رحلتي مع مهاجري جنوب الصحراء: البحث عن فاطمة جارتنا الجديدة


2024-05-27    |   

رحلتي مع مهاجري جنوب الصحراء: البحث عن فاطمة جارتنا الجديدة

يسرد هذا المقال أوضاع المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في مدينة جبنيانة (ولاية صفاقس) من خلال رحلة صحفية ذاتية واكبت تطوّر ظاهرة الهجرة غير النظامية في المدينة.

بعيدا عن السرديات التضليلية، تكشف هذه الرحلة عن جوانب إنسانية وثقافية وسياسية يُراد طَمسها باستمرار، وبخاصة تطور الخطاب العنصري وتحول العلاقات بين المهاجرين والسكان المحليين.

(هذه المقدمة من وضع المحرّر) 

من أين أبدأ؟ ربما من آخر الأحداث؛ يوم السبت 18 ماي 2024، خرج عدد من الأهالي من معتمدية جبنيانة، التابعة لولاية صفاقس، في مسيرة دعا إليها المكتب المحلّي للاتّحاد العامّ التونسي للشغل بالجهة. وقبلها، قامت منظمات المجتمع المدني في منطقة العامرة من ولاية صفاقس، يوم 23 أفريل 2024، بتنظيم مسيرة. ما يجمع المسيرتين هو المطالب والشعارات المرفوعة، وهي إيجاد حلّ للتواجد المكثّف لأفارقة جنوب الصحراء في المنطقة، مُنادين بعدم “توطينهم” وترحيلهم.

قبلها بأقل من سنة شهدت مدينة صفاقس أحداث طرد وترحيل قسري للمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء واعتداءت بالعتف الجسدي والمعنوي. جاءت هذه الأحداث بدفع من الخطاب الرسمي المعادي للمهاجرين، وضمن حملة تضليل وتحريض في مواقع التواصل الاجتماعي، جعلت من المهاجرين خطرا على الهوية والصحة العامة وعلى قوت السكان المحليين.

خلف هذه السردية، هناك عالم حيّ ومحسوس تُشكّله قصص مئات النساء والرجال والأطفال القادمين من جنوب الصحراء الإفريقية، يَحملون معهم زاد الرحلة وحُلمًا كبيرا بالعبور إلى الضفة الشمالية من المتوسط. وهذه العوالم المغيّبة بفعل الهيمنة والتجييش تستحقّ أن تُروى بطريقة مُختلفة. 

فاطمة، أو من أدخلني إلى عالم أفارقة  جنوب الصحراء

في أحد أيام الصيف الحارقة، بينما كنت جالسًا أمام دكّان والدي، أطلّتْ عليّ بنتان صغيرتان من ذوات البشرة السمراء. كانت ملابسهما رثة للغاية، وتحمل كل منهنا نصف قارورة ماء بلاستيكية فيها بعض القطع النقدية. طلبتا مني بلغة إنجليزية أن أقدّم لهما بعض النقود حتى تتمكّنا من شراء بعض الغذاء. تجاذبت معهما أطراف الحديث وطرحت بعض الأسئلة. إحداهما كانت خجولة واختارت السكوت، أما الثانية فتفاعلت معي. فاطمة وعائشة، بنتان من أصول نيجيرية. لا تعرف فاطمة، وهي التي تفاعلت معي، سنّها الحقيقي لكنها تقدره بـ8 سنوات، وعائشة أختها تصغرها بسنتين. تنتميان إلى عائلة تتكون من 5 أفراد، قَدمُوا كلهم من نيجيريا إلى تونس. لا تتذكر فاطمة متى تركت نيجيريا، وكم لبثت في الطريق إلى تونس. لكنها تعرف أنها أتت عبر الصحراء الجزائرية، ومنها إلى صفاقس ثم جبنيانة. تسكن فاطمة مع عائلتها في حقول الزيتون، أو كما يسميها أفارقة جنوب الصحراء (au zitoun)، أي بنفس التسمية المحلية، وذلك لتسهيل التواصل مع السكان المحليين. وهم لا يسمّون كذلك الأماكن بتسمياتها، أي لا يقولون العامرة أو جبنيانة أو المساترية، بل يسمونها بالكيلومتر حسب بعدها عن مركز ولاية صفاقس. فمنطقة العامرة هو الكيلومتر 30، والمساترية هي الكيلومتر 33، وبجوار معهد 18 جانفي بجبنيانة هو الكيلومتر 36، وهكذا… وهذا يُسهّل لهم تحديد مكانهم بدقة خاصة في ما بينهم. تسكن فاطمة مع عائلتها في الكيلومتر 30، أي بمنطقة العامرة. وتأتي يوميا إلى مدينة جبنيانة للتسول مرفوقة بأختها وصديقاتها. إذ أن أباها يتحاشى الخروج من الزيتون خوفا من البوليس وأمّها ترعى أختها الصغرى ابنة السنتين. لذلك مهمة جلب الأموال تكون على عاتق فاطمة وعائشة. من يومها تكونت صداقة مع فاطمة وأصبحت تزورني بشكل دوري، وكانت تلك الزيارات فرصة للاطمئنان عليها وعلى عائلتها.

منذ 5 سنوات تقريبا،  بدأت بوادر الحديث في منطقة جبنيانة والعامرة عن الأفارقة من جنوب الصحراء وتواجدهم بيننا. لكن في ذلك الوقت، لم يكن هؤلاء يعيشون بيننا. يأتون فقط للعبور نحو إيطاليا، وتشاهدهم في بعض الأحيان يسيرون مجموعات على أقدامهم نحو صفاقس المدينة،  بعد أن أحبِطت محاولة هجرتهم غير النظامية من قبل الحرس البحري. لكن إلى حدود ذلك الوقت لم يكن لهم حضور ملفت في المدينة، وتمركزهم الأساسي كان كبيرا وسط ولاية صفاقس، حيث كان يقدر عددهم بالآلاف. ومع بداية الاحتقان بينهم وبين بعض أهالي صفاقس، اكتشف بعضهم أن الوضع يمكن أن يتطوّر إلى الأسوأ فاختاروا البحث عن مكان آمن يلجؤون إليه، وقد وقع الخيار على منطقتيْ العامرة وجبنيانة. كانت هذه النواة الأولى من الأفارقة من جنوب الصحراء التي استقرت في المنطقة. إلى أن حصل التصادم بين الأهالي والأفارقة من جنوب الصحراء في صفاقس المدينة، وتم طرد العديد منهم من منازلهم والاعتداء على آخرين في جويلية 2023. تلتها عملية أمنية كبيرة في ولاية صفاقس من أجل “تطهيرها” وطرد المهاجرين في 16 سبتمبر 2023. كان لهذين الحدثين الأثر الكبير ونقطة تحول مهمة. فقد صارت مدينة صفاقس طاردة لهؤلاء للمهاجرين ومكانا غير آمن لهم. وعليه، اختاروا البحث عن مكان آخر للعيش، والذي كان من الكيلومتر 25 إلى حدود الكيلومتر 36، أي من منطقة الكتاتنة إلى جبنيانة مرورا بالعامرة. في ذلك الوقت ترى الطريق الرابط بين صفاقس وجبنيانة، أو كما يسمى طريق المهدية، مكتظا بهم، يسيرون خلف بعضهم في شكل مجموعات، نساءً ورجالا، صغارا وكبارا. يختارون السير ليلا لتفادي شمس النهار الحارقة. فاطمة كانت إحدى هؤلاء الذين شقوا هذه الطريق قبل أن يستقرّ بها الأمر وعائلتها في الزيتون.

لكن لماذا اختار أفارقة جنوب الصحراء هذه المنطقة بالذات للاستقرار فيها؟ أولا لقربها الجغرافي من مدينة صفاقس. ثانيا، كما سبق وأشرت، فإن سواحل هذه المنطقة كانت منطلقا لحرقة أفارقة جنوب الصحراء نحو إيطاليا، وهذا نظرا لتاريخ المنطقة التي كانت نقطة انطلاق رئيسية للهجرة غير النظامية نحو إيطاليا منذ ثمانينيات القرن الماضي. إذا بالنسبة للمهاجرين من جنوب الصحراء تعتبر هذه المنطقة هي الأحسن لتنفيذ مشروعهم يالهجرة. وثالثا وهو الأهم، كان ذلك خيار وزارة الداخلية التي دفعتهم نحو المنطقة للحفاظ على أمن وجمالية مدينة صفاقس وامتصاص الاحتقان الشعبي فيها.

فاطمة، جارتنا الجديدة

منذ عملية الهجرة الكبيرة من مدينة صفاقس إلى مدينتي العامرة وجبنيانة، تغيرت ملامح المدينة. حيث أصبح يتواجد العديد من ذوي البشرة السوداء في كل مكان تقريبا، في الشوارع والمقاهي والدكاكين… استطاع هؤلاء الدخول بسهولة في المجتمع المحلي، ويعود ذلك أساسا إلى أن جبنيانة والعامرة هي مناطق نصف ريفية وبها مناطق كثيرة ريفية. على عكس المدينة (صفاقس وتونس العاصمة) ما زالت هذه المناطق تحمل مبادئ قبول الآخر وإكرام الضيف. وما زالت الروابط الاجتماعية التقليدية فيها متينة، حيث يمكنها القبول بجسم جديد يعاني من أزمة. وما زالت فيها مظاهر الشعور بالشفقة و النظر بعين الرحمة للغريب. لذلك لم يجد الوافدون الجدد مشكلة في العيش داخلها، فلم يطردهم أصحاب حقول الزيتون. وقدّم لهم الأهالي يد العون، حيث مدوهم بالملابس والطعام وحتى الأموال. ووصل الأمر ببعضهم إلى بناء حنفيات أمام منازلهم حتى يتمكن هؤلاء من الحصول على الماء. بل وأكثر من ذلك؛ هناك من قام بتبني بعضهم والتكفل بكل مستلزماته، بما في ذلك السكن. كما شغّلوهم في جني الزيتون. وقد حدثني موسى، أحد المهاجرين، مرة في أحد المقاهي، قائلا:  “أنا هنا مرتاح أكثر من صفاقس. صحيح هناك كان لي منزل وأشتغل من حين لآخر، وهنا أبيت في العراء تحت الزيتون، لكن أنا هنا في مأمن. لا أحد يسرق هاتفي أو نقودي، ولا أحد يتحدث معي بلهجة عنصرية”. هكذا استطاع، في البداية، الأفارقة من جنوب الصحراء التأقلم مع المجتمع المحلي والعيش في المنطقة بسهولة. وهو ما كان يدفع فاطمة للنزول يوميا لجمع بعض المال.

البوليس والعنصرية، الهجوم المتزامن

في البداية بدأت المشكلة مع قوّات الحرس، وذلك بعد اعتداء  بعض المهاجرين على عوني حرس وافتكاك سلاح أحدهم في مدينة العامرة، في 27 نوفمبر 2023. اعتبَرت وزارة الداخلية حينها أن الأمر أصبح مقلقا، إذ أنّ وجود هذا العدد الكبير من أفارقة جنوب الصحراء في المنطقة يمكن أن يشكل تهديدا أمنيا. وذلك  انطلاقا من الحجة التي تقول بأنه في صورة تمرّدهم لن يكون بمقدور الأمن السيطرة عليهم لكثرة أعدادهم.  هكذا عمدت القوات الأمنية إلى اعتقالهم وإرسالهم  إلى المناطق الداخلية، وخاصةً إلى الحدود الجزائرية والليبية. وكان الاعتقال يتم في الشوارع، في انتهاك تامّ للقوانين وحقوق الإنسان. فأي مهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء يتمّ اعتقاله حال مشاهدته في الطريق. ويعود جلّهم بعد ذلك إلى المنطقة سيرا على الأقدام.

كانت تلك أول مرة تغيب فيها فاطمة عني، فخفت أن تكون قد تعرضت للاعتقال، لكن بعد فترة زارتني وقالت أن المرض هو الذي منعها من القدوم، وأن البوليس لا يعتقل النساء والأطفال. ثم تطور الأمر، ليقوم البوليس بمداهمات للأماكن التي يسكن فيها الأفارقة من جنوب الصحراء، أي في حقول الزيتون، ويكون مصحوبا بالجرافات، حيث يقوم بهدم الخيام وإحراقها، ونتيجة لذلك احترقت بعض أشجار الزيتون. وبقي هذا الأمر متواصلا إلى الآن.

عادتْ صديقتي فاطمة للغياب. لكن مدته طالت هذه المرة. لكن المخيف في الأمر هو ولادة شيء جديد في المجتمع المحلي في المنطقة. فعلى غرار اعتداءات البوليس المتكررة على الأفارقة من جنوب الصحراء، أصبح هناك نوع من الخطاب الذي يتّسم بالعدوانية والعنصرية. وهو ما جعلني أقلق أكثر على وضعية فاطمة وغيرها. حاولت فهم هذا التحول على مستوى خطاب المواطنين، حيث شاعت جمل مثل “سيقومون باحتلالنا، سيخرجوننا من منازلنا، سيفتكون أرضنا…” ندى صديقة لي، صاحبة محل ملابس مستعملة وتبلغ من العمر 32 سنة وأصيلة جبنيانة. أعرفها مُحبة للأفارقة من جنوب الصحراء لكن فجأةً غيرت موقفها، “لقد اعتدوا على امرأة مسنة وقاموا بضربها دون شفقة أو رحمة. وكذلك فعلوا مع بنت صغيرة ذات 3 سنوات”. وهي تحدثني دخلت علينا بنت صغيرة من  إفريقيا جنوب الصحراء تستجدي بعض المال فأعطتها قطعة مالية وأكملت حديثها، “لقد احتلوا أرضنا وحوّلوها إلى مخيم، يجب طردهم من هنا.” رغم معارضتها لوجودهم، فإنها لم تتوقف عن مساعدتهم، وهذا حال الجميع هنا. ويعود هذا التغير لعدة أسباب، أهمها كثرة عدد المهاجرين من جنوب الصحراء في المنطقة. في البداية كان عددهم قليلا، لكن مع الوقت ما انفك في الارتفاع،  ولاتوجد أرقام رسمية ودقيقة لعددهم الفعلي وتبقى كلها تقديرات، لكن الأكيد أنهم يُقدّرون ببعض الآلاف. وهو من الصعب على المجتمع المحلي تقبله. وتفرز  الهجرة الجماعية إلى المنطقة عديد التغيرات الاجتماعية، مثل تغير شكل الفضاء العام من خلال وجود عدد كبير من ذوي البشرة السوداء لم تعتدْه المدينة. إضافة إلى التغيُّر في اللغة المنطوقة التي لم تعد تقتصر على الدارجة بل أصبح هناك الفرنسية والإنجليزية. وتغيّر دور حقول الزيتون من فضاء فلاحي إلى مكان استقرار وعيش لآلاف من الناس…كل هذه التغيرات التي  حدثت في وقت وجيز لم يكن بمقدور المجتمع المحلي تقبّلها بسهولة، ولذلك خَلَق آليات دفاعية لحماية نفسه من هذا الجسم الغريب عنه.  تأرجح السكان المحليون بين محددّين أساسيين: أولا، البنى الاجتماعية التي تحدد سلوكهم مع الضيف وضرورة إكرامه. وثانيا،  مسألة حماية  أنفسهم من التغيّرات التي من الممكن أن يحدثها هذا الجسم الغريب  داخله. لذلك نجد تناقضا داخل سلوك الأفراد، كأن يدعون إلى ترحيل هؤلاء وإبعادهم، وفي نفس الوقت يطالبون بأن لا يتم الاعتداء عليهم كما وقع في عدة مناطق، بل وأكثر من ذلك مساعدتهم بالأموال والملابس. ومن ضمن آليات دفاع المجتمع المحلي عن نفسه هي الإشاعة.

 لتأجيج الأوضاع من أجل خلق بيئة طاردة لأفارقة جنوب الصحراء في الجهة، التجأ الناس إلى خلق الإشاعة. إذ تستمع بشكل دوري عن اعتداء أفارقة جنوب الصحراء على نساء وأطفال وممتلكات خاصة. ويكون إخراج هذه الإشاعة بإعطائها طابعا عنيفا، حيث تتضمن عادة استعمال آلات حادة وعنف مادي وأضرار مادية. لكن لا شيء يُثبت في الواقع هذه الإدّعاءات، لا شهود عيان على ذلك ولا شكاوى. لا يمكن إنكار وجود بعض التجاوزات من أفارقة جنوب الصحراء، لكنها لا ترتقي لما يروّجه الناس في المنطقة. خَلقَت الإشاعات بيئة مساعدة لقبول فكرة معاداة أفارقة جنوب الصحراء. لكن لم يصل الأمر بعد إلى حدود بروز أصوات مُنظمة لتكوين حراك رافض لهذا الجسم الاجتماعي الوافد على المنطقة، واقتصر الأمر على التذمر الشعبي غير المُعلن. وكانت النقطة الفارقة هي انتشار الإشاعة الكبرى التي تقول بأن هؤلاء جاؤوا للاستيطان في تونس وفي المدينة خاصةً، وأنهم يريدون تغيير التركيبة السكانية. لا يوجد في الواقع ما يثبت هذا الكلام، لا من خلال خطاب المهاجرين أو من خلال تقارير موضوعية. وهو ما يجعله لا يخرج عن إطار الإشاعة. ومصدر هذه الإشاعة هي جهات سياسية، في البداية روّج لها الحزب القومي التونسي، ومن ثمّ رئيس الجمهورية وعدد من النواب. إذا يمكن القول أن ما دفع الناس لرفع شعارات عنصرية والقيام بتحركات ذات طابع عنصري، تدعو فيها إلى طرد المهاجرين من جنوب الصحراء، هو الخطاب والتوجه السياسي المهيمن على المشهد.  هكذا فإن العامل السياسي  دفع الناس نحو العنصرية. فهي لم تكن موجودة في بنية تفكيرهم المجتمعي. وأصبح هناك تحرك للمجتمع المدني و في مقدمته المكتب المحلي للاتّحاد العام التونسي للشغل، ونُظّمت المسيرات، وأصبح هناك ما يشبه بالحشد الشعبي الذي يطالب بالترحيل ورفض التوطين.

حقول الزيتون، فضاء العيش الجديد

زاد خوفي الشديد على صديقتي فاطمة، بخاصة بعد ارتفاع منسوب العنصرية في المنطقة. فقرّرت أن أذهب للبحث عنها في حقول الزيتون. ذهبت إلى إحدى نقاط تمركز المهاجرين في الكيلومتر 33. بوصولي وجدت أحد السكان المحليين يتجول بين بقايا خيام مدمرة وبعضها رماد يخرج منها الدخان علامة على حريق حديث. “أنا صاحب هذه الأرض التي كان يسكنها الأفارقة من جنوب الصحراء. لقد أتت قوات الأمن وأخرجتهم من المكان، وكما ترى أُحرقَت بعض الخيام ودُمّرَت أخرى بالجرافات” سكت برهة ثم واصل: “لم يكن بمقدوري القيام بحرث الأرض وقد قدّمت عديد الشكايات للأمن، وهناك بعض الزيتون الذي تضرر نتيجة تعرضه للحرق. أنا الآن سأقوم بعمليات الحرث لكني خائف من أن يقوموا بالاعتداء علي وعلى صاحب الجرار.” ثم طلب مني أن أطلب منهم أن لا يقوموا بذلك. وعدته بأن أقوم بذلك، ثم واصلت طريقي نحو المكان الذي يعيش فيه مهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء. اعترضني أحدهم، قدّمت له نفسي وأخبرته أنّي هنا للوقوف على مشاكلهم. لكنه توجّس مني، ربما اعتقد انني من أعوان البوليس، وأرسلني للتحدث مع أشخاص آخرين داخل المخيم.

يخضع المخيّم إلى تقسيم دقيق، فهو مكوّن من خيام مصنوعة من أغلفة بلاستيكية تُستعمل عادةً لصنع البيوت المكيفة الفلاحية. وتكون هذه الخيام تحت أشجار الزيتون حتى تحميها من الأمطار شتاء وتستفيد من ظلالها صيفا. وهناك مكان محاط بغلاف بلاستيكي من دون سقف يُستعمل كمطبخ مشترك، ويكون من دون سقف حتى لا يحترق بفعل نيران الطبخ. إضافة إلى مكان للصلاة بُني بقوارير البلاستيك المعبأة بالتراب. وعلى جانب المخيم يكون هناك مكان للعب كرة القدم وممارسة الرياضة. إلى جانب خيمة للاستحمام. وتُنشر الملابس بعد غسلها على أغصان أشجار الزيتون. وأمام الخيام توجد بقايا رماد، هي آثار نيران توقد للتدفئة بعد جمع الحطب من ضيعات الزيتون.

حين وصلت بدأت الأمطار بالهطول، ألقيت نظرة شاملة، فلم أجد فاطمة هناك. توجّهت أين أرسلني الشخص الأول. قدّمت نفسي وغرض الزيارة، توجّسوا في الأول إلى أن أتى شخص وسألني هل تتحدث الإنجليزية، فأجبته “قليلا”. وعندها تجاوزنا جدار التوجّس. لم أستطع القيام بمقابلات صحفية ترتكز على سؤال وجواب. فالجميع كان يريد التحدث، وقد زاد تهاطل الأمطار  من صعوبة الأمر. ففضلت أن يكون الأمر في شكل مقابلة جماعية. هناك وجدت مهاجرين من جنسيات إفريقية مختلفة. داخل مُخيم يحتوي على 200 شخص تقريبا، أفراد قادمين من الكاميرون، مالي، نيجيريا، ساحل العاج، غامبيا، السيراليون…وُيوجد فيه كذلك نساء ورجال مسلمون ومسيحيون. “هنا لا يوجد فرق بيننا، كلنا أفارقة من جنوب الصحراء. لا نأبه بالجنسيات ولا بالديانات فكلنا إخوة”. هكذا لخّصَ تيري ابن 30 ربيعا وضعيتهم هناك. الأوضاع المشتركة والهدف المشترك خلقت نوعا جديدا من الانتماء. هنا الانتماء القطري والديني لم يعدْ ذا معنى، بل أصبح الانتماء إلى إفريقيا جنوب الصحراء هو المحدد. فالكثيرون يأتون، على سبيل المثال، من بلدان تشهد حروبا قبلية أو أهلية. لكنهم هنا يعيشون جنبا إلى جنب في نفس المخيم، رغم أن “تيري” الذي يعيش هنا مع زوجته كريستين جاءا من الكاميرون هربا من الحرب الأهلية أخذت طابع حرب بين المسيحيين والمسلمين، وقد خسرت كريستين المسيحية والديها، إلا أنها في المخيم تعيش مع المسلمين بشكل عادي وأخوي. فهي هنا لم تعد كاميرونية مسيحية تعيش الحرب، بل أصبحت إفريقية من جنوب الصحراء تبحث عن الهجرة إلى أوروبا. هذه المخيمات تَخلق فعلا الوحدة الإفريقية وتتجاوز مشاكل القارة الإثنية.

أخبرتهم أن الدولة تتهمهم بالاستيطان في تونس، فجاءتني إجابات متفرقة وبلغات مختلفة. “ما حاجتنا إلى تونس؟” “نريد أوروبا” “هل تعتقد أننا فرحون بالعيش بهذه الطريقة؟” “في تونس لا يوجد حتى شغل ماذا سنفعل هنا؟”، “لو يفتحوا لنا البحر أسبوعين لن يبقى إفريقي من جنوب الصحراء هنا.” ثم يردّ أحد المتحدثين “لو يُفتح البحر يومين فقط سنرحل جميعا”. في هذا المخيم لا يوجد أطفال، لكن أخبروني أن في المخيم الذي كان بجانبهم، والذي قام البوليس بهدمه، كان هناك أطفال ورضّع لكن أخذوهم إلى ليبيا.

يُنظّم البوليس حملات على هذه المخيّمات باستعمال الجرّافات، ويستعمل في أحيان عديدة الغاز المسيّل للدموع. وبعض المهاجرين الذين لم يُسعفهم الحظّ للهرب يتمّ إيقافهم. يختار بعضهم العودة الطوعية إلى بلدانهم، فيما يَتم ترحيل البقية إلى المناطق الحدودية الجزائرية والليبية، وفي الجانب الليبي يقع إجبارهم على الدخول إلى التراب الليبي. وبذلك يُصبح المهاجر في حالة خوف دائم من البوليس، ما يدفعهم إلى تحاشي النزول إلى المدينة ودائما في حالة استعداد للهرب من المخيم.

“أنا طالب لجوء، وزوجتي كذلك. ورغم أننا نتمتع بمساعدة من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلا أننا لم نتحصل عليها”. هكذا صرّح تيري، مضيفا: “لا أستطيع الذهاب للحصول على المساعدة فأنا أخاف من أن يقبض عليّ البوليس. ورغم أن صفتي تحميني قانونيا، إلا أن البوليس لا يطلبها منك أصلا، بل يقوم باعتقالك مباشرة. أعرف الكثير من طالبي اللجوء الذين قُبضَ عليهم”.

يأتي هؤلاء من ثلاث طرق هجرة رئيسية؛ أولها عبر الجو بالنسبة للدول الإفريقية التي لا تحتاج تأشيرة دخول إلى تونس. ثانيا عبر الصحراء الجزائرية. وثالثا الذين يعترضهم الحرس البحري أثناء رحلتهم الهجرية غير النظامية المنطلقة من السواحل الليبية ويُدخلهم الأراضي التونسية. وهناك أيضا من يحملون الجنسية البنغالية (القارة الآسيوية) الذين يأتون من ليبيا.

موسى، عامل في دكان بجانب المخيم، سلك طريق الصحراء، ومن تبسّة الجزائرية دخل إلى القصرين ومنها وبعد مسيرة 12 يوما وصل إلى صفاقس. أخوه سلك نفس الطريق سابقا قبل أن ينجح في الوصول إلى إيطاليا ونصحَه بالذهاب إلى جبنيانة. فجاء موسى مع زوجته الحامل في الشهر السابع. ينجح آخرون في القدوم من تبسة الجزائرية إلى صفاقس في سيارات. يدفعون مبلغ 1000 دينار إلى مهربين جزائريين يُدخلونهم إلى تونس خلسة ويسلّمونهم إلى آخرين في القصرين يقّلونهم في شاحنات صغيرة إلى حدود ولاية صفاقس، ليُكمِلوا رحلتهم إلى جبنيانة والعامرة مترجلين. عاش موسى وزوجته تجربة الحرقة إلى إيطاليا. لكن الحرس البحري أحبطها “في البحر، بعيدا عن الشاطئ بـ15 كيلومتر تقريبا، أوقفنا الحرس البحري وأخذَ المحرّك وتركنا هناك. اضطررنا إلى استعمال أوعية الوقود (Bidon) في التجديف، بعد قطعها نصفين، من أجل العودة إلى الشاطئ”.

لم أجد فاطمة، فُعدت أدراجي تحت المطر محمّلاً بخيبة لما شاهدته من مأساة. وتركت أناسا يبحثون عن مصيرهم غير الواضح. فيمكن أن ينجحوا في الذهاب إلى إيطاليا، كما يمكن أن يأكلهم البحر أو يتم ترحيلهم إلى ليبيا.

الحرقة: العملية المركبة

ربما فاطمة لم تعدْ تبرح مكانها خوفا. وربما أخذوها إلى مكان آخر. وربما نجحت في الذهاب إلى إيطاليا. عملية الحرقة يتدخّل فيها عديد الأطراف. يُنسق الأفارقة من جنوب الصحراء مع الكابو (cappo) وهو إفريقي من جنوب الصحراء يعيش غالبا في مدينة صفاقس. يُعطونه المال ويحتفظ بطريقة للاتّصال بهم. يدفعون له بين 1500 و 2500 دينار. ويقوم هو بالتنسيق مع الحرّاق (المهرب الذي يقوم بعملية الحرقة) وهو تونسي الجنسية. يُقّدم له بين 40 و45 شخص في الرحلة الواحدة، حسب عدد الأطفال في الرحلة، مقابل 50 ألف دينار. ليلة الرحلة يتصل “الكابّو” بالأشخاص ويحدّد لهم نقطة التقاء. من هناك تأتي شاحنة من نوع OM تقلّهم للمكان الذي توجد به السفينة (فلوكة أو شقف) ليحملوها في الشاحنة، ومن ثمة إلى الشاطئ. مع هذه الشاحنة تكون هناك أخرى أصغر من نوع Ford، يُحمَل فيها المحرك والبنزين والمهاجرين. كذلك يكون هناك الكشافة، وهم أشخاص على متن دراجات نارية من نوع Forza. مهمّتهم كشف الطريق والتثبت من عدم وجود رقابة أمنية. تكلفة الحرقة حوالي 36 ألف دينار موزعة كالآتي: 13 ألف دينار للفلوكة وهي مصنوعة من الحديد، 15 ألف دينار للمحرك، 1.5 ألف دينار للكشافة وعددهم 3 كل واحد منهم 500 دينار، 3 آلاف دينار لصاحب شاحنة OM، وألف دينار للسائق، 800 دينار للوقود، ألفا دينار لشاحنة Ford.

تأخذ الرحلة طرقا فرعية حتى الشاطئ للهروب من أعين البوليس، ومن هناك تنطلق الرحلة. لكن في كثير من الحالات يلفظ البحر الجثث ليُعلن أن رحلة الأمل التي بحث عنها هؤلاء انتهت إلى الموت.

لم أجد فاطمة، لكن لعلّها تعرف أنني بحثت عنها وسأواصل البحث…

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني