تعاطي النيابات العامة مع كشف الإعلام لرشوة قضائية في تونس: مؤشرات إيجابية لا تحجب نوازع محافظة


2019-10-09    |   

تعاطي النيابات العامة مع كشف الإعلام لرشوة قضائية في تونس: مؤشرات إيجابية لا تحجب نوازع محافظة

بتاريخ 07-10-2019، كشف الإعلامي التونسي حمزة البلومي في تدوينة نشرها على صفحة برنامج الحقائق الأربعة للفايسبوك أنه وعلى خلفية عرض تقرير يوثق بالصورة والصوت ارتشاء قاض مباشر لعمله القضائي بمحكمة استئناف صفاقس، تولت وحدة أمنية الاستماع له و للصحفي الذي سجل المادة الإعلامية “أسامة الشوالي” في مرة أولى بوصفهما شاهدين في الأبحاث التي أذن بها وكيل الجمهورية بصفاقس في الواقعة التي أماط عملهما الصحفي الاستقصائي عنها. تاليا وبعد يوم فقط، عاودت وحدات الأمن استدعاءهما لتستمع إليهما لمدة أربع ساعات كاملة، ولكن هذه المرة “كمتهمين” بتشويه القضاء[1].

لم يخفِ البلومي في تعليقه على هذه الوقائع وفي ذات التدوينة ما كان من ترحيب منه بالسماع الأول الذي عده من الأمور الطبيعية واستغرابه من الاتهام والاستنطاق الذي لا يمكن تبريره بعد اعتراف الأوساط القضائية ومنها الادعاء العامّ والمجلس الأعلى للقضاء بصحة المعطيات التي عرضها في برنامجه – حسب ما ورد في قوله -.

تبين تاليا أن النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بمنوبة التي أعلن الناطق الرسمي باسمها تعهدها بالبحث في الموضوع اعتبارا لكون مقر القناة التلفزية التي بثت التحقيق بمرجع نظرها الترابي، هي من أذنت بالسماع الثاني. وأن هدف عملها كان البحث فيما إذا كانت المادة الإعلامية مفبركة من عدمه قبل أيّ تطرق لأصل الحكاية المتمثلة في شبهة الفساد[2].

أثار خبر البحث مع الصحفيين كمشتبه بهما موجة استياء في الوسط الحقوقي والإعلامي .كما كشف النقاش العام في الوسط القضائي والذي كانت صفحات التواصل الاجتماعي فضاء له عن كون جانب هام من القضاة يتمسكون بطلب بحث جدي في شبهة الفساد ويرفضون كل تمشي من شانه أن يشوش على هذا المسار.

فرضت حدة المعارضة لاستجواب الصحفيين أن يدلي الناطق الرسمي باسم نيابة منوبة مساء يوم 08-10-2019 بتصريح إعلامي “نفى صلبه خبر توجيه أي اتهام للصحفيين وأكد أنه لا وجود أصلا لجريمة “تشويه القضاء” التي ذكر أنهما اتهما بها”. من جهته، كشف في ساعة متأخرة من ذات اليوم الصحفي البلومي “أن محاميه أعلمه أن النيابة العمومية بمنوبة قررت العدول عن الاستنطاق الذي كان سيتم له وللشوالي يوم 10-10-2019 والاكتفاء بطلب أن يحرر نائبهما تقريرا بذات التاريخ يضاف للأبحاث”[3].

تستدعي وقائع هذه القضية ملاحظتين أساسيتين:

أولا، تعايش تصورين قضائيين لدور الإعلام في فضح الفساد

كشف التعاطي القضائي مع المعطيات التي كشفها البلومي وزملاؤه عن تعايش تصورين لحماية “سمعة القضاء” وبالتالي الثقة العامة فيه.

التصور الأول برز عن النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بصفاقس وتمثل في تفاعل إيجابي مع ما كشف من فساد من خلال سرعة البحث في الوقائع وإعلام الرأي العام بتطوّرات البحث دون تأخير مع حرص ظاهر على اتخاذ الإجراءات الاحترازية التي تضمن سرعة محاكمة من يشتبه في فساده. وقد تم في سياق هذا التصور إجراء السماع الأول للصحفيين والذي كانت غايته تحقيق تعاونهما في الوصول للحقيقة. وبنتيجته، تمكنت نيابة صفاقس في ذات ليلة بث التقرير من إثبات جدية القضاء في التصدي لما قد يصدر من انحرافات عن قضاة. فكان أداؤها المهني خطابا يؤكد للرأي العام نزاهة القضاء كمؤسسة وقدرتها على تطهير ذاتها من الانحرافات.

أما التصور الثاني وهو أكثر محافظة وقد برز تبعا لصدور عدد من المواقف القضائية التي حذرت من الطابع المناسباتي (الانتخابات) والأهداف الكامنة خلف هذا التحقيق (حماية الفاسدين الكبار). و يتعارض هذا التصور ليس فقط مع قيم المجتمع الديمقراطي، بل أيضا مع المادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد الدولية التي صادقت تونس عليها. وتنص هذه المادة على التزام الدولة بتشجيع القوى الاجتماعية غير الحكومية في المشاركة في فضح الفساد. كما أن هذا التصور يبدو في حال تعارض واضح مع عقيدة القضاء التونسي كما حددها الدستور والتي تتمثل في حماية الحقوق والحريات. وأخطر ما في هذا التصور أنه يؤدي عمليا إلى فرض قانون الصمت، وتاليا إلى إضعاف جهود المعالجة والإصلاح ومعها الثقة العامة بالقضاء. ويبدو انكساره السريع وما لعبه القضاة من دور في تحقيق ذلك مؤشرا على أن هذا التصور بصدد الانحسار وهو تطور يدعم فعليا الثقة في القضاء.

ثانيا، إصلاح النيابة العمومية خطوة واجبة

أقرّ الدستور التونسي مبدأ “استقلالية قضاة النيابة العمومية” وأسند لهم مسؤولية تطبيق “السياسة الجزائية للدولة” طبق “إجراءات يضبطها القانون”[4]. يفترض بالتالي نظريا أن يكون للنيابة العامة سياسة موحدة في تعاطيها مع القضايا الكبرى. على أرض الواقع، غابت هذه الوحدة في تعاطي نيابتي صفاقس ومنوبة مع ملف برنامج الحقائق الأربعة. ففي الوقت التي اتجهت فيه الأولى لبحث أصل القضية، اتجه جهد الثانية لطرح السؤال حول من أثار القضية وخلفياته.

في مطلق القول، يظهر تعهد جهتي ادعاء ببحث واقعة واحدة أمرا مبررا إجرائيا لكون المشرع حدد عناصر متعددة لإسناد الاختصاص الترابي في الجرائم والجنح تؤدي في كثير من الأحيان لذلك. ولكن حصول مثل التنازع للاختصاص في القضايا الكبرى التي تهم الرأي العام يبدو مستغربا خصوصا وأن نيابة صفاقس أعلن الناطق باسمها مباشرته للبحث بما كان معه تعهدها بالقضية معلوما ولم يكن معه من مبرر واقعي لتولي نيابة منوبة التداخل في ذات الملف بأبحاث جديدة.

ويبدو هذا الخلل نتيجة لما يعانيه جسد الادعاء العام من تفكك سببه أن المشرع لم يتول بعد سن قانون يضبط هيكلية هذه المؤسسة القضائية بشكل يجعلها موحدة في ممارستها لصلاحية تطبيق السياسة الجزائية للدولة.

كان جسد الادعاء العام في مرحلة تاريخية يخضع لبناء هرمي ينتهي عند مستوى الوكيل العام للجمهورية الذي يعد قانونا رئيس كل النيابات العامة له صلاحية ضبط سياساتها وإعطاء التعليمات إليها. تاليا بتاريخ 29-12-1987 وعلى خلفية ما نسب لمؤسسة الوكيل العام للجمهورية من تدخل في القضاء وفي سياق ما عد في حينه انفتاحا سياسيا، تم سن القانون عدد 80 لسنة 1987 الذي ألغى منصب الوكيل العام للجمهورية وأعطى اختصاصاته للوكلاء العامين لدى محاكم الاستئناف كل واحد منهما في حدود مرجعه الترابي مع اعتبار وزير العدل رئيسا  للنيابة العمومية.

وقد جاء دستور سنة 2014 في مرحلة ثالثة لينص على استقلالية النيابة العامة وعلى كونها مسؤولية عن تطبيق السياسة الجزائية للدولة. ويفرض مثل هذا التطور التاريخي سن قانون يعيد ضبط بناء النيابة العامة بما يسمح بوضع تعليمات عامة في تطبيق هذه السياسة. ويستحسن طبعا أن يتم إنشاء مجلس للنواب العامين لوضع هذه التعليمات، تفاديا لأي استغلال لهرمية المؤسسة.

ختاما، يهمّ المفكرة التي كانت ممن أشادوا بجدية تعاطي القضاء مع ما بثه الإعلام أن تدعو المجلس الأعلى للقضاء بوصفه “الضامن لاستقلالية القضاء” إلى استعمال صلاحياته كجهة اقتراح تشريعي لإيجاد حلول مؤسساتية لما برز من تضارب في توجهات النيابات العامة في التعاطي مع ملف الفساد المثار. كما تدعوه إلى تخصيص جانب من نشاطه لتطوير خطاب المحاكمة العادلة والحقوق والحريات في الوسط القضائي، اعتبارا لما ثبت من أسبيقة دور الممارسة على النصوص في صناعة القضاء الحامي للحقوق والحريات.

 


[1]   ورد في التدوينة   ” بعد بث تقرير #الحقائق_الأربع عن قاضي يرجّع رشوة خذاها بالصوت والصورة… يقع سماعنا كشهود في قضية أولى و تثبت التحقيقات الأولية أن المعني فعلا قاضي مباشر. يطلب وكيل الجمهورية من المجلس الأعلى للقضاء رفع الحصانة عليه وهو ما يؤكد كل اللي جاء في تقرير #الحقائق_الأربع. الى حد هنا والامور طبيعية.لكن… اليوم يقع البحث معايا ومع أسامة لقرابة 4 سوايع في نفس الموضوع أما قضية ثانية بتهمة “تشويه القضاء“.
كل اللي جاء في التقرير اللي عديناه صحيح باعتراف القضاء… لكن اليوم نبحثو بتهمة “تشويه القضاء” !!!

[2]   ورد في تصريح الناطق الرسمي باسم النيابة العمومية بمحكمة منوبة لوكالة تونس إفريقيا للأنباء ” أن النيابة العمومية بالمحكمة الإبتدائية بمنوبة باعتبارها مرجع نظر استديوهات قناة الحوار اتخذت هذا القرار للتثبّت من صحة الفيديو المتداول وللاطّلاع عليه دون تغطية للوجوه وإجراء السماعات الضرورية والتحرّيات اللازمة قصد الوقوف على حقيقة ما تم بثه ، و اتخاذ الإجراءات اللازمة تبعا لذلك

[3]   ورد في تدوينة البلومي ” اتصل بي الأستاذ عبد العزيز الصيد وأعلمني أنه في علاقة بالبحث في تهمة “تشويه القضاء” الموجهة لي ولأسامة الشوالي بعد تحقيق “سلاك الواحلين” في #الحقائق_الأربع المتعلق بشبهة رشوة أحد القضاة، وقع الاتفاق مع النيابة العمومية بمنوبة بالاكتفاء بتقديم الاستاذ لتقرير توضيحي في الموضوع دون ضرورة للاستماع إلينا يوم الخميس كما كان مقرر. مع أملي ان يكون ذلك مؤشر على التوجه لحفظ قضية “التشويه” التي لم يعد لها معنى بعد ثبوت المعطيات المقدمة في #الحقائق_الأربع ضد القاضي.

[4]   الفصل 115 من الدستور .

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني