مقتل “سليمان” يطلق شياطين التحريض في كل اتجاه: “الحقّ بالفتنة” ومقاومة “الاحتلال الديمغرافي”


2024-05-27    |   

مقتل “سليمان” يطلق شياطين التحريض في كل اتجاه: “الحقّ بالفتنة” ومقاومة “الاحتلال الديمغرافي”

ضجّ الخطاب العام في الشهر الماضي بحادثة خطف باسكال سليمان في 7 نيسان، وهو منسق القوات في قضاء جبيل ومسؤول ال”IT” في أحد المصارف اللبنانية المتعثرة “بنك بيبلوس”. وإذ أخذ التخاطب أبعادا سياسية وطائفية خطيرة بفعل هوية الضحيّة، نجحتْ الأجهزة الأمنيّة خلال فترة وجيزة في توقيف المُرتكبين وتحديد مصير سليمان واسترداد جثته من سورية، مؤكدة في روايتها أن الجريمة هي مجرّد جريمة قتل تمّت على يد عصابة سرقة سيّارات سوريّي الجنسيّة. رفضتْ القوّات بداية وبوضوح البيان الذي أصدره الجيش، حتّى أنها أصدرت بياناً مضادّاً قالت فيه أنّ ما جرى اغتيال سياسيّ متعمّد “حتّى يثبت العكس”، وأطلقت جهات مقربة منها أو متعاطفة معها حملةً إعلاميةً تحت شعار “ما بتقطع” تشحن فيها قواعدها، أعقبها أعمال عنف ضد عابرين في الشوارع، لا لشيء إلا أنّهم سوريّون. واللافت أنّ هذه الحادثة المؤلمة فتحتْ المجال أمام تنامي خطاب هوياتي امتزجتْ فيه الاتهامات السياسية ضدّ حزب الله وقد أخذ بعضها طابعا طائفيا واستنكار التواجد السوري وما رشح عنه فعليا من خطاب كراهية ضدّ السوريين عموما.

بالمقابل، بقيت فرضية ارتباط الجريمة بوظيفة الضحية في بنك بيبلوس هامشية في الخطاب العام ومحصورة على منصّة “إكس”. وإذ قاربتْ بعض المقابلات التلفزيونيّة هذه الفرضيّة عرضاً، فإنها عادتْ لتقلّل من شأنها، على اعتبار أنّ سليمان لا تخوّله وظيفته الاطّلاع على معلومات حسّاسة.

تتبّع هذه المقالة أربعة أشكال من الخطاب التحريضي وما رافقها من أحداث الشهر الماضي؛ بدءاً من تغذية العصبيّة الطائفية في سرديّة الاغتيال السياسي، ومن ثمّ إثارة كراهية الأجانب (الكزينوفوبيا)[1] مع ما يستتبعها من تطبيع مع فكرة “العقاب الجماعي”، وصولا إلى اعتماد شعار يجمع “محاربة التهريب” و”السلاح الغير شرعي”.

تغذية العصبيّة الطائفية في سرديّة الاغتيال السياسي

في 7 نيسان، دعا عددٌ من نوّاب القوّات الأجهزة الأمنيّة للكشف السريع عن ملابسات خطف سليمان، واعتبر نائب جبيل زيّاد الحوّاط أنّه أمام الأجهزة فترة محددة للقيام بذلك، وأردف أنّ “للمنطقة رجالها وأربابها وقادرة على حماية نفسها، لكن حتى اللحظة لا زلنا تحت سقف الدولة”. النائب بيار بو عاصي وصف الحدث بالعمليّة الإرهابيّة محمّلاً وزراء الداخليّة والدفاع والعدل مسؤولية كشف مصير سليمان. ودعا مدير مكتب رئيس حزب القوات إيلي براغيد، إلى قطع الطرقات مؤكّداً بأنّ الحزب سيذهب من تصعيد إلى تصعيد ف “إمّا يوجد دولة أو نقوم نحن بواجبنا كاملًا”. وصبّت تعليقات لنوّاب ومسؤولين في القوّات حول أنّ الأمر “لن يمرّ مرور الكرام”.

بدا الإتهام جاهزاً، حتّى أنّ بعض التصريحات قلّلت من أهميّة معرفة الجاني، فاعتبر النائب نزيه متى أن الأهم “هو تحديد هويّة من شرّع الأرض لهكذا ارتكابات”. وهو ما ألمح إليه النائب جورج عقيص بوضعه الحادثة كما حادثة مقتل الياس الحصروني في سياق انزعاج من مواجهة القوات ل”محور الشرّ”، وأكّد أنهم سيصعّدون على اعتبار أنّ “السيل بلغ الزبى” وأنّه “ما حتبقى ساكتين”. وفي السياق ذاته، كتبت النائبة غادة أيوب على “إكس”: “لا تعتقدوا بأنّكم أقوياء بأسلحتكم بل أنتم أضعف الضعفاء”. كما انتشر بوستر للضحيّة سليمان مع تعليق “ما بتِقطع”. ودعتْ القوات إلى إقفال جميع المحال في جبيل. فيما علّق النائب ريتشارد كوميجيان على “إكس” بالقول: ” شيعة جبيل أهلنا وأصدقاؤنا، لكنك وحزبك (يقصد أمين عام حزب الله)، شكلت وتشكل بيئة حاضنة للخطف والتهريب والابتزاز وانتهاك القانون والفتن”.

إلا أن هذا الخطاب الاتهامي ضد حزب الله اصطدم أولا بما نشره موقع الجيش الرسمي على منصّةإكس في 8 نيسان، أي بعد يوم من خطف سليمان. فقد أعلن الجيش أنّ مخابراته تمكّنت من توقيف معظم أعضاء العصابة المشاركين في عملية الخطف، وأنّ التحقيق بيّن أن المخطوف قُتِل من قبلهم أثناء محاولتهم سرقة سيارته في منطقة جبيل، وأنهم نقلوا جثته إلى سوريا. وأردف بيان المخابرات أنّ التحقيقات تستكمل بإشراف النيابة العامة التمييزية وتحديد مكان المخطوف ودوافع العملية. وما أن نشر هذا البيان، حتى باشر قواتيّون التهجّم على ما كشفه التحقيق. فقد عبّر بوعاصي على منصّة “إكس”، عن عدم ثقته بالأجهزة الأمنية و”وزراء الوصاية”. وعلّق الحوّاط  أنّه “لا يمكن أن تبقى الناس المسالمة مشاريع شهداء في دولة غير موجودة”. وكانت بدأت بالفعل موجة اعتداءات على سوريين وممتلكاتهم في مناطق عدّة. كما تداعت التعليقات تحت “تغريدة” بيان الجيش، فتساءلتْ إحداهنّ على صفحة الجيش، “كيف عصابة سرقة سيارات؟ وسيارته عُثر عليها مش ماخذينها؟” وعلّق آخر “وشو عنوان الفيلم؟ عصابة الرداء الأصفر؟” وسيقت أسئلة أخرى حول سبب أخذ الجثّة إلى سوريا، فيما شتم أحد الناشطين البارزين الجيش، قال: “أنتم كلاب حثالة مرتزقة عند حزب الله”.

ومنذ 8 نيسان، انقسمتْ القوى السياسيّة في اتجاهات عدة، الأوّل انجرّ إلى التحشيد الطائفي على أنّ الجريمة “لن تمرّ مرور الكرام”. وكان في طليعة هؤلاء الكتائب وبعض قوى ما كان يعرف ب14 آذار ومستقلون. وقد استخدموا مروحة واسعة من التعليقات التحريضيّة. وتماشتْ مجموعة أوسع من القوى مع هاجس التوحّد الطائفي في مواجهة الجريمة. وهذا ما نستشفّه من اجتماع “لجنة مُتابعة إعداد الوثيقة الوطنيّة” في بكركي للتعبير عن موقف موحّد للأحزاب السّبعة الممثلة في السلطة ذات الطابع المسيحي[2]، وإن اقتصر بيانها على ضرورة “كشْف الحقيقة كامِلةً مع إحقاق العدالة”. بالمقابل، أدانت قوى أخرى خطاب وانفعالات القوات من منطلق أنّها فتنوية خطيرة “حتى انقطاع النفس” (حزب الله وحلفاؤه)، فيما اكتفى آخرون بالدعوة إلى التهدئة.

وأعاد المشهد إلى الأذهان مشاهد تحريضيّة مماثلة أودت أو كادت تودي إلى دورات من العنف والاحتراب. لعلّ أبرزها ما جرى العام الماضي في إثر اختفاء الشيخ أحمد الرفاعي في تاريخ 20/2/2023. وكانت التهم السياسيّة جاهزة على وسائل التواصل الإجتماعي، بخاصّة ضدّ حزب الله على اعتبار أنّ الشيخ “اشتُهر بمناوءته محور إيران” وذكرت تعليقات له على “فايسبوك” في هذا الصدد. وكان مشهد قطع الطرقات حاضراً أيضاً في عكّار. ووجهت اتهامات لمخابرات الجيش وأخرى للأمن العام باحتجاز الشيخ. ودعا خطباء إلى التصعيد والعنف، في طليعتهم النائب السابق خالد الضاهر. وعلى نحو مشابه لمشهد التوافد إلى بكركي مؤخراً، استنفرت مختلف القوى والأحزاب ذات الطباع السنّي حينذاك في دار الإفتاء في عكّار، مستعجلةً التحقيقات. وسرعان ما كشفت شعبة المعلومات ملابسات القضية وألقت القبض على مجموعة متورطين إثر تتبّعها داتا الاتصالات وبعض الأدلّة. ونفّذت مخابرات الجيش عمليتين في تاريخ 27/2/2023، أفضتا إلى العثور على مخزن أسلحة وأعتدة عسكريّة. وبيّنت تحقيقات شعبة المعلومات حينها أنّ إبن رئيس بلدية القرقف الشيخ يحيى الرفاعي تواطأ مع والده واستدرجا الشيخ ونفذا الجريمة بسبب خلافات مزمنة تتعلّق بالمنافسة على البلديّة.

التحريض ضدّ السوريين: مشاهد عقاب جماعي

في موازاة الاتّهام السياسيّ وما رافقه من تحريض طائفيّ، انطلقتْ حملةٌ أخرى على خلفية الكشف عن تورط مواطنين سوريين في جريمة قتل سليمان. وعليه، شهدنا أمرا غير مسبق بحيث تفرعت عن الجريمة نفسها حمْلتا التحريض انخرط فيهما أحيانا الأشخاص أنفسهم ضدّ الغريب اللبناني تارة والغريب السوري طورا، وكلاهما حملتان تأخذان طابعا وجوديا ملحّا. وقد وصلت درجة التحريض إلى تصوير فيديوهات موقّعة باسم “الأهالي”، تدعو لترحيل السوريين خلال مهلة زمنية محددة.

في هذا الصدد، كانت صفحة “الحملة الوطنية لمواجهة التوطين السوري” الأكثر حماسةً. شاركت الصفحة فيديو في 7 نيسان يدّعي أنه لمهاجرين أفارقة يعنّفون إمرأة فرنسية، مع تعليق “لبنان قريبا هيك، شعب ساكت وعم يأجر للغريب، أقلّ من أسبوع كذا جريمة وقعت”. ثمّ في 8 نيسان علّقت الصفحة أنّه “مرة جديدة نكرّر ما نقوله بأنّ السوري مجرم بالفطرة او قابل للتجنيد والاستغلال بأي جريمة بسهولة!”. ثم شاركت مشهدا لتكسير سيّارات ذات لوحات سوريّة، مع تعليق يدعو لتوحيد اللبنانيين ” ليكن دم الشهيد المغدور باسكال سليمان ناراً لتحرير لبنان من الاحتلال الديموغرافي السوري”. وتوالت تغريدات تشير إلى “غليان في الشارع وهروب السوريين من بيروت الشرقية”.

وانتشرت على مواقع التواصل صور لمناشير وزّعت في بعض المناطق موقّعة باسم “الأهالي”، فيها دعوات لترحيل السوريين في مناطق جبيل والأشرفيّة و الرميل والصيفي، وكسروان، وسن الفيل، وعين الرمانة وفرن الشباك… كما انتشر فيديو مصوّر لشبّان يدعون السوريين على مذياع إلى الرحيل من منطقة برج حمود والدورة والنبعة، وانتشرت فيديوهات تظهر جزءا من عمليات التنكيل بالمارة بالشوارع من السوريين في منطقة الدكوانة وطبرجا ومناطق أخرى. وأدّى ذلك إلى حبس السوريون في بيوتهم، كما وردت أخبار عن توقّف أعمال التوصيلالدليفري” في عدد من المناطق. وفي سياق متّصل، وقع اعتداء على مكتب للحزب السوري القومي الاجتماعي في زحلة، وأحرقت سيارة إسعاف تابعة للحزب نفسه في بيصور.

وكانت موجة مواقف مزايدة تنمّط السوريين أنهم عنفيون بطبعهم. وجاء في بيان للقوات في 11 نيسان أنها نادتْ منذ اللحظة الأولى بوجوب عودة النازحين السوريين إلى ديارهم، وأنّه “لا حجة إطلاقا لاستمرارهم في لبنان”. وأكّدت ضرورة عودتهم “بعدما أصبح واضحا حجم عدد الأعمال الإجرامية والمخلّة بالأمن التي يقوم بها البعض منهم”. واعتبرت النائبة غادة أيوب أنّه لا يوجد ​نزوح أو لجوء بل وجود سوري غير شرعي ويجب “على الأمن العام والجيش ترحيلهم”. وأكّدت أنّ “القوات أوصلت صرختها عن الوجود غير الشّرعي في لبنان مرّات عدّة”. وهو الأمر نفسه الذي أشارتْ إليه الوزيرة السابقة مي الشدياق التي شاركت تغريدة قديمة لها تقول فيها “لا يُزايدن علينا أحد في ملف عودة النازحين السوريين إلى بلادهم”. فيما علّق النائب ريتشارد كوميجيان في حديث إذاعي، أنّ رئيس التيّار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل حاول أن يستغلّ ملف النّارحين ليصوّب على القوات، وأردف أنّ “هذا خطأ كبير ففي ال2011 كان التيار في الحكومة وكان لديه 10 وزراء ووزارات معنية بملف النزوح فعارض إقامة مخيمات على الحدود من الجانب السوري كما اقترحنا. نحن كنا من أول المطالبين بعودتهم”. واعتبر أن قضيّة النازحين “تمسّ كافة اللبنانيين وبهوية لبنان”.

أمّا التيار الوطني الحر فكان سبق القوات في بيان في 8 نيسان قال فيه أن “مشاركة سوريين في الجريمة تعيد تسليط الضوء على المخاطر الناجمة عن كثافة النزوح السوري”. وتباهى البيان كما خطباء التيّار بأنهم أوّل من نبّه من أزمة النزوح، في إيحاء أنّهم سبب الجريمة. النائب إبراهيم كنعان كتب على منصة “إكس” بأنّه “لا يمكن القبول بهذا الفلتان الوقح” مشيراً إلى ضرورة التعاطي الجدّي مع ملفّ النازحين السوريين وضبط الحدود. وطالب النائب إلياس بو صعب بدوره على منصة “إكس” بوضع حدّ ل”الفلتان الأمني والنزوح العشوائي الذي بات يهدد بفتن متنقلة”. وعلّق النائب سيمون أبي رميا على “إكس” قائلاً أنّ “باسكال سليمان أدمى قلوبنا لكنّه أيقظ فينا الوجع من الانحلال الذي أصاب دولتنا والمعاناة من الفلتان… نتيجة تمدّد النزوح السوري”.

ويُشار إلى موقف مماثل لوزير الصناعة النّائب جورج بوشكيان الذي قال أنّ “النازحين السوريين الذين بدل عودتهم إلى المناطق الآمنة في بلدهم سوريا، يفتعلون المشاكل في لبنان من دون سبب إلا لإيقاع التفرقة بين اللبنانيين وبينهم وبين السوريين، وتنفيذ جرائم الخطف والسرقة والتهريب وتعاطي الممنوعات وغيرها”. لكن أفظع التعليقات في ما قاله وزير المهجرين عصام شرف الدين المقرّب من التيّار الوطني الحر الذي اعتبر أنّ “ما ظهر في الشارع على خلفية مقتل باسكال سليمان هو ردّ فعل طبيعي”. ولمزيد من التهويل تحدّث عن وجود “20 ألف مسلّح داخل المخيمات بينطلبوا في ساعة الصفر”. كما كان دعا وزير الداخلية بسام المولوي عقب اجتماع مجلس الأمن المركزي إلى “فرض مزيد من القيود والتقييد على اللاجئين السوريين”، مشدداً على أنّ الوجود السوري “يجب أن يكون محدوداً”.

وعموماً، ساق مختلف الخطباء إحصائيات ملتبسة تزعم ارتفاع نسب الجرائم على يد سوريين، كأن هناك سباق لتنميطهم ولومهم على الأزمات الأمنيّة أو الاقتصادية. هذا النوع من الإسقاطات هو تماماً ما يحدثنا عنه مغتربون لبنانيون من معاناتهم مع “الكزينوفوبيا” في الدول المضيفة. ومبدأ تجهيل وشيطنة الآخر هو ذاته ما تفعله إسرائيل مع الشعب الفلسطيني بعد طرده من أرضه، إذ لا قصّة ولا تاريخ للفلسطينيين من منظورهم. وهي ذات منطلقات النظرة المبسّطة لواقع العمّال الأجانب في لبنان قبل عام 2011، إذ أنّ عمّال البناء والنظافة وتوصيل الطعام ورعاية الأبنيّة السكنيّة (الخ..) لا هويّة لهم كعمّال إذا ما كانوا أغراب، ولا قيمة اقتصاديّة لهم ولا قوانين رعاية وخدمات تشملهم، أمّا إذا ما ارتكب أحدهم أدنى انحراف فهذا فقط ما يعبّر عن هويّاتهم.

إعلان يوم الغضب… “وقت الخطر قوات”

كان خطاب لأمين عام حزب الله حسن نصرالله في 8 نيسان، استحضر فيه أدبيات مخاصمة القوات والكتائب، وقال أنّ من يطالبونهم اليوم ‏أن يكون قرار الحرب والسّلم بيد الدولة، هم من افتعلوا حرب 1975. وانتقد سرعة توجيه الاتهامات والحملة الإعلامية التي جعلت البلد وكأنه “على حافة حرب أهليّة”. وأردف “ابتدأنا نسمع كلام ‏طائفي واستخدام البنادق على أساس أنتم حزب سياسي ما عندكم بنادق وما عندكم سلاح وهيك مرتبين ‏ومهفهفين وانتم ديمقراطيين شو القصة؟!”. وتحدّث نصر الله عن رسائل تهديد للناس في منطقتيْ جبيل ‏وكسروان والذي اعتبره شديد الخطورة “ما بينمرق عليه”، واعتبر الأمر “خطوة خطيرة جدا جدا… حتى ينقطع النفس”. وقد فهم أنه يقصد تهديدات وجهت إلى سكان جبيل وكسروان من الطائفة الشيعية. 

وصبّت مجموعة تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي لنواب وصحافيين في الاتجّاه ذاته.  فمثلاً، تحوّلت صفحة الصحافي غسّان سعود على “إكس” إلى ساحة معركة بخصوص التشكيك بالرواية الأمنية، وفيما يتعلّق بأدبيّات الخصومة مع القوّات. وبرزت مثلاً تعليقات للنائب جميل السيّد استحضر فيها دور القوّات في حرب 1975 وسلسلة تواريخ أخرى، متهكّماً على “التباكي على سيادة الدولة والتفرُّد بقرار الحرب والسلم”. وأتى الرد على الأخير من المسؤول الإعلامي في القوات شارل جبور، لينعته ب”العمالة والكذب” وأنه “طبل فارغ”، متحدّثاً عن “تكليفه إدارة حقبة الاحتلال”، وأنّه حول حقيقة مسؤولية الحرب بأنها تقع على فريق واحد (القوات) وشخص واحد (سمير جعجع). ودارت معارك أخرى على هذه الشاكلة.

ورداً على كلام نصرالله، علّقت الصفحة الرسميّة للقوات بأنّه “معيب وكاذب ومزوّر لأنّ من يريد الفتنة هو من رفض ويرفض تسليم سلاحه”. وتابعت بسلسلة من أدبيّات التّخاصم مع الحزب، ما فصّله بيان القوات الثاني في 9 نيسان، محدداً عوامل اعتبر أنها أدّت إلى “عملية الاغتيال”، أوّلها “وجود حزب الله بحجة ما يسمّى مقاومة” والذي أفسح المجال أمام الفلتان المسلّح وفق البيان، والثاني “الحدود السائبة” والثالث “يتمثّل في خصي إدارات الدولة القضائية والأمنية والعسكرية”. وهي الفكرة التي رددها عدد من خطباء القوات، أي تحوّل الاتهام الذي وجهته القوات لحزب الله في اليومين الأوّل من اتهام مباشر بارتكاب الجريمة إلى اتهام في التسبب بها ولو بصورة غير مباشرة.

ولم ينتهِ التّصعيد القوّاتي في الاتّجاه الطائفي. فبعد تأكيد نائب القوّات السّابق إيلي كيروز على تناقض الرواية الأمنية، أردف معلّقاً على خطاب نصر الله أنّ “التجربة علّمت اللبنانيين أنّ هناك قدرة عاليّة على كشف ملابسات كل جريمة لا يقف وراءها حزب الله”. فيما استنفر النائب جورج عقيص في 10 نيسان وأعلن يوم وداع سليمان نهار الجمعة “للقاتل لا نقول شيء ولا نقترب منه. للقتيل نقول اضبط نفسك وحذار الفتنة والتحريض. هذا المنطق السائد في لبنان يجب أن يقلب: القتيل له أن يصرخ بوجه الجميع.. يوم الجمعة، يوم وداع باسكال سليمان يجب أن يكون يوم غضبٍ عارم بوجه ثلاثية: السلاح غير الشرعي، النزوح غير الشرعي، وعصابات الجريمة”. وصولاً إلى خطاب رئيس حزب القوّات سمير جعجع في 12 نيسان متسائلاً “طيب وهلق شو؟”، ليعقّب على سؤاله أن “الجواب بسيط وواضح جدا: وقت الخطر قوّات”. وكأنّ الرسالة أنهم كجماعة قادرون على تجاوز الدولة ووظائفها وقوانينها أنّى أرادوا أو وجدوا التوقيت ملائماً لذلك. كما كان ملفتاً في هذا الصدد بوستر القوات في ذكرى 13 نيسان يصوّر أفرادًا مسلّحين من القوّات تحت شعار “فرضت علينا”.

عملياً، كادتْ الأمور أن تذهب إلى دورة عنف طائفي في ذكرى الحرب الطائفيّة لولا ثلاث عقبات، تمثّلت الأوّلى في تسريع كشف خيوط الجريمة وما بينته مصادر عسكريّة باعترافات وفيديوهات وداتا اتصالات موثّقة حول أنّ العصابة كانت نفذت الكثير من عمليات سرقة لسيارات. وقد جرى إيقاف تسعة من أعضائها. والأمر الثاني هو زيارة رئيس الجيش العماد جوزيف عون إلى البطريرك بشارة الراعي في 9 نيسان ليطلعه على مخرجات التحقيقات. في إثره، دعا البطريرك الى التروّي وضبط النفس طالباً من وسائل الإعلام “عدم إطلاق تفسيرات مغلوطة وتأجيج نار الفتنة”. والعقبة الثالثة ربما في مجموعة مواقف دعت لعدم الانجرار إلى الفتنة.

وكان أصدر الحزب الاشتراكي بياناً اعتبر فيه أنّ “لغة العقل والقانون والعدالة هي الأفضل لتجنيب البلاد الفتنة”، كما كان ملفتاً موقف النائب مروان حمادة، الذي تمنّى أن تكون الدولة وحدها دون سواها من يحفظ الأمن والاستقرار “لأن تجارب الماضي علمتنا الكثير منذ منتصف السبعينات إلى اليوم”. فيما أشاد تيار المستقبل بما صدر من مواقف حكيمة من عائلة سليمان “وضعت، رغم هول المأساة، النقاط على الحروف، وعضت على الجرح”. كما أكّد التيار الوطني الحر تمسّكه بخيار الدولة وبمؤسّساتها الأمنية، منبّهاً من الفتنة. وأصدر نوّاب قوى التغيير (ياسين ياسين، ملحم خلف، ابراهيم منيمنة، نجاة صليبا، بولا يعقوبيان، فراس حمدان) بياناً موحّداً دعوا فيه إلى “التمسك بالوعي والحكمة في هذه اللحظات العصيبة وتفويت الفرصة على العابثين بأمن الوطن والمواطن”، معتبرين أنّ الوطن في خطر أكثر من أي وقت مضى[3].

موجة أخرى من العنف ضد السوريين… والقوّات تفشل في إقامة جبهة 

بعد مرور أسبوع، سعى القوات إلى إظهار أنهم جادون في ترحيل السوريين، مع تكرار التصورات التنميطيّة حولهم بأنهم خطرون وعنفيّون.

في 16 نيسان، زارت النائبة ستريدا جعجع على رأس وفد من قضاء بشري وزير الداخلية  لتعلمه بتطبيق تعاميم وزارة الداخليّة في قضاء بشري تتعلّق ب”التصدي للوجود السوري غير الشرعي”، وأدت الى أن القضاء فيه أقل عدد من السوريين، ودعتْه إلى متابعة تطبيق هذه التعاميم في أقضية أخرى. وربطت بدورها بين الوجود السوري والجرائم، إذ قالت “الجميع يطالبون بعودة السوريين إلى بلادهم وإلى المناطق الآمنة تحديدا، فلبنان لا يحتمل مزيدا من الجرائم”.  فيما أكّد النائب زياد الحوّاط في مقابلة له في 17 نيسان على قناة “ال بي سي” أنّه “ما بعد مقتل سليمان لن يكون كما قبله في ملف النازحين السوريين وبدأنا العمل الجدي مع البلديات لضبط وتنظيم الوجود السوري .” وصبّت مجموعة تصريحات قواتيّة في الاتجاه نفسه.

على أرض الواقع، ومع استمرار الخطابات الشعبويّة، استؤنفت موجات العنف ضد السوريين، إذ وثّقت المفكرة القانونية مداهمة لمخيّم من اللاجئين السوريين في بلدة بر الياس، البقاع الأوسط، في 17 نيسان، من قبل مجموعة من الأشخاص أمهلوا سكّان المخيّم 3 دقائق لإخلاء نحو 20 خيّمة يسكنها أكثر من 20 عائلة، بعد تهديدهم أنهم سيهبطوها على رؤوسهم. وكاد يحصل أمر مماثل في مخيّم في بلدة المرج في البقاع الغربي. وتبيّن أن التهجم على المخيمات ارتبط بجريمة قتل المواطن ياسر الكوكاش في بلدة العزونية قضاء عاليه، وكانت أصدرت مخابرات الجيش اللبناني بياناً بإيقاف شخصين اعترفا بتورطهما في الجريمة.

واتضح مسعى القوات في تطبيع هذه الحوادث، خلال مؤتمر صحافي عقده رئيس الحزب سمير جعجع في 19 نيسان حول النزوح السوري، بدأ فيه بسرد عددا من الأرقام حول “النازحين” (علما أنه لا يوجد مسح رسمي للمقيمين فعلياً)، ليقول أنهم “خطر وجودي فعلي يهدد وطننا”، واعتبر أنّ ظواهر العنف ضد السوريين في العزونيّة ومناطق أخرى ليست جوهر المشكلة إنما مجرّد عوارض الأزمة، مكرراً مقولة تزايد الجرائم على يد سوريين، وكرر مقولة أنّ الاقتصاد اللبناني يستنزف خدماته على السوريين. وتابع بأنّ “قرار الترحيل ليس بحاجة إلى قرار قضائي، بل لتحرك الدولة”. كما ردّ على تصريح لوزير الداخلية قال فيه بأنه ضد مبدأ الأمن الذاتي، فقال “جميعنا ضد الأمن الذاتي ولكن عليك القيام بعملك”، معتبراً أن عدم تحرّك الدولة ضد اللاجئين يدفع الناس للذهاب إلى الأمن الذاتي، وأردف أنّه “من اليوم وصاعداً لن نسكت عن أي تقصير أو تقاعس”. أمّا الأخطر في ما قاله هو أنّه في حال لم تتحرّك الاجهزة الأمنيّة “فمن حق الناس أن تتحرّك”. 

ولعلّ خطّة التحرّك عبّر عنها إعلان للقوات في 21 نيسان، على ضوء ما نفهمه من ربط القوات ملف اللاجئين بمواجهتهم مع حزب الله. إذ جاء في الإعلان أنه: “بعد تفاقم مسلسل القتل والاغتيال، وتفلّت الحدود والإمعان في تفكيك الدولة، وانتشار السلاح غير الشرعي، وزجّ لبنان في أتون الحروب الإقليمية، نتداعى إلى لقاء تضامني وطني تحت عنوان 1701 دفاعاً عن لبنان”. ولفتت جريدةالنهار“، إلى أنّ الاجتماع يهدف إلى استكمال الضغط السياسي بعد مقتل سليمان، “الذي ترافق مع مؤازرة شعبية”. إلا أنّ مجرّد فكرة تشكيل جبهة تحت هذا العنوان أوحى بدلالات تتجاوز “الضغط السياسي” في مواضيع سياسيّة داخليّة، إلى ضغط يرتبط بما يجري إقليمياً. وفُسّر اختيار “معراب” مكاناً للقاء بمحاولة القوات قيادة “المعارضة”.

بالنتيجة، نقل مراقبون عدة أن القوات فشلت في تحشيد جبهة وازنة، إذ اعتذر نواب سابقون من تيّار المستقبل و”14 آذار” عن حضور اللقاء على اعتبار أنّ الضغط لتطبيق القرار 1701 لن يجدي. كما تغيّب الحزب الاشتراكي عن اللقاء، وعلّل زعيمه وليد جنبلاط في حديث مع صحيفة “لوريان لوجور” الأمر بأن موقفهم وسطي أمّا موقف جعجع فمتشدد و”إذا أراد أن يثبت نفسه كزعيم للمعارضة، فليفعل ذلك من دوننا”. فيما لم تحضر الكتائب برئيسها إنما ممثلةً بنائب الرئيس ميشال خوري، وحضر عدد محدود من النوّاب المستقلين الحاليين ومجموعة نواب سابقين وناشطين سياسيين.

وما زال مسعى القوّات الاستقطابي مستمراً، وهو ما نستشفه من مقال النائب فادي كرم في 8 أيّار عنونه “المواجهة بين قطبين“، وتحدّث فيه عن الاختلاف الجذري الشديد بين قطبيّ حزب الله والقوات، منتقداً “القابعون في تموضعات الوسط، بين الوطن والدُويلة”، مطالباً بالجرأة في الوقوف والصمود “مع القطب الذي نذر نفسه لصدّ قطب الإجرام والذلّ والقمع والتخلّف”.


[1]  زينوفوبيا  (xenophobia) كما تعرفها موسوعة بريتانيكا، هي الإزدراء والخوف من الغرباء أو الأجانب أو أي شيء يُصنف على أنه أجنبي، أو الاقتناع بأن بعض الأفراد والثقافات الأجنبية يمثلون تهديدًا للهوية الحقيقية للدولة القومية الخاصة بالفرد ولا يمكنهم الاندماج في المجتمع المحلي سلميًا.
https://www.britannica.com/science/xenophobia

[2] ضمّت اللجنة ممثلي القوّات والكتائب والوطني الحر والأحرار وحركة الإستقلال ومشروع وطن الإنسان وحزب الطاشناق

[3]  ويُذكر أنّه وبعد حديث كل منهم عن متابعته لعمل الأجهزة الأمنية وضرورة منحها الثقة، دعا رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب الميقاتي إلى “ضبط الانفعالات في هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ الوطن”، ودعا وزير الداخلية بسام مولوي في مؤتمر صحافي بعد ترؤسه مجلس الأمن المركزي، إلى “التعقل والاتكال على الأجهزة الأمنية والقضاء”. ودعا وزير الدفاع الوطني موريس سليم إلى “العمل على ضبط النفس وردود الأفعال وعدم تمكين الجهات التي كانت وراء هذه الجريمة النكراء من تحقيق اهدافها لاسيما لجهة العبث بالأمن والإساءة إلى الاستقرار”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات إعلامية ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني