الفصل 230 مُكرّر: الدّولة تَضَع أصابعها في أجساد مواطنيها باسم القانون


2024-07-03    |   

الفصل 230 مُكرّر: الدّولة تَضَع أصابعها في أجساد مواطنيها باسم القانون

استطَاع مناضلو ومناضلات مجتمع الميم-عين افتكاك الفضاء العامّ تدريجيًّا، ورَفع الصوت عاليًا نحو إلغاء تجريم المثلية الجنسية. كان يوم 26 جوان الماضي، المتزامن مع اليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب، مناسبة للتذكير بأنّ تعريض المواطنين إلى الفحص الشرجي لإثبات المثلية الجنسية يُعدّ جريمة تعذيب مخالفة للمواثيق الدّولية لحقوق الإنسان الّتي أمضت عليها تونس، وهو ما يستوجب مراجعة التشريعات الوطنية التي مضى على سنّها أكثر من مائة عام.

 أصدرت المحكمة الابتدائية في بن عروس في تونس العاصمة حكمًا يقضي بسجن مواطنَين من مجتمع الميم-عين لمدّة سنتيَن، مع طلب النيابة العمومية تعريض أحدهما إلى الفحص الشرجي. أدانت الجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان هذا الحكم وطالبت صراحةً بإلغاء الفصل 230 من المجلة الجزائية “اللادستوري”، وكلّ الفصول الأخرى المُجرّمة للهويات الجندريّة والحريّات الفرديّة، واعتبرت في بيان مشترك أمضت عليه ثلاث وعشرون جمعيّة أنّ الفحوصات الشرجيّة المعتمدة لإثبات العلاقات المثلية الرضائية “جريمة تعذيب تمارسها الدّولة”، وطالبت بإيقافها، مُذكّرة بأنّها “فحوصات قسريّة تعذيبيّة تتعارض مع القانون الوطني والاتفاقيات الدّولية التي صادقت عليها الدّولة التونسية”، ودعت المجلس الوطني لعمادة الأطبّاء إلى “اتخاذ الإجراءات المناسبة ضدّ المخالفين لمجلّة الأخلاقيات الطبيّة”. “نحن ضدّ انتهاك الحرمة الجسدية لأيّ شخص بغضّ النظر عن خياراته أو الهوية التي ارتضاها لنفسه. هذه قناعات فردية. ولكلّ إنسان كرامة متأصّلة فيه كفرد يجب أن تُحفَظ مهما يكن من أمر ولا شيء يُسوّغ التعذيب”، يقول فتحي الجرّاي رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب في تصريح للمفكّرة القانونية.

يتنزّل الفصل 230 من المجلة الجزائية، الصادرة في 09 جويلية 1913، ضمن بابها الثالث الّذي يفصّل الأفعال التي تُعدّ اعتداءً بالفواحش والعقوبات المترتّبة عنها، وتحديدًا في الفرع المتعلٌّق بالاعتداء بما يُنافي الحياء. يُجرّم هذا الفصل “اللواط والمساحقة” ويسلّط على مرتكبيها عقوبة بالسجن لمدّة ثلاث سنوات. لإثبات هذا الفعل المُجرَّم، يطلب القاضي من الطبيب الشرعي إجراء فحص شرجي للشخص المُتّهم للتثبّت من قيامه بعلاقة جنسية مثلية من عدمه، وهو اعتداء على الحُرمة الجسدية ومسّ من كرامة الإنسان في الوقت الّذي تضمن فيه التشريعات الوطنية والمعاهدات حقوق الإنسان وتحفظ كرامته عبر التنصيص على ضمان الحريات الفردية والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون، وحماية كرامة الذات البشرية ومنع جريمة التعذيب، وفق دستور الرئيس سعيّد 2022.

إلغاء الفصل 230 من المجلة الجزائية: بداية المعركة الحقوقيّة

تَخُوض فئة أصحاب وصاحبات الهويات الجنسية المغايرة صراعًا متعدّد الأبعاد، فهي مُحاصرة بأحكام قيميّة تستند إلى موروث ثقافي نمَطيّ محافظ يَحتكم إلى العلاقات الكلاسيكيّة القائمة على مفهوم الأسرة المتكوّنة من رجل وامرأة. وهو ما يدفعها في كثير من الأحيان إلى التستّر الاختياري[1]  خشيةً من التعرّض إلى الاعتقال أو الابتزاز والتهديد والممارسات المهينة والمُحطّة للكرامة. وهو ما يجعلها تمتلك قدرًا أقلّ من النفوذ والقوة وتمارس عددًا أقلّ من الحقوق مقارنة بالجماعة المسيطرة في المجتمع. وهي فئة تواجه صعوبة في النفاذ إلى العدالة، إذ أنّ أفرادها يتقدّمون بشكايات للشرطة من دون أن تضمن انطلاق الأبحاث فيها. وعادةً ما يتحوّل الشاكي أو الشاكية في جرائم التعذيب أو سوء المعاملة إلى متّهم أو متّهمة. “مشكلتنا مع الدّولة التونسية وسياساتها العمومية. من 2011 إلى 2021، حَكَمتنا منظومة فاسدة سَرِقَت ونهبَت وزجّت بالمواطنين في السجن بسبب الفصل 230 من المجلة الجزائية وفصول أخرى، وها هي تُواصل السياسات ذاتها بطريقة أكثر بشاعة وفظاعة”، يقول سيف عيادي، الناشط الكويري والممثل عن جمعية دمج للعدالة والمساواة في تصريح للمفكرة القانونية، مُضيفًا أنّ المعركة الحقوقية لن تنتهي بإلغاء الفصل 230 من المجلة الجزائية: “نحن مكبّلون بالفصل 230 وغير قادرين على التوجّه إلى بنات وأبناء شعبنا لنفسّر لهم ما معنى مجتمع كويري وتوجّهات جنسية وتعبيرات جندريّة. العنف المجتمعي والرفض هي توجّهات فجٍّرتها الدّولة والخطاب العنصري والشعبوي. السلطة هي التي تخاف، ونحن سنتصدّى لها. نحن لا نخاف من شعبنا لأنّنا أبناؤه وبناته، ونحن الآن في الشوارع بين أهلنا وناسنا ولكنّ السلطة هي من تريد تكميم الأفواه واستبعاد الشعب سياسيا وثقافيا واقتصاديا”.

خلال ندوة صحفية، انعقدَت يوم 27 جوان 2024، نظّمتها جمعية دمج للعدالة والمساواة، اتّفق كلّ المتدخّلين على لا قانونية الفحص الشّرجي، إذ يقول معاذ البجاوي عضو هيئة الدفاع عن السّجينَين: “إنّ أغلب نصوص المجلّة الجزائيّة لا تتلاءم مع الدستور ومع العهد الدّولي للحقوق المدنيّة والسياسية”، مُعتبرًا الفحص الشرجي أمرًا يرتقي للاعتداء الجنسي. ويضيف: “من غير المعقول أنّ الدّولة في 2024 تُجري فحوصًا من دون إرادة حرّة وصريحة من المعنيّين بالأمر، ومن غير المعقول أيضًا أن يكون لدينا نصّ يصادر الحريات الفردية، إذ أنّ إثبات المثلية الجنسية يتمّ من خلال انتهاك عدد من الحقوق مثل سريّة المراسلات وحرمة المسكن وصولا إلى الحُرمة الجسديّة”. فيما تعتبر يسرى بوضياف عن المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب أنّ تطبيق الفصل 230 من المجلة الجزائية يُعدّ احتجازًا قسريًّا وضربًا من ضروب التعذيب، داعيةً إلى ضرورة تحميل المسؤوليات من خلال رفع شكايات ضدّ القضاة والأطباء الشرعيين، إلى جانب رفع شكايات إدارية ضدّ الطبيبة التي قامت بالفحص الشرجي في قضية الحال، ولمَ لا اللجوء إلى اللجنة المعنية بحقوق الإنسان ولجنة مناهضة التعذيب التابعتين إلى الأمم المتحدة بغرض تقديم دعوى قضائية في التعذيب. 

أمّا المحامي شادي الطريفي عن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان،  فقد اعتبرَ الدولة التونسيّة “دولة مارقة” لأنّها تتعهّد أمام اللجان الأممية بوقف الفحوصات الشرجية، ولكنّها تُواصل انتهاجها في الواقع، مشدّدًا على ضرورة إلغاء الفصل 230 من المجلّة الجزائية ومحاسبة كلّ من تورّط في التعذيب. “الدولة تقول خطابًا وتمارس نقيضه، والفحص الشرجي تعذيب ليس فقط سوء معاملة”، هكذا صرّح الطريفي. أمّا الناشطة الكويرية والممثلة عن منظمة محامون بلا حدود أصالة المدوّخي  فقد أشارت إلى الفصل 230 من المجلة الجزائية فصل استعماري، مشيرة إلى الفرق في النسختين العربية والفرنسية منه، إذ تُجرّم النسخة الفرنسية العلاقات الشرجية، فيما تتحدّث النسخة العربية عن اللواط والمساحقة. وفي هذا السياق تتساءل أصالة عن ماهية هذه الأفعال المستوجبة للعقوبة،  قائلة: “قد يتعلّق الأمر بوضع أقراط (piercing) أو بشعر ملوّن، أو بطريقة مشي أو تكلّم لم تُعجب القاضي أو الشرطي، أو غير ذلك. لا بدّ من التدقيق في المصطلحات وتعريف المساحقة واللواط وكيف يمكن أن يَحدُثا”.

نضال متواصل لافتكاك الحقوق

منذ 2011 إلى حدود شهر مارس من سنة 2022، تمّ سجن 3116 شخصًا على أساس الفصل 230 من المجلّة الجزائيّة المُجرّم للمثلية الجنسية وفق معطيات جمعية دمج للعدالة والمساواة. في شهر جوان من سنة 2022، تمّ رصد 45 إيقافًا في أقلّ من 04 أيام، ليُحال منهم 16 شخصًا إلى السجن بتهم تتعلّق بالتجاهر بالفُحش وممارسة اللواط والمساحقة وتعاطي الخناء. وفي شهر ديسمبر من السنة ذاتها أُطلقت حملة اقتحامات شملت 16 امرأة عابرة جندريّا وتمّ إيداعهنّ سجن الرّجال وحلق شعرهنّ بطريقة قسريّة. ومع تصاعد خطاب الكراهية ضدّ مهاجري ومهاجرات أفريقيا جنوب الصحراء، حدثت اقتحامات ضدّ مركزين تابعين للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين وتمّ إيقاف 36 مهاجرًا ومهاجرةً وطالبي وطالبات لجوء من مجتمع الميم-عين وافتكاك بطاقاتهم للإيهام بأنّ وضعياتهم غير قانونية تَستوجب العقاب أو الإرجاع القسري لموطنهم. وفي أوت 2023، أطلق أحد “المؤثرين” حملة ضدّ مجتمع الميم-عين رُفعت ضدّه قضيّة حُكم فيها بـ300 مائة دينار خطية ماليّة بسبب اعتدائه على الأخلاق الحميدة وتلفّظه بكلمات بذيئة، وليس بسبب التعبئة والتحريض ضدّ ذوي وذوات الهوية اللامعيارية.

“بعد الثورة، كانت هناك نوافذ فُتحت وسط القتامة التي كنّا نعيشها، وكنّا نعتبر إخراج أيّ فرد من مجتمع الميم-عين من السجن او منع الحلق القسري لشعر العابرين والعابرات في السجون، مكسبًا. الانتصار الكبير هو أنّ القضيّة لم تعد ممنوعة، وأشرس المعارضين لها أصبحوا يعتمدون عبارات المثلية بدلا عن الشذوذ أو غيرها من الكلمات التي تحتوي قدرا كبيرا من الوصم والتمييز”، هكذا وصف بدر بعبو رئيس جمعية دمج للحرية والمساواة معركة الحريات التي يخوضها أصحاب وصاحبات الهويات الجندرية اللامعيارية، في تصريح للمفكرة القانونية، مذكّرًا بأنّه رغم محدودية المكتسبات التي تحقّقت بين 2010 و2021، إلا أنّها وفّرت “نوعا من الأمان النسبي لمجتمع الميم-عين”، ولكنّ منسوب الحرية والرقابة الذاتية تراجع مع 25 جويلية 2021، إذ تقول الناشطة الكويرية ناجية منصور في تصريح للمفكرة القانونية: “إنّ الفصل 230 من المجلة الجزائية يُجرّم هويات الأشخاص ولا يدين أفعالا معيّنة. نحن نُناضل لافتكاك حريّتنا ومساحتنا. والقمع المُسلّط على الكويريين يُفاقم الوضع، ولن يكون رادعًا لوُجودنا وحياتنا”.


[1]محمد أمين الجلاصي. المُحَقّرون في القانون التونسي: حين يؤسس القانون للامساواة. الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، تونس، 2018، ص: 42. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

حرية التعبير ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني