المرأة التونسية في أولمبياد ريو: الجسد الأنثوي في “مضمار” القيد الذكوري


2016-08-19    |   

المرأة التونسية في أولمبياد ريو: الجسد الأنثوي في “مضمار” القيد الذكوري

بدأت الحملة ضد العداءة التونسية حبيبة الغريبي خلال أولمبياد 2012 بلندن. فقد انتقدها كثيرون آنذاك لا لشيء إلا أنها كانت ترتدي زيا رياضيا اعتبروه غير محتشم وغير لائق، متناسين أن هذه الشابة شرّفت تونس وكل التونسيين فمثلت بلادها أحسن تمثيل وأهدت لنا الذهب في الأولمبياد المذكورة.وها أنّ السيناريو يتكرر بعد  فشل البطلة  في سباق الـ3000 متر حواجز في أولمبياد 2016 بمدينة ريو البرازيلية، يوم الاثنين  15 -07 -2016. فسارع  البعض إلى إعلان تشفيهم لخسارتها صراحة قائلين  أن خسارتها جاءت نتيجة لعريها وعدم احتشامها فلقنها القدر بذلك درسا. ومن بين التعليقات اللافتة للانتباه، ما كتبه مدير موقع الصدى راشد الخياري على صفحته الرسمية “فايسبوك” حيث قال” لم يستطع جسد حبيبة الغريبي العاري جلب الذهب لتونس وحلت في المراتب الأخيرة..القدر يلقنها درسا قاسيا".

وبعد الصحافي راشد الخياري الذي انخرط في الحملة مركزا على جسد العداءة ها هو رضوان المصمودي رئيس مركز  "الاسلام والديمقراطية"، والمثقف  يشترك في الحملة ضد الغريبي. فقد كتب المصمودي تدوينة على صفحته الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي يقول فيها حرفيا:"الرياضيّة لا يلزمها تعرية ساقيها و"قفاها" لتستطيع الجري".

ولأن المسالة تحولت إلى جدل عمومي، وجهت النائبة بمجلس نواب الشعب هالة العمراني إلى راشد الخياري كتاباً جاء فيه:"لم تر من البطلة حيببة الغريبي سوى جسدها وهذا ليس بالغريب لانك تعبر عما يدور في خاطرك ولا تتعدى المرأة بالنسبة لأمثالك جسدا يحرك فيهم غريزتهم الحيوانية التي لا يمتلكون عقولا للسيطرة عليها ولا يرون في المرأة سوى عورتها عساهم يجدون في أنفسهم شيئا من الرجولة المفقودة. لكن ما نراه نحن في حبيبة لا تفقهه ولا تعي مكانته ولا تعترف به أصلا بل وتسعى لطمسه. فهي من رفعت علم تونس عاليا في محافل عالمية، هي من رددت والجميع ينصت لها باحترام وإجلال النشيد الوطني بكل فخر وعزة… حبيبة بالنسبة لنا رمز للوطنية للنجاح للمثابرة للعطاء لرفع راية الوطن...أخذنا الرمز وترك لكم الجسد فهنيئا لكم بما ظفرتم".

هزيمة الأبطال التونسيين
لن نتوقف هنا فقط عند الحملة القديمة التي  تعرضت لها العدّاءة. سنفكر أيضا في علاقة هذه الحملة بهزيمتها. من المفيد أن نشير أولا أن المباريات الرياضية بشكل عام تصبح في كثير من الأحيان مناسبة لضغوطات وتجاذبات لا حصر لها، تشحن العواطف القومية بآمال انتصار رمزي تغذيه عند حصوله مراسم ذات طابع سياسي حيث يرفع العلم ويعزف النشيد الوطني وتجيش الخواطر بمشاعر وطنية مفعمة. ولذلك فان هؤلاء الرياضيين اذا ما ضعفوا أو انهزموا أو تراجعوا، تنفجر كل التعبيرات ذات الطابع الوجداني العام  أو حتى السياسي، فلا يقتصر الأمر هنا على التعبيرات ذات المنزعالديني أو الأخلاقي.  تظهر بالمناسبة كثير من التعبيرات الأخرى لا تقل عنفا وتشفيا. عندما يصل الرياضي لسبب أو لآخر إلى حدود طاقته القصوى، تنفجر الأحقاد والأسئلة كالسيوف المسلولة. لماذا انهزم؟ هل لضعف في التأطير؟ لتقصير في التمارين؟ هل  كان ذلك لتقاعس من السياسيين وخاصة منهم المسؤولون عن وزرات الرياضة؟ عندما يتكسر الحلم على مضمار السباق أو في حلبة الصراع أو في ميدان اللعب، تعلو جميع الأصوات باحثة عن سبب الإخفاق وخاصة في مجتمعات محكومة بهزائم كثيرة. ذلك أمر مفهوم ويدخل في نفسية الحقل الرياضي وهو رد فعل لا نكاد نختلف فيه عن غيرنا الا بما نعيشه من هزائم يومية  ولندرة الانتصارات لدينا، سواء داخل مجال  الرياضة أو خارجه. وهذا ما جعل وزير الرياضة التونسي يناشد مواطنيه بعدم القسوة على الأبطال التونسيين الذين انهزموا مثل حبيبة الغريبي البطلة الأولمبية أو  أسامة الملولي البطل الأولمبي في السباحة والحائز على عدد كبير من الميداليات في أكبر المحافل الرياضية  أيضا.

 ولكن للجسد الانثوي قصة أخرى
غير أن للجسد الانثوي وضعية خاصة  لدينا: وضعية مميزة تغذيها اعتبارات دينية وأخلاقية معقدة. وبشكل عام، يجب أن نشير أولا إلى أن دخول المرأة إلى الحقل الرياضي وبشكل تدريجي كان جزءاً من عملية التحرر التي تخوضها مجتمعاتنا من أجل تحرر المرأة بشكل عام. عندما تصبح المرأة رياضية: عندما تصنع بجسدها ما تريد، عندما تتحرر من ضغوطات التصورات الرجولية لهذا الجسد، فإنها تطيح  وبقوة بكل التصورات الموروثة لجسد المرأة. فلا يتمايز الجسدان الذكوري والأثنوي في شيء. نفس القوة تقريبا، نفس العضلات المفتولة، نفس النزعة إلى الغلبة  وطلب الانتصار.

النساء مثل حبيبة الغريبي أو غيرها، عندما يصبحن بطلات، فإنهن يكتسبن بلا شك حرية صنعنها لأنفسهن من خلال السيطرة على أجسادهن. هذا الجسد الذي يكتشف لنفسه وظائف أخرى غير وظيفة المتعة البيولوجية التي يقدمها  للذكورة.  يتحرر الجسم تماما من البيولوجي التقليدي ليدخل مجال العزيمة والكفاح والتمارين القاسية وتجاوز الذات، حتى ليكاد يفقد كل تلك المواصفات التي ابتدعتها قرون من المخيال الذكوري: اللين والرقة والضعف والاستسلام. فكم يلخص الشاعر القديم ما نقصد حين يقول متحدثا عن النساء:
يقتلن ذا اللب حتى لا حراك به                 وهن أضعف خلق الله أبدانا

وهكذا لا تكمن قوة المرأة إلا في الإغراء في مخيلتنا التراثية. لذلك، ليس انتقاد حبيبة الغريبي بسبب لباسها هو الأمر الجوهري، بل أنه فيما يخفيه من خيالات. فلقد انحط الجسد الانثوي على مدى قرون إلا في ما صنع له من موضوع  الفتنة واللذة. لم يعد وخاصة في الأوساط الحضرية يستدعي أي كفاح أو صراع، فركدت فيه على مدى عصور طويلة كل معاني القوة، فتراخى وكسل. وتُعلي المخيلة الذكورية بطبيعة الحال من هذا التكاسل، فتجعل منه رمزا للجمال والرقة والانوثة كما ذكرنا.  

إن أخطر ما في جسم حبيبة الغريبي "العاري" القوي هو أنه يمحو حدود الأثونة. ينذر بكل مخاطر الحرية التي يخشاها البعض ويحسبون لفسخ هذه الحدود كل حساب. ففقدان الجسم الأثنوي لكلّ أسراره يحوّل المرأة إلى إنسان قبل أن تكون امرأة. لها نفس عزيمة الرجال تستعمل جسمها في نفس ما يستعمله من أجل الانتصار على كل حدود الطاقة البشرية. يخشى البعض من جسد حبيية الغريبي لأنه يخاف أن تخرج هذه الحرية من مجال الرياضة إلى غيرها من مجالات، وأن تستحيل إلى مثال ناجح تسري عدواه في العقول والأفئدة، حتى المتشددة منها. فحين تنتصر المرأة على كل حدود الكبت الرجالي تصنع لنفسها حلبة أخرى للصراع في غير الرياضة: في ميدان الدراسة والعمل وفي الفضاء العام. أن من ينظر إلى جسد الغريبي فلا يرى غير جسدها العاري، يذهب بعيدا ليضع حدودا لهذا الجسد. وحين ينهزم، يتدخل  "القدر" في صنع الهزيمة فتنال حبيبة عقوبة السماء التي تستحقها أيضاً. وهكذا  ترتاح الخواطر من كل صور التهديد المفزعة من تجاوز الجسم لحدود طاقته وتحوله الى سلاح في معركة الحرية عموماً.      
                                                                                         
ولأن لقصة حبيبة الغريبي كل هذه الملابسات، فإنه يمكن بلا شطط أن نربط بين نضال المرأة الرياضية من أجل افتكاك مكانها جنبا الى جنب مع الرجل ونضال المرأة عموما. فانتصار الرياضية هو بلا شك جزء من نضال المرأة التونسية ضد الاستثناء والتمييز أيا كان عنوانه ومهما اختلفت مبرراته. هل من الصدفة أن الانتصارين الوحيدين اللذين حصلت عليهما تونس إلى حد الآن  هما برونزيتان لرياضيتبن في لعبتين ذات تصورات ذكورية وهما: المصارعة والمبارزة بالسيف؟ 
فافخري يا حبيبة، فأنت ولدت من رحم الحرية. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني