايليا سجل اصراره على جلاء الحقيقة من خلال التقدم بادعاء شخصي ضد المدعى عليهما طلب فيه الحكم عليهما بمليون د.أ.
والمثابرة نفسها نجدها لدى قاضي التحقيق الذي حرص على طلب حركة الاتصالات لل”واصل” والتي بينت حجم الاتصالات الحاصلة في الفترة المذكورة بين الواصل من جهة وبين كلا من صاحب العلاقة (6 اتصالات) وصلة الوصل بينهما (8 اتصالات) والمستشار في المحكمة (11 اتصالا).
وقد تتوج السعي الى معاقبة هذا الفعل في اعمال القاضي المنفرد الجزائي بلال بدر. فقد استكمل بدر جدول الاتصالات المذكور اعلاه، بجدول آخر لحركة الاتصالات الواردة او الصادرة عن رقم السمسار الثاني (صلة الوصل). وقد اظهر 6 اتصالات مع الواصل كلها حصلت في الفترة الممتدة من 3-12  و4-12، كما اظهر 6 اتصالات بصاحب العلاقة في الفترة الممتدة من 4-12 و6-12.
واذ حاول “الواصل” تبرير كثرة اتصالاته بالقاضي المستشار خلال الفترة المذكورة، بان الارسال في بيته ينقطع مما يضطره الى معاودة الاتصال، استحصل القاضي على جدول بحركة الاتصالات الحاصلة بهذا الاخير وكلها تثبت انها حصلت من اماكن مختلفة (البص، البرج الشمالي، الشعيتية..) مما يدحض ذريعته بشكل كامل. لا بل، وازاء الذريعة بان هذه الاتصالات كانت تتم بين زوجة الواصل وزوجة القاضي (وهما صديقتان)، وازاء طلب الاستماع الى شهادة المستشار ن. نفسه، قرر القاضي الاستماع الى زوجة هذا الاخير مكلفا وكيلة المدعى عليهما بايداعه عنوانها، وهو امر لم يحصل.
ولكن، الى جانب هذا الجهد في التثبت من الوقائع، تميز الحكم بصرامته في معاقبة هذا التصرف. فبعدما ثبت الحكم توفر شروط محاولة الاحتيال، انزل في المدعى عليهما عقوبة الحبس القصوى (ثلاث سنوات) زائد غرامة، رافضا منح اي اسباب تخفيفية رغم كون الفعل بقي في اطار المحاولة. وقد علل القاضي التشدد في العقوبة باسباب عدة على راسها “خطورة الفعل الذي اقدم عليه المدعى عليهما وتأثيره المباشر وغير المباشر على تطبيق القانون والعدالة”، فضلا عن “اصرار (الواصل) على روايات ساذجة وبعيدة عن المنطق وتماديه في الانكار والذم بالسلطات القضائية، خاصة في كلامه الاخير الذي اشار فيه الى ان الدعوى عبارة عن “فيلم ركبته النيابة العامة” ما يؤشر بوضوح الى تجرؤ وتطاول لا يقيمان وزنا لا لقانون ولا لعدالة ولا لقضاء”.
وانطلاقا من ذلك، اعلن القاضي، وهو “مرتاح الضمير والوجدان”، انه ليس هنالك “ما يبرر تخفيض عقوبة المدعى عليهما، فمعهما ومع امثالهما يتوجب الحزم في تطبيق القانون”. وكان القاضي قد توسع ايضا في تفسير مفهوم جرم صرف النفوذ والذي توفرت عناصره في القضية الحاضرة تبعا لوصف المدعى عليه بانه “واصل وله معارف على مستوى عال”.
فضلا عن ذلك، لم يتردد القاضي في الحكم عليهما باقسى عقوبة نص عليها القانون بشأن الذم (سنة حبس تم ادغامها لاحقا بعقوبة محاولة الاحتيال) وبالزامهما بتسديد مبلغ مائة مليون ليرة لبنانية بالتضامن فيما بينهما للقاضي نسيب ايليا كتعويض عن العطل والضرر اللاحق به من جراء المس بسمعته وسمعة المحكمة التي يرأسها. واللافت ان الحكم وصف هذا التعويض القياسي (فقد بلغ ضعفي التعويض الذي كانت محكمة المطبوعات قد قررته سابقا لرئيس الجمهورية) بانه رمزي، على اساس ان ضرر المس بسمعة القضاء لا يقدر بثمن. وقد بدا موقف بدر من خلال ذلك منسجما مع ذاته: فبقدر ما ابدى مثابرة في جلاء الحقيقة حتى ولو اشرت الوقائع الى احتمال تورط قاض، بقدر ما ابدى وفي الآن نفسه تشبثا في الدفاع عن كرامة القضاء النزيه والتي لا تقدر بثمن.. وقد عزز ذلك من خلال احالة الملف الى النيابة العامة الاستئنافية في الجنوب لاجراء المقتضى بالنسبة لما ادلى به احد المدعى عليهما لناحية قوله ب”ان موضوع الدعوى هو فيلم تم تركيبه من قبل النيابة العامة”.
المؤسسات القضائية والرأي العام مطالبة بكتابة التتمة…
بالمقابل، وابعد من الحكم، يجدر التساؤل عن نقاط عدة: لماذا لم يصدر القرار الظني بالتدخل في القضاء انما فقط في صرف النفوذ؟ فاليس هنالك من مصلحة فائقة في التذكير بان التدخل في القضاء جريمة، بعدما بات تسفيه هذا التدخل الذي بات شائعا وشبه معلن؟ واي اجراءات اتخذت لجلاء الحقيقة بالنسبة للقاضي المستشار على ضوء حركة الاتصالات التي اثبتت وجود 11 اتصالا بينه وبين “الواصل” بدأت فور عرض مشروع القرار عليه؟ وهل تسأل المحامية عن تصرفات مدير مكتبها وعن علاقتها به وعن مدى استغلاله لمهنتها لتحقيق مآربه؟ بالطبع، لا نستبعد ان تكون هنالك اجراءات معينة قد اتخذت في هيئة التفتيش القضائي او لدى نقابة المحامين في بيروت (اقله نأمل ذلك)..
لكن تحقيقات مشابهة تبقى للاسف وفق القوانين المعمول بها تحت غطاء السرية فلا نعرف مدى جديتها.. وهي سرية لم تعد تحتمل…
ن.ص

نشر في العدد الرابع من مجلة المفكرة القانونية

 


[1] وكانت المفكرة القانونية قد اطلقت عريضة كتبها قضاة، داعية المهتمين بالشأن القضائي الى توقيعها، كما عقدت ندوة في 5-3-2012 بهذا الشأن. وقد اكدت على نشاطها في هذا الاتجاه من خلال هذا العدد الذي يحمل عنوان الندوة نفسه: “حان لنا ان ندافع عن استقلالية القضاء ونزاهته”.
انشر المقال

متوفر من خلال:

غير مصنف ، مجلة لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني