استئناف تطوان تأمر بإزالة هوائيات الهواتف النقالة في منطقة سكانية مكتظة: مبدأ الحيطة يوجب تخفيف انبعاث الإشعاعات حماية للبيئة والصحة


2018-05-31    |   

استئناف تطوان تأمر بإزالة هوائيات الهواتف النقالة في منطقة سكانية مكتظة: مبدأ الحيطة يوجب تخفيف انبعاث الإشعاعات حماية للبيئة والصحة

بتاريخ 27/03/2018 أصدرت محكمة الاستئناف بتطوان قرارا مثيرا[1] قضى بتأييد الحكم الابتدائي الصادر في قضية تركيب هوائيات الهواتف النقالة في الأحياء السكنية[2]، وهي القضية التي سبق وأن شغلت الرأي العام بالمغرب وشكلت محور تجاذبات بين شركات الاتصالات وعدد من جمعيات المجتمع المدني وناشطين حقوقيين[3].

القضية تعكس تطورا في فكرة التقاضي في مجال الحقوق الاجتماعية بالمغرب ولا سيما الحق في الصحة. كما أن القرار الصادر عن محكمة الاستئناف كرس النظرية الحديثة في إعمال مبدأ الحيطة والحذر، حيث بنت المحكمة موقفها اعتمادا على عدد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

 

ملخص القضية

تعود فصول القضية إلى تاريخ 24/10/2016 حينما تقدمت مجموعة من سكان أحد الأحياء بمدينة شفشاون-شمال المغرب، بدعوى أمام المحكمة الابتدائية بنفس المدينة يعرضون فيها أن شركة اتصالات المغرب تعتزم تركيب الجهاز اللاقط الخاص بالهاتف النقال على سطح أحد المنازل المجاورة لإقامتهم. وأضافوا بأن الثابت أن هذه الأجهزة تصدر إشعاعات مغناطيسية تتسبب في إحداث أضرار بليغة على صحة المجاورين لهذا الجهاز. وقد التمسوا تبعا لذلك الحكم برفع الضرر من خلال إيقاف تركيب الجهاز اللاقط الخاص بالهاتف النقال وتفكيك الجزء الذي تم تركيبه تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها 2000 درهم عن كل يوم امتناع عن التنفيذ. وأرفقوا عريضة الدعوى بمحضر معاينة وبحث أكاديمي حول الأضرار الصحية الناتجة عن أبراج الاتصالات.

وأجابت شركة اتصالات المغرب بأن البحث المذكور يتعلق بدولة أخرى تشتغل فيها شركة الاتصال بمواصفات مغايرة مثيرة انعدام صفة الجهة المدعية لكون الضرر المدعى به احتماليا وغير ثابت، ملتمسة رفض الدعوى.

وبتاريخ 12/04/2017 قضت المحكمة الابتدائية بشفشاون بقبول الدعوى شكلا وفي الموضوع إلزام شركة الاتصالات بإيقاف تركيب الجهاز اللاقط وتفكيك الجزء الذي تم تركيبه، مع النفاذ المعجل وغرامة تهديدية. وبعدما استأنفت شركة الاتصالات هذا الحكم تم تأييده من طرف محكمة الاستئناف بتطوان بناء على العلل التالية.

 

إعمال مبدأ الحيطة والحذر لحماية الحق في البيئة والصحة العامة

اعتبرت محكمة الاستئناف أن الحكم الابتدائي أصاب حينما طبق مبدأ الحيطة والحذر حيث أن مؤدى هذا المبدأ "وجوب تبني اجراءات تحوطية لحماية البيئة والصحة العامة". كما أن غياب اليقين العلمي لا يمكن أن يحتج به في عدم اتخاذ اجراءات لمواجهة خطر قد يؤدي إلى أضرار جسيمة لا يمكن معالجتها.

وأضاف القرار بأن تطبيق مبدأ الحيطة والحذر يتجاوز النظرية التقليدية لقواعد الإثبات القائلة بضرورة انتظار الحصول على الحقائق العلمية والبراهين التي تؤكد علاقة السببية بين الضرر والنشاط المسبب له، إلى ضرورة الاحتياط من تلك المخاطر التي قد لا تظهر آثارها إلا متأخرة وتقدير عواقبها التي قد تكون معالجتها مستحيلة أو مكلفة للغاية متى غلبت المؤشرات الموضوعية الدالة على وقوعها، وعلى من ينفي هذه المؤشرات إثبات ذلك.

 

الاستدلال بتطبيقات مبدأ الحيطة والحذر في التشريع الداخلي

اعتبر القرار أن مبدأ الحيطة والحذر الذي يجد أصوله في مبادئ الشريعة الإسلامية تطبيقا للقواعد الفقهية "لا ضرر ولا ضرار" و"الضرر يزال" و"قاعدة سد الذرائع"، هو راسخ أيضا في التشريع الداخلي، ذلك أن المشرع المغربي اعتمد مبدأ التدرج. فقد اكتفى هذا التشريع في البداية باقرار مبدأ الوقاية القائم على مواجهة الأخطار المؤكدة بالاعتماد على معطيات علمية بشأن أضرارها كما هو الحال في قانون 12.03 المتعلق بدراسة التأثير على البيئة 2003، وقانون 11.03 المتعلق بحماية واستصلاح البيئة 2006، ليتبنى لاحقا وبشكل صريح مبدأ الحيطة والحذر القائم على مواجهة الأخطار المحتملة حتى في غياب اليقين العلمي، وهو ما يبدو من خلال قانون 28.07 المتعلق بالسلامة الصحية للمنتجات الغذائية 2010، حيث ورد في الفقرة 15 من مادته الثالثة: "مبدأ الاحتياط مجموعة من التدابير الوقائية المتخذة لتجنب الأخطار الممكن أن تترتب عن استهلاك منتوج أولي أو منتوج غذائي أو مادة معدة لتغذية الحيوانات، في غياب دلائل علمية ثابتة تضمن مستوى مقبولا من سلامة هذا المنتوج أو هذه المادة". وقد ارتقى هذا المبدأ إلى التأكيد ضمنيا بنص دستوري حيث جاء في ديباجة دستور 2011 التزام المغرب بجعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها (…) تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه المصادقة، مع العلم أن المغرب صادق على كل الاتفاقيات الدولية التي تتبنى مبدأ الحيطة أو الاحتياط فيما يتعلق بالحفاظ على البيئة والصحة العامة.

 

الاستدلال بتطبيقات مبدأ الحيطة والحذر في الاتفاقيات الدولية

استدل القرار ببعض تطبيقات مبدأ الحيطة والحذر الذي أصبح مبدأ دوليا برز بشكل جلي مع اعلان ري ودي جانيرو 13/06/1992، ومن قبله عدة اتفاقيات دولية كمعاهدة برشلونة 1978 المتعلقة بحماية البحر الأبيض المتوسط من التلوّت البحري، واتفاقية جنيف 1979 المتعلقة بتخفيض مقذوفات أكسيد الكربون والكبريت والأزوت، واتفاقية فيينا 1985 المتعلقة بحماية طبقة الأزون، وبروتوكول مونتريال 1987 المتعلق بالمواد التي تفقر طبقة الأزون، واتفاقية بال 1989 المتعلقة بالنفايات الخطيرة، واتفاقية باريس 1993 حول منع انتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيماوية وتدميرها، واتفاقية الدول الأطراف 2001 المتعلقة بالتنوع البيولوجي ومكافحة التصحر، وهو ما دفع الدول الأوربية إلى تكريس هذا المبدأ في قوانينها الداخلية المتعلقة بالبيئة وحماية الصحة العامة.

 

تقييم موقف الدراسات العلمية من الأضرار المادية المحتملة الناجمة عن هوائيات الهواتف النقالة

كان لافتا في قرار محكمة الاستئناف بتطوان أنه توقف عند نتائج بعض الدراسات العلمية المستدل بها من أطراف الدعوى حيث اعتبر أنها و"إن لم تجزم بمدى الأثر السلبي لهذه الإشعاعات على صحة الأشخاص الذين يتعرضون لها، إلا أنها لم تنفِ ذلك بصورة يقينية. كما استند القرار إلى تأكيد هذه الدراسات بشكل مستمر على ضرورة تخفيض الحد الأدنى لمستوى الإشعاع وإلى تبني ذلك من طرف البرلمان الأوروبي ومن مجموعة من البلدان الأوروبية بقوانين ملزمة. وهو دليل على حصول الاقتناع بالأثر السلبي لهذه الإشعاعات على صحة الأفراد، خاصة الذين يتعرضون لها بشكل دائم ومتكرر نتيجة إنشاء أبراج ومحطات البث داخل التجمعات السكنية ذات الكثافة العالية وفوق المنازل مباشرة"، ليخلص الى أن ما يصدر عن هوائيات الهواتف النقالة من موجات وإشعاعات كهرومغناطيسية بشكل دائم ومستمر، يشكل ما يمكن اعتباره "تلوثا بيئيا".

 

القلق نتيجة العيش في حقل الإشعاع الكهرومغناطيسي ضرر معنوي

اعتبر القرار أن الضرر المعنوي يبقى قائما وحالا ويتمثل فيما يخلقه تواجد هذه المحطات مباشرة فوق المنزل أو على بعد أمطار قليلة من أثر سلبي في نفسية الشخص بسبب الإحساس الدائم بالتوجس والخوف والقلق على نفسه وأطفاله نتيجة العيش المتواصل في حقل من الإشعاع الكهرومغناطيسي.

 

ترخيص السلطات المختصة لا يحول دون استعمال الحق في إزالة أضرار الجوار

إلى جانب عدد من الاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية المتعلقة بالبيئة، اعتمد القرار أيضا على مقتضيات مدونة الحقوق العينية. فتطبيقا للمادتين 71 و77 منها، فإنه "يجب على ملاك المحلات المضرة بالصحة أو الخطرة أو المقلقة للراحة اتخاذ الاحتياطات اللازمة للحفاظ على البيئة والحيلولة دون الإضرار بأي أحد. وللجيران أن يطالبوا بإزالة أضرار الجوار التي تتجاوز الحدّ المألوف، ولا يحول ترخيص السلطات المختصة دون استعمال الحق في إزالة الأضرار".

لكل هذه الأسباب، اعتبرت محكمة الاستئناف بتطوان أن الحكم الابتدائي طبق القانون بشكل سليم مما يتعين معه تأييده فيما قضى به من إلزام شركة الاتصالات بإيقاف تركيب الجهاز اللاقط الخاص بالهاتف النقال وتفكيك الجزء الذي تم تركيبه.

 


[1] يتعلق الأمر بقرار محكمة الاستئناف بتطوان في الملف 367/1201/2017، بتاريخ 27/03/2018، غ.م.

[2] حكم المحكمة الابتدائية بشفشاون في الملف 313/1201/2016، بتاريخ 12/04/2017، غ.م.

[3] -أنظر لمزيد من التفاصيل الموضوع التالي المنشور بموقع المفكرة القانونية:

مبدأ الحيطة في قرار قضائي مغربي

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني