اللحوم الحمراء في تونس: مُعضلة تتغذّى من أزمات جديدة وسياسات قديمة


2024-05-28    |   

اللحوم الحمراء في تونس: مُعضلة تتغذّى من أزمات جديدة وسياسات قديمة

في أكتوبر 2014، وفي أوجّ الحملة الانتخابية الرئاسية، انتشر فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي يظهر فيه المترشح آنذاك الراحل الباجي قايد السبسي وهو يبكي خلال اجتماع شعبي في أحد أحياء العاصمة تونس. تحدث قايد السبسي عن النساء التونسيات الفقيرات اللاتي تخلو قفافهن من اللحم بسبب غلاء الأسعار وبكى “تأثرا” عندما تذكر أن إحداهن أكدت له أنها لم تأكل اللحم منذ ثلاثة أشهر (في تلك الفترة كانت أسعار اللحوم الحمراء تتراوح ما بين 15 و20 دينار). أثار خطاب قايد السبسي سخرية وغضب عدد من التونسيين الذين رأوا فيه مبالغة أو اعتبروه متاجرة في آلام الفقراء وشعبوية مقيتة. فاز قايد السبسي بالانتخابات وصار رئيسا لتونس، ولا نعلم مصير السيدة التي تحدث عنها وإن كان حالها قد تغير. لكن ما نعلمه جيدا أن سعر اللحم قد تضاعف حوالي ثلاث مرات منذ ذلك الحين، في حين بلغت الشعبوية مستويات يصعب قياسها.  

بلغت أسعار لحوم الضأن والبقر خلال شهر رمضان الفائت والأشهر التي تلته مستويات غير مسبوقة، حتى صارت من “الكماليات” صعبة المنال بالنسبة لعدد كبير من العائلات التونسية. ومع اقتراب عيد الأضحى أصبحت أسعار الأضاحي واللحوم عموما شاغلا لملايين التونسيين الذين أجهزَ التضخم على قدراتهم الشرائية الضعيفة أصلا. في بلد لا يتجاوز فيه الأجر الأدنى المضمون 459 دينارا، يُعتبر بيع كيلوغرام اللحم الأحمر بـ50 أو حتى 40 أو 30 دينارا إقصاء لمئات آلاف التونسيين من دائرة المستهلكين. وهذا ما يحدث بالفعل، فقد تراجع معدل استهلاك التونسيين للحوم الحمراء من 11،4 كغ للفرد الواحد في 2015 إلى 8 كغ في 2023. ارتفاع أسعار اللحم يترافق آليا مع ارتفاع أسعار السلع الثانوية “الرخيصة” في محلات الجزارة ك”الكرشة” و”الدوارة” و”الرأس”. وكان رئيس “الغرفة الوطنية للقصابين في تونس” (نقابة أصحاب محلات الجزارة) قد اشتكى في عدّة مرات من أنّ غلاء الأسعار وتراجع الاستهلاك دفع بعدد كبير من القصابين إلى إغلاق محلاتهم وهجر المهنة، وأكد أن عددهم قد انخفض من 8216 إلى 5200 في السنوات الأخيرة. 

وحدهم القائمون على “الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري” -وأغلبهم من كبار المنتجين- يعتبرون أن الأسعار معقولة ويطالبون بأن تعتمد الدولة سعرا مرجعيا للحوم الأضاحي الحية يترواح ما بين 23 و25 دينار عند الوزن. ويبدو أن الدولة ممثلة في وزارة الفلاحة لا تريد أن يتجاوز السعر المرجعي 21 أو 22 دينارا، وهي زيادة كبيرة مقارنة بالسعر الذي اعتمد بمناسبة عيد الأضحى في 2023 والذي بلغ 17،8 دينار، ومفزعة إذا ما قارناها بالسعر المرجعي الذي اعتمد في سنة 2020 أي 11،5 دينار. في كل الأحوال يبقى قانون العرض والطلب هو حاكم السوق والسيف المسلط على رقاب عموم التونسيين الذين يجدون أنفسهم مجبرين على اشتراء “علوش” وزنه أقل من 40 كغ بسعر يتراوح ما بين 800 و1300 دينار، في حين يباع “البركوس” و”الكبش” (الخرفان الأكثر وزنا) بمبالغ تصل حتى 2000 دينار وأكثر. وناشدت منظمات تونسية تعنى بالدفاع عن المستهلكين رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، بالتدخل لتسقيف أسعار اللحوم، في حين أطلِقت بعض الدعوات “الخجولة” من هنا وهناك تحثّ المواطنين على مقاطعة الأضاحي، أو تطلب من مفتي الجمهورية إصدار فتوى في هذا المعنى، لكن لا صدى حقيقي على المستوى الشعبي أو الرسمي لهذه الدعوات. وإن كانت أزمة الأسعار الحالية هي الأشد في السنوات الأخيرة فهي ليست ظرفية ولم تأت من فراغ.  

معطيات عامة عن قطاع اللحوم الحمراء  

حسب تقديرات المعهد الوطني للإحصاء الصادرة في سنة 2022، يعدّ قطيع المواشي في تونس 388 ألف من رؤوس الأبقار و4677 ألف من رؤوس الأغنام و922 ألف من رؤوس الماعز. وبلغ الإنتاج الوطني من اللحوم، في سنة 2022، 97 ألف طنا من لحوم الأبقار، و132،200 ألف طنا من لحوم الأغنام و26،700 ألف طنا من لحوم الماعز.  ويُقدر “ديوان تربية الماشية وتوفير المرعى” عدد مربي الأبقار بـ112100 فرد، ومربي الأغنام بـ273900 فرد، ومربي الماعز بـ141100 فرد، ومربي الجمال بـ2300 فرد. وحسب معطيات المجمـع المهـني المشتـرك للحـوم الحمـراء والألبـان يضم شمالي البلاد 72% من مربي الأبقار و38% من مربي الأغنام و27% من مربي الماعز، أما منطقة الوسط والجنوب فتضمان على التوالي: 24 و4% من مربي الأبقار، و39 و23 % من مربي الأغنام، و21 و52 % من مربي الماعز.  وتضم تونس 158 مسلخا مرخصا وأكثر من 180 سوقا لبيع المواشي، في حين تُباع اللحوم في أكثر من 5000 محل جزارة و140 فضاء تجاري كبير أو متوسط. وبحسب منشورات المرصد الوطني للفلاحة، فإن مربي الأبقار المتفرغين لنشاطهم والذين يعدّ قطيعهم ما بين واحدة وخمس إناث يشكلون حوالي 80% من مجموع العاملين في القطاع، وتبلغ النسبة 91% إذا احتسبنا المربّين الذين يضم قطيعهم ما بين واحدة وعشر إناث. أما مربي الأغنام المتفرغين الذين تضم قطعانهم 10 إناث فأقل يمثلون 50% من مجمل المنتجين. وإذا ما أضفْنا إليهم المربين الذين يمتلكون قطعانا تضمّ 20 أنثى فسترتفع النسبة إلى 75 %. هذه النسب تعني بكل وضوح أن قطاع إنتاج اللحوم الحمراء -والألبان أيضا– يرتكز بشكل كبير جدا على صغار المنتجين. 

الأعلاف: أزمة مركبة

يُجمع أغلب المتدخلين في قطاع اللحوم الحمراء على أن ارتفاع أسعار الأعلاف والمكملات الغذائية الحيوانية هو السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار المنتج النهائي. وتنسحب نفس المعاينة على قطاع الألبان الذي يشهد منذ سنوات أزمات متواترة وحادة. تكلفة تغذية المواشي وتسمينها تمثل حوالي 70% من تكلفة إنتاج اللحوم الحمراء والألبان. لا يوفر الإنتاج المحلي من مختلف أصناف الأعلاف والمكملات إلا ثلثي احتياجات القطيع وأقل من ذلك في بعض السنوات، لذا يتم توريد بقية الكميات الضرورية. ومن البديهي أن كل زيادة مهما كانت طفيفة في سعر الأعلاف لها انعكاساتها على كلفة الإنتاج وثمن المنتج النهائي، فما بالك عندما تكون كبيرة ومتتالية بسرعة.  

كثيرون يربطون هذا الارتفاع في أسعار الأعلاف إلى الظرفية الدولية (الحرب الروسية-الأوكرانية وتبعاتها على الأسواق الفلاحية العالمية) والمناخية (تتالي سنوات الجفاف وتقلص الموارد المائية). هذا الكلام صحيح إلى حد كبير وتؤكده عدة أرقام ومعطيات، لكن تنقصه الدقة في تحديد جذور الأزمة وتتبع امتداداتها.  

شكلت الحرب الروسية-ا لأوكرانية بخاصة في عامها الأول عبءًا كبيرا على الاقتصاد والمجتمع التونسيين، فالدولتان من كبار مزودي البلاد بالحبوب التي تُستغل في إنتاج الدقيق والخبز والزيوت النباتية وكذلك أعلاف الحيوانات. اضطرّت تونس إلى البحث عن مزوّدين آخرين في مناطق جغرافية أبعد وبأسعار أعلى وتكلفة نقل أكبر. كل هذا بالتزامن مع أزمتين كبيرتين تعيشهما تونس منذ سنوات: تقلص احتياطي العملات الصعبة ودورة جفاف انطلقت منذ سنة 2020، واحتدت منذ سنة 2022.   

هذه العوامل مجتمعة جعلت سعر الشعير العلفي يرتفع من 420 دينار للطن الواحد في مطلع سنة 2021 إلى 800 دينار في الوقت الحالي، أما كسب الصوجا الذي كان سعره في حدود 1400 دينار سنة 2019 فقد صار يباع بـ1700 دينار في المسالك الرسمية وأكثر من 1800 دينار خارجها، في حين انتقل سعر الطن من العلف المركب المخصص لتسمين المواشي من 1029 دينار إلى 1359 دينار، وتجاوز سعر الطن من “السيلاج” (أعلاف خضراء مخمرة) 500 دينار، وزاد سعر الذرة العلفية بنسبة 42% ما بين سنتي 2021 و2022. حتى الأعلاف الرخيصة التي يعتمد عليها صغار المربين طالتها نار الغلاء، إذ صار كيس “السداري” (بقايا الحبوب المطحونة) المسعر رسميا بـ12،5 دينار يباع في السوق السوداء بثلاثة وأربعة أضعاف سعره الحقيقي، وقَفزَ سعر “بالة” (حزمة) التبن الذي كان يتراوح بين 6 و9 دينارات في سنة 2020 إلى حوالي 15 دينارا في 2023، أما “بالة القرط” (حزمة القش) التي كانت تباع بأقل من 10 دينارات في سنة 2020، فقد تجاوز سعرها في الأشهر الفائتة سقف الـ30 دينارا.  

خلقت الأزمات الثلاث (الحرب – الجفاف- نقص الموارد من العملة الصعبة) نقصا في الإنتاج المحلي من العلف وفي السلع المستوردة مقابل طلب متنامٍ عليها في السوق المحليّة، وهذا يعني -خاصة في ظل ضعف الإجراءات الرسمية المتخذة لتعديل السوق- فسح المجال للمحتكرين والمضاربين لكي يفرضوا أسعارا غير منطقية على مربّي الماشية الذين لا يمتلك أغلبهم إلا بضعة رؤوس من الأغنام. وبالطبع تؤثر أسعار اللحوم الحمراء بهذه الزيادة المشطة في تكلفة الإنتاج. لكن وعلى الرغم من اشتداد الأزمة في السنوات الأخيرة فإن إرهاصاتها ترتسم منذ عدة سنوات.  

ما بين 2011 و2018 خسرَ الدينار التونسي حوالي 70% من قيمته مقارنة بسعر صرف الأورو. في بلد يعوّل بشكل كبير على التوريد لتوفير أغلب حاجياته من المواد المصنعة وجزء من احتياجاته الغذائية البشرية والحيوانية يشكّل تدهور العملة الوطنية كارثة حقيقيةّ، إذ يعني اختلالا أكبر للميزان التجاري وتفاقما للدين الخارجي وارتفاعا في تكلفة الإنتاج في أغلب القطاعات وتآكلا للمقدرة الشرائية لعموم المواطنين. منذ 2017 بدأت احتجاجات المربين على أسعار الأعلاف تتواتر كما تزايدت عمليات تهريب الأبقار والعجول إلى الجزائر.  

ولا يقتصر الأمر على العملات الصعبة والتوريد، بل يتعداه إلى حجم الإنتاج المحلّي من الأعلاف الحيوانية. تراجعت المساحة المزروعة من 441،300 ألف هكتار سنة 2011 إلى 346.060 ألف هكتار خلال الموسم الفلاحي 2019 – 2020. وخلال نفس الفترة تراجع إنتاج الأعلاف الخضراء من 2678 إلى 1500 ألف طن، والسيلاج من 545،2 إلى 345 ألف طن، والذرة العلفية من 130 إلى 45 ألف طن. حتى مساحة الغابات والمراعي الطبيعية في تقلص مستمر، وخسرت قرابة خمس حجمها في العقود الأربعة الأخيرة: من 5،5 مليون هكتار في أواخر السبعينات إلى حوالي 4،5 مليون هكتار في الوقت الراهن.  

في المقابل هناك ارتفاع متواصل في حجم إنتاج الأعلاف المركبة خلال السنوات الأخيرة. ارتفعت كميات الأعلاف المركبة المخصصة لقطاع الدواجن من 895 إلى 1113 ألف طن ما بين 2011 و2020، والمخصصة للمواشي من 705 إلى 1144 ألف طن خلال نفس الفترة. هذه “المفارقة” منطقية وتنسجم مع توجهات السياسات الفلاحية الكبرى للدولة التونسية خلال العقود الأخيرة.  

فواتير قديمة حان وقت سدادها 

مع تتالي الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، سعَت الدولة التونسية إلى زيادة مداخيلها من العملات الصعبة وتعزيز “الأمن الغذائي”، فاختارت سياسة تكثيف الإنتاج الفلاحي النباتي والحيواني عبر عصرنة القطاع بـ”مكننته” والاعتماد المتزايد على الأدوية والأسمدة الكيميائية والتخصيب الصناعي والأعلاف المركبة. لا يمكن إنكار بعض الجوانب الإيجابية لهذه السياسات على مستوى زيادة الانتاج وتحقيق “اكتفاء ذاتي” شبه كامل. في ثمانينيات القرن الفائت كان إنتاج البلاد من اللحوم الحمراء يتراوح ما بين 70 و80 ألف طن سنويا، مما يغطي حوالي 80 % من الاستهلاك الوطني، وفي سنة 2007 تجاوز الإنتاج 120 ألف طن مع نسبة تغطية للاحتياجات تتجاوز 95 %. أما إنتاج لحوم الدواجن فقد شهد ما يمكن أن نسميه بالقفزة العملاقة، إذ انتقل من 31 ألف طن سنة 1985 إلى 134 ألف طن في 2015. وكذلك الأمر مع الألبان التي كانت كمياتها لا تتجاوز 250 مليون لترا مطلع ثمانينيات القرن الفائت، وتجاوزت المليار لترا مطلع الألفية الحالية. لكن هذه الأرقام يجب التعامل معها بحذر، فهي تحجب عدة حقائق.  

زيادة قطيع المواشي في تونس واتباع سياسة الإنتاج الفلاحي المكثف لهُما انعكاساتهما السلبية التي بدأت تتفاقم منذ سنوات، ونعيش اليوم تمظهراتها الحادة. مثلا الوجه الآخر للاكتفاء الذاتي في إنتاج اللحوم هو التبعية المتزايدة للأسواق الخارجية في مجال الأعلاف الحيوانية؛ تبعية ترتفع تكلفتها كل يوم أكثر بشكل يهدد استمرارية نشاط عشرات آلاف صغار مربي الماشية. الرعي الجائر (المفرط) هو أيضا أحد انعكاسات زيادة حجم القطيع وارتفاع أسعار الأعلاف. تركّز عدد كبير من صغار المربين في منطقة واحدة -خاصة مع اختفاء شبه كامل لفئة الرعاة والبدو المرتحلين- يعني استنزاف نفس المراعي بشكل لا يسمح بتجّددها ويدمر الغطاء النباتي في عدة مناطق، خاصة وأن أغلب المراعي الطبيعية في تونس تتركز في وسط البلاد وجنوبها أي المناطق التي تصنف شبه جافة أو جافة وحتى صحراوية. 

انطلقت سياسات تكثيف الإنتاج أواسط ثمانينيات القرن الفائت، أي بالتزامن مع انخراط تونس في “برنامج التعديل الهيكلي” المفروض من صندوق النقد الدولي كوصفة سحرية لـ”إنقاذ” الاقتصاد التونسي وتمكينه من “الإقلاع”. ومن أبرز بنود هذا البرنامج تقليص الإنفاق والاستثمار العموميين وانسحاب الدولة من عدة قطاعات إنتاجية لصالح المستثمرين الخواص بشكل كامل أو جزئي. إلى حد سنة 1992 كانت الدولة تمتلك وحدات إنتاج للعلف المركب قبل أن تتخلى عنها وتفسح المجال للمصنعين الخواص، ثم أنهت احتكار المؤسسة العمومية “ديوان الحبوب” لاستيراد حبوب الذرة و”فيتورة” (كسب الصوجا) المكونين الرئيسيين في صناعة الأعلاف المركبة. ولم تكتف بتمكين الخواص من السيطرة على استيراد وتصنيع الأعلاف، بل سهّلت لهم أيضا التحكم في مسالك التوزيع. في سنة 2003 تأسست “شركة قرطاج للحبوب” وحلت مكان الدولة في احتكار –شبه كلي– لاستيراد مكونات الأعلاف المركبة، وصارت توزع القسم الأعظم من السلع المستوردة على عدد محدود جدا من الشركات الخاصة الكبيرة التي تتولى بدورها بيع الأعلاف بالتفصيل لتجار الأعلاف الذي يتولون بيع المنتجات لمربي المواشي والدواجن، بالطبع بعد تحقيق هامش ربح كبير. هامش ربح أول للشركة الموردة وثان للشركات الوسيطة وثالث للتجار وفي كثير من الأحيان هامش رابع للمحتكرين والمضاربين. كل هذه “الهوامش” تُثقل فاتورة مربي المواشي خاصة الصغار منهم  الذين يجدون أنفسهم مجبرين على بيع الحيوانات بأثمان بخسة للوسطاء الذين يجولون الأرياف والأسواق الأسبوعية. وطبعا هناك هوامش الربح المرتفعة التي يحققها القصابون، حتى وإن زادت شكواهم في السنوات الأخيرة من ارتفاع إنتاج اللحوم الذي يؤدي بالضرورة إلى تراجع عدد المستهلكين. ومهما تقلصت هوامش الربح أو اتسعت فإن مربي الماشية الصغار والمستهلك هما الحلقتان الأضعف في سلسلة إنتاج وتسويق اللحوم الحمراء. 

حلقة مفرغة 

عندما يعجز المربي الصغير عن تغذية قطيعه محدود العدد وتوفير الأدوية وبقية المدخلات الفلاحية، فمن الطبيعي أن يفكر في التخلص منه. وهذا يحيلنا على بعض الظواهر التي استشرت في السنوات الأخيرة وتهدد القطيع بالتناقص السريع. نتحدث هنا عن ظاهرتين أساسيتين: الذبح العشوائي للمواشي وتهريب الأبقار إلى الجزائر، وكليهما يتسبب في تناقص أعداد إناث الماشية. كلا الممارستين غير قانونيتين وتمارسان خارج المسالك المراقبة، وبالتالي يصعب تقديم أرقام دقيقة عن مدى الخسائر التي تتسببان فيها، لكن الأرقام الرسمية يمكن أن تعطينا فكرة عامة عن الأضرار. حسب المعطيات التي يقدمها المعهد الوطني للإحصاء، فإن حجم قطيع الأبقار تقلص من 671,2 ألف في 2014 إلى 388 ألف في 2022، في حين تراجع عدد رؤوس الأغنام من 6805,7 ألف إلى 4637 ألف.  

على الرغم من ترسانة القوانين والمناشير المنظمة لعمليات ذبح المواشي فإن نسبة كبيرة منها تُذبح خارج المسالخ ودون أي إشراف من البياطرة ومهنيي الصحة، في الأرياف والأحياء السكنية، وعلى قارعة الطريق أمام محلات القصابين ومطاعم المشاوي وغيرها. وهذا لا يهدد فقط سلامة اللحوم الحمراء وصحة مستهلكيها ونظافة المحيط (الدماء والفضلات)، بل يؤثر أيضا على حجم القطيع، فعدد كبير من هذه المواشي إناث يتم ذبحها وبيع لحومها على أساس أنها لحوم عجول وخرفان، وأحيانا يكون المستهلك على علم بجنس الحيوان المذبوح لكنه يشتري اللحم نظرا لانخفاض السعر. علما وأن الفصل 36 من القانون عدد 95 لسنة 2005 المتعلق بتربية الماشية والمنتجات الحيوانية يُحجّر “ذبح إناث حيوانات المجزرة إلا في الحالات وحسب الشروط التي تضبط بقرار من الوزير المكلف بالفلاحة”، ويفترض ألا يتم ذبح إناث المواشي بدون ترخيص من طبيب بيطري، وذلك للحفاظ على القطيع.   

وتشهد البلاد منذ بداية احتداد مسألة الأعلاف وأسعارها –منذ سنة 2016 تقريبا- تطورا في عدد وحجم عمليات تهريب الأبقار إلى الجزائر، خاصة في مناطق الشمال الغربي الحدودية. آلاف الأبقار تَعبر الحدود سنويا إلى الشرق الجزائري حيث تباع بأضعاف الأسعار السائدة في تونس. أبقار أنفِقَت عليها ملايين الدولارات من الأعلاف والمكملات الغذائية والأدوية المستوردة تختفي فجأة من القطيع ولا يبدو –على الرغم من العمليات الأمنية ومساعي ترقيم القطيع وإرساء آليات تتبع لمسلك كل وحدة في قطيع المواشي– أن الظاهرة ستخفُت قريبا. 

اليوم، يبدو قطاع اللحوم الحمراء متروكا لرحمة السوق وسطوة كبار الفاعلين فيه. وعلى الرغم من النداءات المتواصلة من منظمات الدفاع عن المستهلكين والمنظمات المهنية إلى رئيس الجمهورية والحكومة بالتدخل العاجل، فإن التجاوب الرسمي ما يزال بطيئا ومحدود النجاعة. تُعلن الدولة من حين لآخر تخفيضا بقيمة بضع دينارات في سعر الطن من هذه المادة العلفية أو تلك، وتنظم حملات أمنية لمحاربة “مسالك الاحتكار والمضاربة”. أما على المستوى الاستراتيجي فما زالت الحلول المقترحة ضبابية وهي تقوم على محورين: الأول يتمثل في تشجيع بعث “شركات أهلية” مختصّة في إنتاج وتوزيع الأعلاف ودعمها بقروض بنكية ميسرة وتسهيلات جبائية بهدف كسر سيطرة كبار التجار والمصنعين. أما الثاني فيتمثل في إحداث “الديوان الوطني للأعلاف” الذي تتمثل مهامه – حسب الفصل الثاني من أمر عدد 25 لسنة 2024 – في:  

  • المساهمة في ضبط الاستراتيجيات الوطنية والقطاعية للنهوض بالموارد العلفية وحوكمة التصرف فيها. 
  • ضبط وتوفير الحاجيات السنوية من الموارد العلفية للقطيع. 
  • إنتاج وتوريد وتوزيع الموارد العلفية والاتجار فيها. 
  • تكوين المخزونات الاحتياطية منها والقيام بكل التدخلات الضرورية لتعديل السوق. 
  • المساهمة في إنجاز الدراسات الفنية والاقتصادية المتعلقة بمنظومة الأعلاف بما في ذلك تقديرات كلفة الإنتاج. 

وحسب نفس النص القانوني يخضع الديوان لإشراف الوزارة المكلفة بالفلاحة ويسيّره مجلس إدارة يرأسه رئيس مدير عام يعين بأمر. ويتساءل كثيرون عن الجدوى من بعث منشأة عمومية جديدة غير مستقلة في قرارها وما الفارق الذي سيصنعه مقارنة في ظل وجود “ديوان الحبوب” و”ديوان “تربية الماشية وتوفير المرعى” وغيرها من المؤسسات ذات الصلة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، مقالات ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني