الأمن العام يمنع أغنية لمسّها بالعزة الإلهية: طاعة الدين أولا


2016-04-12    |   

الأمن العام يمنع أغنية لمسّها بالعزة الإلهية: طاعة الدين أولا

"يا رب صرلي ميّة سنة، بصوم وبصلّي، ارحمني، غنائي لأجلك، صمتي لأجلك، آمنت، جاهدت، استقبلني، اسمحلي اطلب آخر شي يارب، ارحمنا وحلّ عنّا". هذه العبارة التي وردت في مقطوعة غنائية لبشار خليفة كانت كافية بالنسبة إلى الأمن العام لمنع دخول الأسطوانة إلى لبنان أو توزيعها ولمصادرة الأسطوانات في حال وجودها. وقد علل الأمن العام قراره وفق ما نشره الفنان مارسيل خليفة (وهو والد بشار)، بأن الأغنية تتضمن "كلاما مسيئا للعزة الإلهية". أما الدلائل على الإساءة، وفق ما نقله خليفة عن الأمن العام، أن كلمة "ارحمنا" عند تجزئتها تصبح بمعنى "العضو الذكري". كما أن قول ارحمني بعد "مية سنة بصوم وبصلي" تعني الطلب إلى الله "ألا تجبرني على فعل شيء لا أريده، أي الصلاة والتضرّع للربّ". أما "حلّ عنا" فالمقصود بها "أن يتخلى عنّا الرب" أو "دعوة لنبذ الرب". إذن، ذهب الأمن العام الى تفسير كلام الأغنية، ثم منعها على أساس هذا التفسير، بعدما اعتبر أن لإساءة كهذه أثر أمني مضر. والأهم أن الأمن العام لم يتوانَ عن الإيحاء باستنكاره لمضمون مناجاة إنسان لربه، وكأنه يريد أن يحدد لإيمان الأفراد إطاراً، وأن يلزمهم بصيغة، وأن يمنعهم عن رفض الخضوع لدين أو طقس ديني. هكذا فجأة تتكلم مؤسسة مدنية بلسان ديني، أي لسان السلطة الدينية.

وفي إتصال مع المفكرة القانونية، يقول المسؤول الإعلامي في الأمن العام، العقيد نبيل حنون أن المنع حصل "كي لا تؤدي الأغنية الى أي رد فعل". والمقصود وفقاً لحنون "بشكل خاص المسيحيين". وهنا لا بد من التوقف عند تفسير إضافي وضعه الأمن العام على ما يبدو، على لائحة تفسيراته وهو يتصل باعتبار بشار منتمياً حكماً إلى الطائفة التي انتمى إليها أجداده. هكذا، يُزج الفنان في رعية، أو مذهب، أو جماعة، عنوة. وكما تفسر أغنيته وفق هوى الأمن العام من دون سؤاله عن مقاصدها، كذلك يفسر إيمانه. ويوضح "حنون" أن الأمن العام تصرف ضمن صلاحياته. ذلك أن "أي أمر يمس بالمؤسسات الدينية يصبح من صلاحياتنا". في مطلق الأحوال "لا خنق للأعمال الفنية" يقول حنون. وإن أراد خليفة من الأمن العام أن يتراجع عن قرار مصادرة الأسطوانات، عليه إما أن "يحذف الأغنية"، وإما أن "يطلب الى الأمن العام نفسه إعادة النظر بالموضوع". واللافت أن حنون ختم تصريحه للمفكرة بقوله: "لما يصير متل ما صار وقت لينا خوري".

وهو يقصد مسرحية هذه الأخيرة "لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71"، والتي سمح الأمن العام بعرضها قبل ان يطالب بحذف مشاهد منها تحت وطأة الإعتراضات التي صدرت عن المركز الكاثوليكي للإعلام.فكأنما يتجه الأمن العام إلى التشدد في الرقابة على المسائل الدينية استباقا لاعتراضات مفترضة قد تصدر عن المرجعيات الدينية وتؤدي في النهاية إلى منع عرض العمل، كل ذلك في إطار التوجه نحو "تشريع الرقابة الدينية على الأعمال الفنية".

من جهته يقول مارسيل خليفة في اتصال مع المفكرة، بعدما تعذر الإتصال ببشار لدواعي السفر، أن "الذي يراقب في الأمن العام يعاني جهلاً مطلقا للفن". وهو يضيف أنه لن يتم اللجوء الى القضاء فـ"الدعوى ما الها عازة، بلا ما يفوتوهن (أي الأسطوانات)، لو الدولة تستحق ما بيعملو هيك". أما عن القبول بخيار حذف الأغنية لإدخال الأسطوانات، يقول خليفة "بدن نشيل الأغنية ما حنشيلها، يخلو الأسطوانات ما يفوتوهن".

وكان خليفة قد كتب عبر صفحته على الفايسبوك رسالة الى الأمن العام والى إبنه بشار جاء فيها: "بعد سنين تعود لتجد زنزانة مفتوحة لأغنيتك لأنها تمّس بالذات، ذات البلد الإلهيّة كما جاء على لسان الأمن العام اللبناني الطويل.نعتذر منك يا ولدي وأنت في أولى محاولاتك تصاب بخيبة أمل في بلد يفقد فيه الانسان ذلك "الأمل" بشكل يومي ساحق في غياب العدالة والحرمان من الحريٌات والحقوق الأصليّة وكل ذلك سبب مباشر لكل هذه الانهيارات والانفجارات والانحطاط الحضاري الذي نتدهور فيه منذ سنوات".

يذكّر مارسيل إبنه بما سبق وتعرض له على خلفية أغنية "انا يوسف يا ابي". يسأله "أما زلت تذكر(…) رافقتني ذات يوم من سنة ١٩٩٩ إلى قصر العدل في مدينتنا بيروت لحضور جلسة دعوى الحق العام على تحقير الشعائر الدينيّة من خلال الموسيقى والأغنية.كأن الواقع وما زال يتعرّض لعمليّة انقطاع الوعي وبالطبع لا تكون الأغنية مقدسّة الى هذا الحد للإدعاء عليها ولكن هذا هو حَدْ البلد. لم أكن قادراً يا أبي على لجم غضبي من تلك الإهانة من قبل "أمن عام" لا هو بأمن ولا هو بعام".

وكانت دار الفتوى قد أقدمت على رفع دعوى قضائية بحق خليفة أدّت الى محاكمته بتهمة "المساس بشعائر دينية عبر تلحين مفردات من سورة يوسف" في تشرين الأول 1999. وقامت على اثرها تحركات طلابية ونقابية في لبنان والخارج منددة ورافضة لتوّجه دار الفتوى. وصدر في النهاية قرار عن القاضية المنفردة الجزائية غادة أبو كروم بتبرئة خليفة. اليوم ماذا سيفعل المعنيون من مدافعين عن الفن وحق التعبير وحرية المعتقد، وطلاب الجامعات وكل المجموعات التي يفترض بها أن تكون ضاغطة؟ كيف يكون الدفاع، لا سيما أن هذه الرقابة الدينية لها أصولها وجذورها التي باتت معروفة. ولا سيما في ظل وجود جهات روحية باتت تعتبر نفسها معنية بمضمون أغنية أو أي عمل فني؟

بقي أن نذكر أن القضاء أصدر قرارين هامين في هذا المجال:

قرار أبو كروم في قضية مارسيل خليفة الصادر عام 1999. ومن أهم النقاط التي أثارها القرار "أولاً أن مجمل المجتمعات عرفت انماط من السلوك طاولت مختلف نواحي الحياة ولم تراع فيها قواعد دينية، وثانياً أنه لا يمكن عد أي فعل مخالف أو غير متوافق مع أحكام الدين فعلاً جزائياً(…) وثالثاً أن إنشاد القصيدة بوقار ورصانة ينمان عن إحساس عميق بالمضمون الإنساني مما ينفي أي مساس بقدسية النص."[1]

الثاني صدر عن القاضي المنفرد الجزائي في طرابلس منير سليمان عام 2007 في دعوى أقامتها النيابة العامة بناءً على شكوى مجموعة طلابية إسلامية في طرابلس ضد الكاتب جوزيف حداد. وكان الحكم قد قضى بتبرئة جوزيف حداد بصفته كاتب مقالات عدّة في مجلة «حقوق النّاس» (أبرزها الإله المخطوف) خلال عامي 2002-2003، من تهمتَي التجديف علناً باسم الله وتحقير الشّعائر الدّينية. وقد أوضح القاضي سليمان أنّ "حرية الرأي والمعتقد تشمل حكماً حرية التعبير عن آراء علمانية غير دينية تؤمن بالمدنية ولا تحبذ الطوائف داخل المجتمع". واللافت أن الحكم اعترف بالتوجه العلماني ليس فقط كحرية فردية بل كمجموعة أفكار وعقائد وإيمان تعتنقها مجموعة من الناس تمثل شريحة من المجتمع اللبناني. وأخيراً، أفرد الحكم حيثية حول وجوب تفسير عبارتي تحقيق الدين وإثارة النعرات الطائفية وفقاً لمعايير التسامح، وإلا أدت الى أغراض مناقضة تماماً لما ترمي اليه. ف "تسليط الضوء على بعض العبارات ذات الدلالات الدينية وإخراجها من سياق ومضمون المفهوم العام لما كتب، والقصد منه وما رمى اليه، ووضع تفسيرات ضيقة وحرفية يخرجها من المعنى المقصود منها" لا يشكل إثارة للنعرات الطائفية، إنما تقويضاً لحرية المعتقد وإبداء الرأي.[2]

ومقارنة هذين القرارين بقرار الأمن العام إنما يبرز مدى خطورة الرقابة المسبقة فضلا عن دور القضاء في صون حريتي التعبير والمعتقد.



[1]– نزار صاغية، رنا صاغية ونائلة جعجع. أعمال الرقابة قانوناً. ص 105 (نسخة pdf)
[2]– المرجع نفسه.ص. 106
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني