تراجع عن استدعاء نوّاب تونس “المتآمرين”: استبدال الردع القضائي بحوار بصوت واحد


2022-04-06    |   

تراجع عن استدعاء نوّاب تونس “المتآمرين”: استبدال الردع القضائي بحوار بصوت واحد
رسم عثمان سالمي

قبل انعقادها، كانت الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب التي دعا لها مكتبه يوم 30-03-2022 السبيل الذي قرّره شقّ واسع من نوابه لفرض إنهاء الإجراءات الاستثنائية المعلنة من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد ليلة 25 جويلية 2021 وفرض العودة لما يسمّونه الشرعية الدستورية. بالمقابل، تخوّف الطيف السياسي الذي رفض المشاركة فيها من أن تكون وسيلة لدفع تونس لتنازع الشرعيات (كما هي الحال في ليبيا واليمن) وسبيلا لإرجاع مجلس نيابي للعمل في حين أنه مرفوض شعبيا. من جهته، اعتبر سعيّد  حصول الجلسة ضمن المؤامرات التي تستهدف سلطته، وهو الأمر الذي عبر عنه بالتهديد بملاحقة النواب الذين سيلبّون الجلسة جزائيا. كما وجد تعبيرا آخر في التشويش على منصات التواصل التي اعتمدها النواب.

ولكن بعد انعقاد اجتماعهم، ونجاحهم في المصادقة على قانون ينهي في منطوقه الحالة الاستثنائية ويلغي مراسيم الرئيس التي اعتمدت لإيجاد وضع مؤسساتي وقانوني يتلاءم مع مشروعه السياسي، بدتْ مواقف حاكم قرطاج في ظاهرها ثابتة وإن كان التمعن فيها يكشف ما يخالف ذلك. فالرئيس الذي تمسك بالتتبع الجزائي لمن وصمهم بالمتآمرين لم يكن قادرا على إخفاء ارتباكه الذي دعاه لعقد اجتماعات تمهيدية  لحوار وطني على المقاس أملا باستعادة شرعية اهتزّت.

التلويح بالعقاب..

في ليلة 30 مارس 2022، وفي مشهدية ذكّرت بليلة 25 جويلية 2021، استدعى سعيّد مجلسه للأمن القومي ليلقي في محضر أعضائه خطابا خصّصه للحديث عن المحاولة الانقلابية الفاشلة وليعلن تبعا لذلك عن حلّ المجلس النيابي حفاظا على الدولة ومؤسساتها وإطلاق وزيرة العدل ليلى جفال تتبّعات في حق من شاركوا في الجلسة من أجل التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي[1]. كما أعلن بأنّ اللجوء للعنف سيُواجه بالقانون بقوّاته المسلّحة العسكرية وقواته المسلحة المدنية، لأن الدولة حسب قوله لن تكون أبدا لعبة في يد الذين حاولوا التآمر عليها. وقد انتهى بالنتيجة إلى التأكيد بأنه يستند للشرعية الشعبية والتي هي أهمّ من الشرعية الدستورية وإلى تجديد تعهّده بإجراء انتخابات وفق الروزنامة التي سبق أن أعلنها والتي سيستثني منها من تآمروا على الدولة.

ليلتها، بدا الرئيس عازما على استعمال القضاء وقوة الدولة لقمع ما اعتبره مؤامرة على أمن الدولة الداخلي. وهو ما توضح في مخرجات لقائه برئيسة الحكومة ووزراء العدل والداخلية والدفاع والذي خصّصه لإسداء تعليماته التي تخدم سياسته تلك[2]. أمر تجلّت بوضوح في الأيام الموالية آثاره والتي تمثلت في توجيه استدعاءات لنواب الشعب ليحضروا بوصفهم مشتبها بهم في جرائم تصل عقوبتها للإعدام أمام فرقة أمنيّة مختصّة في جرائم مكافحة الإرهاب والجرائم الماسّة بأمن التّراب الوطني. وقد ترافق ذلك مع جهد استثنائي بذلتْه وزيرة العدل لضمان تحقيق السياسة الردعية هذه، بلغ ذروته مع إشرافها قبل يوم فقط من انطلاق جلسات الاستنطاق على جلسة للنيابات العمومية يرجح أن تكون الأولى في تاريخ المؤسسة بهدف “ضبط السياسات الجزائية”.

ووفق هذا التمشّي، كان يُنتظر أن يكون القضاء وسيلة الرئيس لإعادة ترتيب المشهد السياسي بشكل ينهي ما برز من مسّ بسلطته ويفرض خضوع الدولة بكل مؤسساتها له وأن تكون قوة الدولة وسيلة إدارة الخلاف السياسي. إلا أنه على عكس كل التوقّعات، لم يصدر عن نيابة تونس قرارات في الاحتفاظ بأيّ من النواب بل تم الاكتفاء منها بالإذن للباحث بأن يقدمهم لها بعد إتمام سماعاتهم بتاريخ 05-04-2022 وربما كان ذلك منطلق أزمة مسار ظنّ سعيّد أنه كفيل بتحقيق الردع.

حديث التخويف: حدّة ردود الفعل تفرض طيّ صفحته

كشفت صور وتسجيلات تداولها الإعلام أنّ النواب الذين شملتهم الأبحاث في يومها الأول وعددهم ستة[3] كانوا موحّدين في مواقفهم لجهة الدفاع عن شرعية الخطوة التي أقدموا عليها[4]. بالمقابل، أكدت أخبار تمّ تداولها أن المؤسسات التي توصف بالصلبة ومنها القضاء والأمن لم تكن متحمسة للمسار ومانعتْ ما قد يكون طلب منها من إصدارا قرارات في إيقاف المستجوبين أو البعض منهم[5]. وربما كانت هنا الأهمية العددية لمن تشملهم المحاكمة وانتماؤهم لعدد كبير من الأحزاب والحساسيات السياسية التونسية والإدانات التي صدرت خارج تونس عن دول ومنظمات دوليّة. وعليه، اضطرّت السلطة للتخفيف من سرعة خطواتها وللبحث عن سبل تنفيس للأزمة التي تولّدت عن تسرّعها السابق. إذ، وقبل يوم واحد من موعد تقديم النواب للنيابة العمومية، اتّصلت مصالح الأمن بمن تمّ سماعهم في اليوم الأول لتعلمهم بأنّه تمّ التراجع عن تقديمهم. كما أعلمت ذات الجهة غيرهم ممن كانت قد استدعتهم لاستنطاقهم أنه تم العدول عن ذلك ولا حاجة بالتالي لحضورهم أمامها ما لم تتمّ دعوتهم لذلك[6]. وقد فسّرت النيابة العمومية في بلاغ صدر عن مكتب الاتصال بها هذا التراجع بأنه ضرورة إجرائية أملاها ما تبيّن من وجود “محامين” بين من تشملهم الأبحاث[7]. وفي حين يبدو هذا التبرير غير مقنع على اعتبار أن صفة هؤلاء كانت معلومة منذ البداية، يرجّح أن يكون الدافع الحقيقي للتراجع عن استدعاء النوّاب هو التخفيف من حدّة الاندفاع في الاستعمال الانتقامي للقضاء للحدّ من آثاره السلبية. وبذلك انتقل الخطاب الرئاسي خلال أيام معدودة من خطاب تغلب عليه إرادة حسم الخلافات السياسية بالتتبعات الجزائية إلى دعوات تمهّد لإطلاق “حوار” يغيب عنه أيّ رأي مخالف.

مشاورات تمهيدية لحوار وطني: تطور مهم

بداية من يوم 01-04-2022، تتالتْ استقبالات سعيّد لمنظمات المجتمع المدني التونسي والتي شملت المكتب التنفيذي للاتّحاد العامّ التونسي للشغل والمكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ورئيس رابطة حقوق الانسان وعميد المحامين زيادة على رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية. وتمّت جميع هذه اللقاءات تحت عنوان لقاءات تمهيدية للحوار الوطني. وهي خطوة لا يمكن إغفال صلتها بمسعى الداعي إليها لاستخدامها لاحتواء آثار التطوّرات التي جدّت في ساحة السلطة التشريعية. وعليه، بدا استماع الرئيس لضيوفه تنازلا منه عن انفراد سابق بالقرار فرضته عليه رجّة إلغاء حالة الاستثناء واضطراره لحل المجلس النيابي رغم اعترافه سابقا بأنّ الدستور لا يخوّله ذلك. في المقابل، يلحظ من خلال ما تضمنته البلاغات التي صدرت عن رئاسة الجمهورية وتصريحات ممثلي المنظمات الوطنية الذين تمّ الحديث معهم أنّ الحوار الذي قبل به سعيّد سيكون وفق شروطه وسيستند في موضوعه لمخرجات استشارته الوطنية كما أنه لن يشمل في شخوصه الأحزاب السياسية التي عارضت 25 جويلية ولا تلك التي شاركت في “محاولة الانقلاب” أو حكمت طيلة العشرية الفائتة. وهنا نتبيّن أن ما بدا مخرجا من الأزمة ليس كذلك.

حوار الرئيس: تدوير للأزمة بدل البحث عن حلّ لها

قبل مباشرة أيّ حوار، بدا سعيّد مصمّما على فرض هوية محاوريه من دون مسانديه وغير المعارضين له، وعلى فرض موضوع الحوار الذي سيكون تنزيل مخرجات استشارته الوطنية. وعليه، حوّل ما كان ينتظر منه أن يكون وسيلة للبحث عن حلّ للأزمة السياسية إلى أداة يرمي منها إلى تسهيل تركيز نظام الحكم الذي يريده وإقصاء الأحزاب التي يرفض وجودها. وتؤشر ردود الأفعال الأولى التي أعقبتْ محاولته تلك إلى أن بعضا ممّن استدعاهم أبدوا قبولا بدرجة أو بأخرى بطروحاته الإقصائية ولم يجدوا حرجا في تبرير إقصاء جانب من الأحزاب بإرادة الرئيس سعيّد من الحياة السياسية. وهو أمر يؤكد أن مأزق التجربة الديموقراطية التونسية الراهن لم يحصل صدفة أو نتيجة لأطروحات شخص الرئيس وإنما يعكس قبل كل شيء أزمة نخبة تتحدث عن الديموقراطية ولكنها ترفض ممارستها وتثقل في ترذيل مؤسساتها. وربما كان هذا ما يجب أن يتطرق إليه أيّ حوار وطني يحاول أن يشخص علل الدولة التونسية أو أن يبحث عن علاجات لها.


[1]  في مذكرتها الكتابية موضوع طلب اثارة التتبع العدلي في حق نواب الشعب المشاركين في الجلسة العامة طلبت وزيرة العدل توجيه تهمة الفصل 72 من المجلة الجزائية عليهم والتي تصل عقوبتها للإعدام وهو ينص ” يعاقب بالإعدام مرتكب الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي.”
[2] ورد بالتعليق المنشور بالصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية حول الاجتماع المذكور: “اجتمع رئيس الجمهورية قيس سعيد، اليوم الخميس 31 مارس 2022 بقصر قرطاج، بالسيدة نجلاء بودن رمضان، رئيسة الحكومة، والسيدة ليلى جفال، وزيرة العدل، والسيد عماد مميش، وزير الدفاع الوطني، والسيد توفيق شرف الدين، وزير الداخلية.وتطرق اللقاء إلى ضرورة أن يكون القضاء في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ تونس في موعد مع تحقيق العدالة على قدم المساواة لأن ما حصل يوم أمس كان محاولة انقلابية فاشلة وتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي ومحاولة يائسة للمس بوحدة الدولة واستقلاليتها.”
[3] وجه الاستدعاء في اليوم الأول للاستنطاقات للنائب الثاني لرئيس المجلس طارق الفتيتي عضو كتلة الإصلاح الذي ترأس جلسة 30-03-2022 ورئيس مجلس النواب وحركة النهضة راشد الغنوشي، الصافي سعيد نائب مستقل، عياض اللومي نائب مستقل، وليد جلاد  نائب عن كتلة تحيا تونس، نعمان العش نائب عن حزب التيار الديموقراطي، عماد الخميري رئيس كتلة حركة النهضة بالمجلس. وحضر الستة الأول فيما غاب السابع عن الجلسة بسبب اجرائه لعملية جراحية كما افاد بذلك محاميه.
[4] حسب إفادات النواب التي نشرت في وسائل التواصل الاجتماعي  كانت اجاباتهم موحدة اذ تمسكوا  بمنطوق الفصل 68 من الدستور الذي يمنحهم حصانة في عملهم النيابي  وبالفصل 80 من الدستور الذي يفرض على مجلسهم ان يكون في وضع انعقاد دائم فترة الاستثناء .
[5]  بعد استنطاقه ادلى النائب عياض اللومي بتصريح قال فيه “من حسن الحظ أن في تونس شرفاء لم يذهبوا مع الرئيس.. وأنا احيي الضباط الشرفاء والقضاة الشرفاء الذين لم يذهبوا فيما طلب منهم”. وذات الموقف عبر عنه المحامي والزير السابق وأمين عام حزب التيار الديموقراطي غازي الشواشي حيث أكد في برنامج ميدي شو الذي تبثه إذاعة موزاييك أف أم بتاريخ 31-03-2022 “أن الرئيس أعدّ قائمة بأسماء النواب لاجراء إيقافات لكن الأمنيين رفضوا الانصياع لأوامره “معلقا” بأنه يوجد عقلاء رفضوا تنفيذ تعليمات الرئيس بايقافات في صفوف النواب.”
[6] بتاريخ 05-04-2022 كشف عضو مجلس نواب الشعب سمير ديلو في تدوينة  نشهرها على صفحته للتواصل الاجتماعي فايسبوك أنه ” تمّ إعلام النّوّاب الثلاثة الذين تمّ استدعاؤهم لسماعهم يوم غد أمام الوحدة الوطنيّة للبحث في جرائم الإرهاب والجريمة المنظّمة (على خلفيّة الجلسة العامّة – عن بُعد – لمجلس نوّاب الشّعب)، بإلغاء الإستدعاءات”
[7] ورد في البلاغ الذي صدر بتاريخ 05-04-2022 عن مكتب الإتصال بالمحكمة الإبتدائية بتونس، ” تبيّن من خلال تقدّم الأبحاث بخصوص النواب المشمولين بالبحث اليوم الثلاثاء 05 أفريل 2022، أن عددا منهم لهم صفة محام، وهو ما يستوجب صدور الإذن عن الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف لمباشرة الأبحاث بشأنهم.. تولّت النيابة العمومية لدى المحكمة الإبتدائية بتونس، بتاريخ اليوم الثلاثاء، توجيه نسخة من الأبحاث إلى الوكيل العام لدى محكمة الإستئناف بتونس، بغاية الإذن بمباشرة الأبحاث ضدّ من له صفة محام، وإرجاع محضر البحث إلى الوحدة الوطنية لمكافحة الإرهاب، لمواصلة البحث في خصوص باقي المشمولين بالأبحاث، ولمسايرة ما قد يتّخذه الوكيل العام من قرارات بشأن من لهم صفة محام.”
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، البرلمان ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني