اقتراح قانون لإخضاع “الجمعيات الأجنبية”: لا حرية إلا تحت سقف “السياسات العامة”


2024-06-04    |   

اقتراح قانون لإخضاع “الجمعيات الأجنبية”: لا حرية إلا تحت سقف “السياسات العامة”

تقدم النائب سيمون أبي رميا باقتراح قانون في تاريخ 30 أيار 2024 يرمي إلى تعديل قانون الجمعيات العثماني الصادر سنة 1909 عبر وضع شروط جديدة لناحية عمل الجمعيات الأجنبية في لبنان. وينصّ الاقتراح على واجب كلّ جمعية أجنبية تقديم خلال شهر كانون الثاني من كل عام “بلاغا” إلى وزارة الداخلية والبلديات يتضمّن “لائحة تفصيلية عن كل المشاريع والنشاطات التي تنوي تنفيذها خلال السنة على الأراضي اللبنانية مع قيمتها المالية ومصادر تمويلها، ولائحة بالجمعيات المحلية التي استفادت السنة الماضية من التمويل”. ويحظر الاقتراح على الجمعيات الأجنبية “الترويج أو دعم أو تنفيذ أي مشروع على الأراضي اللبنانية لا يتطابق مع أحكام الدستور اللبناني والسياسة العامة للدولة و/أو لا يراعي مصلحة الدولة العليا”. ويضيف الاقتراح أن مخالفة الجمعيات الأجنبية لهذا الحظر يؤدّي إلى منعها من العمل في لبنان وسحب الترخيص منها وتصادر أموالها لمصلحة الخزينة العامة.

تنص الأسباب الموجبة للاقتراح على أنه “من واجب الجمعيات والمؤسسات والمنظمات الأجنبية والدولية التجانس مع دستور الجمهورية اللبنانية وتنفيذ المشاريع والنشاطات المتوافقة فقط مع السياسات العامة التي تضعها الدولة”. وتعتبر الأسباب الموجبة أن هذه الجمعيات تحصل على تمويلها من “جهات مانحة أجنبية ودولية لتنفيذ برامج محدّدة في البلدان المُضيفة والعاملة فيها” ما يستوجب عدم السماح لها “بفرض على اللبنانيين سياسات أجنبية قد يتم تنفيذها بالوكالة عبر جهات غير حكومية أجنبية تعمل على نشرها وتنفيذها ضمن الأراضي اللبنانية”، وذلك على اعتبار أن “السيادة الوطنية هي المرتكز الأساس لأي دولة فيعود لها حصرية تحديد السياسات الواجب اتباعها وعدم القبول بأيّ سياسة أجنبية لا تتفق مع سياساتها وتنفذ مواربة على أراضيها”. ورغم أن هذا الاقتراح يأتي في سياق حركة تشريعية للحدّ من عدد اللاجئين السوريين في لبنان وفي سياق إعلان العديد من القوى السياسية تبرمها من المساعدات التي تقدمها “المنظمات والجمعيات الأجنبية” لمساعدة اللاجئين في لبنان، فإن اقتراح القانون خلا ضمن أسبابه الموجبة كما ضمن مضمونه من أيّ ذكر للوجود السوري أو مبدأ عدم التوطين. بمعنى أن ما لا يقال في هذا الاقتراح بدا أكبر مما قيل فيه.    

إلا أنه وقبل المضي في إبداء ملاحظاتنا في خصوص هذا الاقتراح، يجدر التنبيه إلى أنّ “الجمعيات الأجنبية” ليست فقط الجمعيات التي يكون مركزها الأساسي في الخارج أو التي يؤسسها أشخاص غير لبنانيين، بل هي تشمل أيضا أي جمعية يكون ربع أعضائها أو أكثر من الأجانب، وفق قرار المفوض السامي رقم 369 الصادر سنة 1939 (وهو النص الناظم لهذه الجمعيات والذي لم يأتِ الاقتراح على ذكره). وعليه، وبخلاف ما قد توحي به تسميّة الجمعية الأجنبية، تعتبر كذلك جمعية أجنبية ولو كان غالبية مؤسسيها وأعضائها لبنانيون (حتى ثلاثة أرباعهم). 

تعديل قانون الجمعيات وإهمال قانون الجمعيات الأجنبية

يعمد الاقتراح إلى إضافة مادة على قانون الجمعيات العثماني الصادر سنة 1909 تحت مسمى المادة 6 مكرر، يضع من خلالها الشروط الجديدة المذكورة أعلاه. لكن هذا الاقتراح يعمد إلى إدخال تعديلات على قانون الجمعيات في موضوع تمّ التطرق إليه في في نص تشريعي آخر مختلف ألا وهو القرار الصادر عن المفوض رقم 369 تاريخ 21 كانون الأول 1939 المتعلق تحديدًا بالجمعيات الأجنبية والذي لا يزال نافذًا حتى اليوم. 

لذلك كان من الأفضل على مقدم الاقتراح أن يستهدف بتعديلاته قرار المفوض السامي بوصفه النص الخاص المطبق على الجمعيات الأجنبية عوضًا عن النص العام المتمثل بقانون 1909 عملا بمبدأ وضوح التشريع الذي يفرض أن تتمّ معالجة الموضوع ذاته في نص قانوني واحد كي يتمكن الجميع من الاطلاع على كافة التفاصيل ومعرفة الحقوق العائدة لهم والواجبات المترتبة عليهم.

كذلك يفشل الاقتراح في التمييز بين الجمعيات الأجنبية وفروع تلك الجمعيات التي تعمل في لبنان ولا يتنبه إلى أن بعض الجمعيات الأجنبية تقوم بتمويل مشاريع في لبنان عبر جمعيات محلّية علمًا أنها غير حاصلة على أي ترخيص.

اقتراح يفشل في الحدّ من استنسابية ترخيص أو سحب تراخيص الجمعيات الأجنبية

لا بد من التذكير أولًا أن الجمعيات المحلية لا تخضع لموجب الترخيص بل لموجب العلم والخبر وفقًا لقانون 1909، بينما الجمعيات الأجنبية ينطبق عليها موجب الترخيص عملًا بالمادة الأولى من القرار 369 التي تنص على التالي: “لا يجوز أن تنشأ أيّة جمعية أجنبية ولا أن تقوم بعملها في لبنان أو سوريا ما لم تحصل على ترخيص مسبق من مندوب المفوض السامي. لا يجوز أن يكون لها مؤسسات في لبنان او سوريا إلا بمقتضى ترخيص خاص لكل مؤسسة من هذه المؤسسات”، علمًا أن الترخيص يتم منحه اليوم بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء. كما يلحظ أن المادة الثانية من القرار 369 تنص على التالي: “يجوز أن يمنح الترخيص بصورة مؤقتة أو أن يكون خاضعا لتجديد دوري. ويجوز إخضاعه لبعض الشروط، ويجوز سحب الترخيص في أي وقت كان بأمر إداريّ من المفوّض السامي أو من مندوبه.” وهكذا يتبيّن أن ما يهدف إليه الاقتراح لناحية تمكين السلطة التنفيذية من سحب الترخيص من الجمعية الأجنبية هو موجود أصلًا في هذا القرار الذي يسمح أيضا بفرض شروط إضافية لمنح الترخيص، ما يجعل هدف الاقتراح في هذه النقطة تحديدا من غير جدوى إذ يمكن للحكومة أن تستند على هذه المادة من أجل سحب الترخيص من دون حاجتها إلى نص قانوني جديد يخولها ذلك.

وكان من الأجدى على الاقتراح أن يتنبه إلى أن القرار 369 لا يحدد شروط سحب الترخيص، وأن يعمد تاليا إلى تحديد تلك الحالات بشكل دقيق بحيث يتمّ إلغاء السلطة الاستنسابية التي يكرسها هذا القرار والاستعاضة عنها بمجموعة من الشروط المحددة حصرا وبشكل يتوافق مع مبادئ الضرورة والتناسب. إلا أن الاقتراح استبدل عمليّا الاستنسابيّة بالاستنسابيّة، من خلال وضع شروط مطاطة وغير محددة قانونا كما نبيّن أدناه.    

اقتراح ينتقص من الضمانات القضائية 

ينص الاقتراح على مصادرة أموال الجمعيات الأجنبية التي يسحب منها الترخيص لصالح الخزينة العامة بينما ينص القرار رقم 369 في مادته التاسعة على أن الجمعيات الأجنبية التي سيتمّ سحب ترخيصها يتوجب عليها “أن تباشر في تصفية أموالها في مهلة شهر ابتداء من تاريخ تبليغها قرار رفض الترخيص أو سحبه”. وتضيف المادة 11 أنّ السلطة القضائيّة تتولى تصفيّة أموال الجمعيات الأجنبية التي تفشل في تصفية أموالها خلال المدة المذكورة. لا بل أن المادة 12 تنصّ أيضا على أنّ الجمعيات التي يتمّ سحب ترخيصها يجري بيع أموالها وفقا لنظامها الأساسي أو قرار جمعيتها العمومية شرط ألا يتم التصرف بهذه الأموال إلا لغايات خيرية.

وهكذا يتبين أن الاقتراح الحالي الذي لا يعلم أصلا بوجود القرار رقم 369 يؤدي في حال تبنيه إلى الحد من الضمانات القضائية التي سبق وأن كرسها هذا القرار كونه يقضي بالمصادرة الفورية لأموال الجمعية الأجنبية وهو بالتالي يكون أكثر تشددا وتعسفا كونه لا يستبعد فقط الجمعية المذكورة من الإشراف على تصفية أموالها بل يقصي أيضا السلطة القضائية بالكامل عن هذا المسار مما يحد من الضمانات القضائية للجمعية. 

اقتراح يحدّ من حرّيات أساسية خلافًا لمبدأيْ الضرورة والتناسب 

أخيرا، يجدر التوقف عند الحظر المقترح والذي يشمل “الترويج أو دعم أو تنفيذ أي مشروع على الأراضي اللبنانية لا يتطابق مع أحكام الدستور اللبناني والسياسة العامة للدولة و/أو لا يراعي مصلحة الدولة العليا”. ومؤدى هذا الحظر، الأمور الآتية: 

  • إن الحظر يفرض ليس فقط احترام الجمعيات المعنية الدستور وضمان احترام المشاريع التي تروج لها أو تدعمها أو تنفذها له، بل أيضا وجوب حصر نشاطها في المشاريع التي تتطابق مع الدستور، على نحو يضيق هامش عملها ويفرض عليها موجبات فعل وليس فقط موجبات عدم فعل، 
  • إن الحظر يفرض واجب مطابقة المشاريع المذكورة ليس فقط مع الدستور، إنما أيضا مع السياسة العامة ومصالح الدولة العليا، وهي اعتبارات أخرى مطاطة تتحكم السلطة التنفيذية في وضعها وتحديد مضمونها بمعزل عن أي نصّ قانوني. وكأنما الاقتراح يجرد الجمعيات الأجنبية من أي هامش في تحديد أولويات عملها ليجعلها أقرب لأن تكون ذراعا لتنفيذ سياسات السلطة التنفيذية ومشيئتها. ومن شأن هذا الحظر أن يضع العديد من الجمعيات الأجنبية في وضع تناقض بين أهدافها ومبادئها وما قد تعده السلطة السياسية سياسة عامة لها. وهذا ما قد يتحصّل بشكل خاص في ما يتصل باللاجئين أو العمالة الأجنبية، 
  • إن الحظر يشمل “دعم المشاريع” مما يؤثر حكما على تمويل الجمعيات الوطنية من قبل الجمعيات الأجنبية العاملة في لبنان، بحيث تصبح الجمعيات الأجنبية مدعوة للامتناع عن تمويل جمعيات نقدية تجاه السياسات العامة أو المصالح العليا للدولة، وعمليا لتوجيه تمويلاتها في حال أرادت مواصلة عملها في لبنان لتمويل جمعيات منسجمة تماما مع هذه السياسات والمصالح. من هذه الزاوية، يشكل الاقتراح تهديدا لمصادر تمويل العديد من الجمعيات الوطنية والمحلية.    
  • أخيرا، إن الحظر لا يقتصر على القيام بمشاريع أو دعمها، إنما يشمل أيضا الترويج لها. بمعنى إنه يضيق ليس فقط من هامش عمل الجمعية إنما أيضا من هامش حرية التعبير لديها ويفرض عليها ليس فقط مطابقة المشاريع التي تقوم بها مع سياسات الدولة إنما أيضا مطابقة ما تقوله أو تعبر عنه، وهذا ما قد يسجل عليها في حال دافعت عن موقف لا توافق عليه الحكومة حتى لو لم يقترن هذا الموقف بأي إجراءات عملية. فكأنما عليها الالتزام بهذه السياسات من دون التعبير علنا عن أيّ تبرّم أو تذمّر أو اعتراض، كل ذلك تحت طائلة سحب الترخيص منها ومصادرة أموالها. ومن شأن هذا الحظر أن يشكل قيدا بشكل خاص على الجمعيات الحقوقية كمنظمة العفو الدولية أو هيومان رايتس ووتش والتي يقوم عملها على نقد سياسات الحكومات في حال تعارضها مع الحقوق المكرسة دوليا، 

ومن البين أن الاقتراح يخلّ من هذه الزوايا كافة بحريات أساسية للجمعيات خلافا لمبادئ الضرورة والتناسب، بخاصة بالنسبة إلى الجمعيات الأجنبية المؤسّسة من أشخاص مقيمين في لبنان سواء كانوا لبنانيين أو غير لبنانيين.  

خلاصة

في الخلاصة، يتبين أن هذا الاقتراح يتذرع بمفهوم السيادة من أجل منح السلطة السياسية صلاحيات مطلقة قد يساء استخدامها بسهولة وصولا إلى قمع أي نشاط أو منع الترويج لأفكار تعاكس توجهات الجهات الحاكمة. فهذا الاقتراح لا يهدف فقط بطريقة مضمرة إلى السيطرة على عمل الجمعيات الأجنبية وضمنا التي تعنى بشؤون اللاجئين السوريين، بل هو يسمح أيضًا بعرقلة عمل الجمعيات التي تدافع عن سائر الفئات المهمشة (اللاجئين، العمالة الأجنبية، النساء والأطفال، عديمي الجنسية، المثليين) أو تحاول تعزيز حقوق اللبنانيين وحرياتهم الشخصية في مسائل الأحوال الشخصية والحريات الدينية أو حتى حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية بخصوص العدالة في توزيع الخسائر جراء الانهيار المالي الذي يعاني منه لبنان لا سيما في القطاع المصرفي. لذا فإن الصيغة المبهمة لهذا الاقتراح وغياب أي ضمانات قضائية ينص عليها من أجل مراقبة عمل السلطة في هذا المجال، يجعل منه اقتراحًا شديد الخطورة في حال تبنيه وهو يؤشر إلى أن الأحزاب المسيطرة على مجلس النواب لا تلجأ إلى مفهوم السيادة إلا من أجل تحصين سطوتها على المجتمع بينما تنسى هذا المفهوم عندما يؤدي ذلك إلى تعزيز دور الدولة وتفعيل مؤسساتها الرسمية.

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، منظمات دولية ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني