مشروع تنقيح خطير للمرسوم 88: بعد البرلمان والقضاء، متى يأتي دور الجمعيات؟

،
2022-02-14    |   

مشروع تنقيح خطير للمرسوم 88: بعد البرلمان والقضاء، متى يأتي دور الجمعيات؟
المصدر: المفكرة القانونية |رسم: رائد شرف

بالكاد بدأت منظمات المجتمع المدني في تونس تنظّم صفوفها وتحاول أداء دورها في هذا السياق السياسي الاستثنائي، حتى وجدت نفسها أمام خطر يهدّد وجودها. فقد تسرّبت نسخة من مشروع تنقيح المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المنظم للجمعيات، اشتغلت عليها الإدارة العامّة للجمعيات في رئاسة الحكومة “في غرف مغلقة”، وعرضتْها على الوزارات من أجل إبداء الرأي. مشروع يهدّد بنسْف مكتسبات المرسوم، وإعادة الجمعيات إلى ماضِ خلناه قد ولّى بلا رجعة.

المرسوم 88: مكسبٌ ثوريّ صمد أمام محاولات التراجع

جاء المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المنظم للجمعيات وليد سياقه الثوري، مشحونا برغبة شديدة في القطع مع الاستبداد وتكريس الحريّات. فقد تمّت صياغته في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، أسوة بمراسيم أخرى كان النفسُ التحرّري قاسمَها المشترك. ساهم المرسوم في تحرير العمل الجمعياتي، فنشأت آلاف الجمعيات الجديدة التي لعبت، أسوة بالمنظمات العريقة، دورا حاسما في تعديل موازين القوى خاصّة في مخاض كتابة الدستور.

سعتْ الأغلبيات الحاكمة بعد 2014 إلى إضعاف هذه الدينامية، والتراجع عن منسوب الحرّية الذي وضعه المرسوم، ليس فقط عبر ممارسة إداريّة تعطّل تكوين الجمعيات الجديدة باستعمال حِيَل وأساليب عديدة، كعدم إرجاع الإعلام بالبلوغ أو تعطيل النشر بالرائد الرسمي، ولكن أيضا عبر محاولات متكرّرة لتنقيح المرسوم. بدأت أولى المحاولات في سنة 2016 وتواصلت ليكون أخطرها مبادرة الوزير السابق المهدي بن غربيّة في سنة 2018. تراوحت الأسباب الداعية للتنقيح بين الحاجة إلى إتمام المرسوم لاستيعاب مؤسسات النفع العام، وضرورة اعتماد منظومة إلكترونية لجمع المعطيات والبيانات المتعلقة بالجمعيات، كطريقة مقنّعة للتراجع عن نظام التصريح الذي ينظّم تكوين الجمعيات. وقد تواصلت هذه المحاولات حتى بعد إلحاق الجمعيات بالسجل الوطني للمؤسسات وخلق قاعدة بيانات إلكترونية خاصة بها تحت إشراف رئاسة الحكومة. لكنّ التعلّة المفضّلة، خاصّة في النقاش العامّ، كانت ما ينسبُ للمرسوم من “فوضى” جمعياتية، بالنظر إلى الانحرافات التي حصلت على أرض الواقع سواء في شكل إسداء خدمات إلى أحزاب سياسيّة، وصولا إلى تُهم تبييض الأموال والعلاقة بنشاطات إرهابيّة[1]. لكنّ ضعف الرقابة على الجمعيات ليس نتيجة قصور تشريعي، بقدر ما يعكس نقص الموارد البشرية وغياب الإرادة السياسيّة لتوفيرها. ففي حين يناهز عدد الجمعيات الموجودة قانونا 20.000 جمعيّة، لا يتجاوز عدد الأعوان المتدخلين في نشاط تكوين ومراقبة الجمعيّات، حسب قانون المالية الأخير، 16 عونا[2]. وعوض تدعيم الإمكانيات لدى أجهزة الرقابة، وتركيز هذه الأخيرة على تقصّي الانحرافات الخطيرة، أصرّت الحكومات المتعاقبة على محاولة التضييق من حريّة الجمعيات بصفة عامّة. لم تنجح هذه المحاولات، نتيجة تصدّي منظمات المجتمع المدني لها، لكنّ المحاولة الحاليّة، ورغم اعتمادها النهج ذاته، هي الأخطر.

تنقيح بعنوان تقييد الحريّة وإطلاق يدِ الإدارة

إذا كان المرسوم 88 يحمل نفسًا تحرّريّا واضحا، فإنّ مشروع تنقيحه يعبّر عن هاجس معاكس: هاجس الخوف من الحرّية، والسعي إلى تقييدها بكلّ الوسائل الممكنة. هذه الفلسفة التسلّطية حاضرة في مختلف التنقيحات، بدءا بمرحلة تكوين الجمعيات، وصولا إلى طرق حلّها، مرورا بتسييرها وتمويلها ونشاطها ومراقبتها.

تكوين الجمعيات: عودة مقنّعة إلى نظام الترخيص

تكمن خطورة المشروع في تراجعه المقنّع عن “نظام التصريح”، الذي كان من أهمّ مكاسب المرسوم 88 والذي يعدّ شرطا أساسيا لحرية الجمعيات. إذ يعني نظام التصريح، على عكس نظام “الترخيص”، أنّ تأسيس الجمعيات حرّ، يرتبط فقط بإرادة مؤسسيها وباتباع إجراءات معيّنة، من دون تدخّل أو سلطة تقديريّة للإدارة.

يفتح المشروع نافذة للإدارة المكلفة بالجمعيات برئاسة الحكومة لرفض تكوين جمعية ما، إذا ما اعتبرت وجود “تعارض واضح” بين نظامها الأساسي والفصول 3، 4 و10، المتعلّقة تباعا بالمبادئ التي يجب أن تحترمها الجمعيات، وبما يحجّر عليها، وأخيرا بشروط وإجراءات تكوينها. ولعلّ ما يزيد من مخاطر فتح تلك النافذة هو تضمين الفصل 4 مفاهيم فضفاضة تسمح برفض تكوين جمعية مثل الدعوة إلى “التطرّف” أو “تهديد وحدة الدولة”، وهي مفاهيم فضفاضة يخشى أن تعمد الإدارة إلى تفسيرها على نحو مقيّد للحرية وفق الطريقة التي انتهجتها الإدارة في تأويل الفصل 3. فقد سبق للإدارة مثلا أن استعملت مبدأ “دولة القانون” الذي يجب على الجمعيات احترامه وفق هذا الفصل، لطلب تعليق جمعية شمس المدافعة عن حقوق المثليّين، بحجّة تعارُض أهدافها مع الفصل 230 من المجلة الجزائيّة، وهو ما رفضه القضاء.[3] وقد ذهب الفصل 10 في الاتجاه نفسه: فهو من جهة اشترط وثائق جديدة لتُضمّن في ملفّ تأسيس الجمعيات، من شأنها أن تضيّق من هذه الحرية، كالوثيقة التي تثبت استغلال المقرّ بوجه شرعي (في حين أنّ عددا كبيرا من الجمعيات لا يمتلكُون مقرّا خاصّا بهم)، واشتراط بطاقة إقامة لا تقلّ مدّة صلوحيتها عن ثلاثة أشهر بالنسبة للأجانب[4] (وهو شرط  يصعب على عدد كبير من المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء توفيره). كما أضاف هذا الفصل شرطا مضمونيا مبهما وقابلاً للتأويل، وهو أن “لا تدخل [أهداف الجمعيّة ووسائل تحقيقها ومجال نشاطها] ضمن مشمولات هياكل عموميّة” أو “تخضع لأنظمة قانونيّة خاصّة” تجعلها خارج مجال المرسوم. ويلحظ هنا أن عبارة مشمولات هي بدورها عبارة غير واضحة يخشى أن تفسر على أنها تمنع تغول أي من الجمعيات على أي من صلاحيات الهياكل العمومية.  

إضافة مثل هذه الشروط، بالتوازي مع إعطاء الإدارة صلاحية رفض ملفات تأسيس الجمعيات، سيؤديان لا محالة إلى التعسّف فيها. ما كانت الإدارة تمارسه على أرض الواقع لتعطيل تأسيس الجمعيات سيتحوّل بهذا الشكل إلى حقّ قانونيّ لها. ولن تغيّر إمكانيّة الطعن لدى المحكمة الإدارية في قرار الرفض شيئًا. إذ لم يتضمّن المشروع اجراءً استعجاليّا يسمح لمؤسّسي الجمعية بالدفاع عن حقّهم في آجال مختصرة، وإنّما، على العكس، اشترط قرارا نهائيا من المحكمة الإدارية يقضي بإلغاء مقرّر الرفض، أي قرارا استئنافيا أو حكما ابتدائيّا لم تستأنفهُ الإدارة. وبما أنّ النظر في دعاوى تجاوز السلطة يحتاج سنوات عديدة في الطور الابتدائي فقط، يفقد الطعن فائدته. وهو ما يعني ببساطة أنّ الإدارة باستطاعتها منع تأسيس الجمعيات، وفق سلطتها التقديريّة. فرغم أنّ المشروع لم يحذف الإشارة إلى “نظام التصريح”، إلاّ أنّه يفرغه تماما من مضمونه، ويؤسّس لنظام ترخيص مقنّع.

يتكرّر المنطق ذاته في تأسيس شبكات الجمعيّات، إذ يضيف المشروع شروطا شكلية ومضمونيّة، “كالتماثل في الأهداف”، ويمنح الإدارة سلطة رفض تكوينها. هكذا يصبح حقّ تأسيس الجمعيات، وحقّ الجمعيات الموجودة في تكوين شبكات، رهن إرادة الإدارة.

للجمعيات حقوق.. في حدود التراتيب

لم يضيّع المسؤولون على صياغة مشروع التنقيح فرصة كي يعبّروا عن هاجس الخوف من الحرّية. فقد  قيّدوا معظم الحقوق التي يكرّسها المرسوم 88 للجمعيات، كالحصول على المعلومات وإقامة الاجتماعات والأنشطة المدنيّة، بشرط قد يفرغها من فحواها، وهو احترام “التراتيب القانونية الجاري بها العمل”. شرطٌ يذكّر بصياغة الفصول المنظمة للحقوق والحريات في دستور 1959، التي “تمارس حسب ما يضبطه القانون”، وهو ما سمح بإصدار تشريعات تنفي الحرية عوض أن تحميها. لكنّ الأمر لن يقتصر، في تنقيح المرسوم 88، على النصوص التشريعيّة، وإنّما يشمل السلطة الترتيبية للإدارة التي سيصبح بوسعها تقيّيد حقوق الجمعيات وحرية نشاطها. فبينما يحجّر المرسوم 88 على السلطات العمومية “عرقلة نشاط الجمعيات أو تعطيله بصفة مباشرة أو غير مباشرة”، يضيف مشروع التنقيح مرّة أخرى شرط عدم مخالفة التراتيب ليُفرغَ الفصلَ من معناه. هكذا، تسترجعُ اليدُ اليمنى مباشرة ما منحته اليدُ اليسرى.

كما يضيف مشروع التنقيح تضييقات أخرى، إذ يربط الحقّ في النفاذ للمعلومة بشرط وجود “مصلحة” لدى الجمعية التي تطلبها، وهو ما يمثّل تراجعا خطيرا عن هذا الحقّ كما يضمنه الدستور وينظمّه القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016. إذ يسهل على الإدارة رفض مدّ الجمعية بمعلومة، طالما لم تقتنع بالعلاقة بين أهدافها ومجال نشاطها، والمعلومة المطلوبة. أمّا الحقّ في نشر التقارير والمعلومات واستطلاعات الرأي وطبع المنشورات، فقد أضافوا إليه مقتضيات “النزاهة والحرفيّة والضوابط القانونية والعلمية المستوجبة”، وهو ما قد يفتح الباب للإدارة لمراقبة منشورات الجمعيّات وربّما منعِها طالما رأت فيها، وفق تأويلها هي، مخالفة لهذه الضوابط. تنقيح المرسوم 88 لن يشكّل فقط تراجعا على حريّة الجمعيات، وإنّما عن بقيّة الحريات المفتكّة بعد الثورة، والتي يبدو أنّ العقل الرجعيّ لدى السلطة يتأهّب للانقضاض عليها.

كلّ الجمعيات مشبوهة حتّى تُثبت العكس

رغم أنّ الحكومة فضّلت العمل على تنقيح المرسوم في الغرف المغلقة، ولم تكلّف نفسها عناء تبني مشروع المرسوم وشرح أسبابه للرأي العامّ، لا يبدو من الصعب استباق المبررات التي كانت لتقدّمها. إذ يقوم الخطاب المناهض لحرّية الجمعيات والمنادي بمراجعة المرسوم 88 على ثلاث حجج أساسية: أولها توظيف أحزاب سياسية لمرونة الإطار القانوني للجمعيات قصد التهرّب من الضوابط القانونيّة لعملها، وهي ظاهرة بلغت أقصاها في انتخابات 2019، وثانيها شبهات ضلوع عدد من الجمعيات في تمويل الإرهاب، وأخيرا شبهات الفساد وسوء التصرّف وضعف الالتزام بضوابط الشفافيّة.

لكن، ولئن كان التصدّي لهذه الحالات مطلوبا، فإنّ النهج المتّبع خاطئ وخطير. إذ لا يشذّ عن الوهم الذي يسيطر على الحياة السياسية في تونس، وهو اعتبار المشكل في النصّ والحلّ في تغييره، ويُهمل مسؤولية الإدارة في ضعف وتأخر تطبيق الآليات الرقابية الموجودة في المرسوم، ومسؤولية السلطة في عدم توفير الموارد البشرية والمادية للإدارة للاضطلاع بهذه المهمّة. كما يقوم هذا النهج على افتراض سوء النيّة، وتعميم الشبهة على الجميع، عوض أن تتقصى الإدارة أثر المخالفين وتطبّق صلاحيتها الرقابيّة.

يظهر هذا المنطق في مسألة التوظيف الحزبي والانتخابي للجمعيات. إذ اعتبرت الحكومة أنّ ما يتضمّنه المرسوم 88 من تحجير دعم أحزاب سياسيّة أو مرشحين مستقلين في الانتخابات. وهو ما تقاعست الحكومات المتعاقبة عن تطبيقه بالنظر إلى استفادة بعض الأحزاب الحاكمة منه، غير كاف. لذلك، يضيف مشروع التنقيح منع مسيّري أيّ جمعية من الترشح في الانتخابات الرئاسيّة أو التشريعيّة أو المحليّة، سواء على قائمات حزبية أو مستقلّة، طيلة 3 سنوات قبل المحطة الانتخابية. كذلك، يمنع المشروع مؤسّسي ومسيّري الجمعيات من الاضطلاع بمسؤوليات حزبيّة، ليس فقط في الهياكل المركزيّة كما في المرسوم 88، وإنما أيضا في الهياكل الجهوية والمحلية. تحجيرات عامّة ومطلقة بهذا الشكل تمثّل اعتداءً على حقّ الترشح وعلى حريّة التنظّم، إذ تُجبر المواطن على الاختيار بين التنظّم الحزبي والتنظّم الجمعيّاتي. وهي تعبّر عن نظرة سلبيّة لأشكال التنظّم المدنيّة، إذ لا ترى فيها ممارسة مواطنيّة ينبغي تشجيعها، بل مصدرا للشبهات وبابا للفساد. ولعلّ الترفيع من السنّ الدنيا المشترطة للمساهمة في تأسيس جمعيّة إلى 18 سنة بدل 16 دليل إضافي على طبيعة هذا العقل.

كما وقع انتهاج المنطق ذاته في المسائل المتعلّقة بتسيير الجمعيات وتمويلها. إذ يشترط المشروع موافقة اللجنة التونسية للتحاليل المالية، التابعة للبنك المركزي، بشكل مسبق، على كلّ تمويل أجنبي للجمعيات. فبدل أن تركّز هذه اللجنة، التي تشكو أصلا من تعاظم حجم عملها بالمقارنة مع امكانيّاتها، على تتبّع التمويلات ذات المصدر المشبوه، سيؤدي تنقيح المرسوم إلى إثقال كاهلها بملفات لا تطرح إشكالا، وفي الوقت ذاته تعطيل عمل الجمعيات بإجبارها على المرور عبر البنك المركزي قبل سحب أيّ تمويل. في السياق ذاته، يُثقل المشروع كاهل الجمعيات بإجراءات ووثائق عديدة، كاشتراط تأشير الجهات القضائية على سجلات المنخرطين والمداولات والنشاطات والمشاريع والمساعدات والهبات، واشتراط عدد كبير من الوثائق عند إعلام الإدارة بالتغييرات التي تطرأ على الهياكل المسيّرة، الخ. مرّة أخرى، تُعامَل كلّ الجمعيات كما لو كانت مشبوهة، يقع عليها باستمرار عبء إثبات براءتها، وكما لو كان جميعها يوظِّف أجراء بوسعهم القيام بمختلف الإجراءات مع ما يرتبط بها من تعطيل بيروقراطي. أمّا الإدارة، فيتوجّه مجهودها إلى التثبّت من سلامة الوثائق وتضمّنها التنصيصات الوجوبيّة، عوض التقصّي والبحث عن الجمعيات المتورطة فعلا.

حلّ الجمعيات، من عقوبة قصوى إلى سياسة حكومية

ربّما لا يقتصر الهدف من إضافة واجبات وتحجيرات جديدة على الجمعيات، على التضييق عليها وتحميلها العبء الأكبر في العملية الرقابيّة. إنّما قد يُفهم أيضا على ضوء تنقيحات أخرى، كوسيلة للوصول إلى حلّ أكبر عدد ممكن من الجمعيّات. فبعد أن كان حلّ الجمعيات يتمّ حصرا بقرار قضائي، كعقوبة قصوى لمخالفات معيّنة، وبعد استيفاء مرحلتي التنبيه الإداري والتعليق القضائي، يسعى مشروع تنقيح المرسوم إلى تسهيله إلى درجة ستجعله بمثابة سيف دموقليس مسلّط على رقاب مختلف الجمعيات. إذ سيصبح المسار العقابي للفصل 45 مرتبطا لا بمخالفات معيّنة، بالنظر إلى خطورتها، وإنما بأيّة مخالفة لأحكام المرسوم. بمعنى أنّ الإدارة يمكن أن تستند لإطلاق المسار العقابي على أيّ سهو، في أيّ وثيقة، أو أي نشاط قد ترى فيه الإدارة مخالفة لأحكام المرسوم المنقّح. بل أنّ الصيغة الجديدة للفصل الرابع مثلا تسمح بمعاقبة الجمعيّة ليس فقط على أساس أعمالها ونشاطها، بل أيضا على تصريحات وأعمال مسيّريها. 
كما يتضمن مشروع التنقيح اختصارا خطيرا للمسار العقابي، عبر إلغاء مرحلة التعليق القضائي، ليتمّ المرور مباشرة من التنبيه الإداري إلى الحلّ القضائي إذا لم يتمّ رفع المخالفة في أجل 60 يوما. بل أنّ مرحلة التنبيه هي الأخرى لن تكون وجوبيّة، إذ سيتسنى للإدارة، إذا ما كانت المخالفة “جسيمة”، وفق تقديرها أو بإثارة من أيّ جهة متدخّلة وكلّ من له مصلحة، أن تمرّ مباشرة إلى طلب حلّ الجمعيّة!

بالإضافة إلى هذا التنقيح الذي من شأنه أن يفتح الباب لحلّ آلاف الجمعيات، تظهر نيّة الإدارة أيضا من خلال إضافة نوع جديد من الحلّ، هو “الحلّ الآلي”، الذي يستهدف الجمعيات المكونة قانونا والتي “لم يعد لها وجود فعلي وواقعي”، وذلك بمجرّد قرار من الإدارة. ولئن كان المبدأ قابلا للنقاش، في ظلّ وجود عدد كبير من الجمعيات منتهية الوجود منذ سنوات، فإنّ صياغته تفضح نيّة الإدارة. إذ ينصّ مشروع التنقيح على حالتين تؤديان إلى الحلّ الآلي، إمّا عدم عقد جلساتها الدوريّة، أو عدم “ممارستها لأنشطتها بما يحقّق أهدافها” طيلة ثلاث دورات نيابيّة متتالية. أي أنّ الإدارة ستنصّب نفسها، هنا أيضا، وصيّة على مدى ملاءمة الأنشطة المنجزة من قبل جمعية ما للأهداف المعلنة، لتحلّها آليا ولو كانت تعقد جلساتها في مواعيدها. أو على العكس، تحلّ جمعية ناشطة في الواقع ليس بعد تنبيهها، لمجرّد عدم عقدها جلساتها العامّة في أوانها. فالحلّ الآلي يمكن أن يؤدّي إلى تعسّف كبير من الإدارة، خاصّة في غياب وسيلة طعن استثنائيّة بآجال مختصرة، إذ يخضع الطعن هنا أيضا إلى اجراءات دعاوى تجاوز السلطة وآجالها الطويلة.

نحن إذًا، على الأرجح، أمام سياسة حكوميّة ترى في الجمعيات عبءا وجب التخلّص منه، عبر حلّ أكبر عدد ممكن منها، آليّا أو قضائيّا. أمّا القليل الذي سيصمد منها، فيُثقَل كاهلها وتُعطّل أعمالها ويُهدّد تمويلها ووجودها، حتّى تسقط أو تخضع.

إلغاء حرّية الجمعيّات بجرّة قلم

بالمقارنة مع المحاولات السابقة لتنقيح المرسوم 88، لا تكمن خطورة المشروع الحالي فقط في مضمونه التسلّطي الذي يهدّد بنسفِ مكتسبات الثورة في علاقة بحريّة الجمعيّات، وإنّما في انعدام أي هامش قانوني لمناقشته أو تعطيله أو الطعن فيه، في ظلّ الحالة الاستثنائيّة. إذ استأثر رئيس الدولة بعد تعليقه أعمال البرلمان في 25 جويلية 2021 بالسلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، ثمّ علّق الدستور عبر الأمر 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021، محصّنا مراسيمه من أي رقابة قضائيّة ممكنة. فالنصوص الصادرة منذ حينها، بقطع النظر عن أهميّتها السياسيّة أو مساسها بالحقوق والحريات، كمرسوم جواز التلقيح أو المرسوم المتعلّق بقانون الماليّة، لا تخضع إلى أيّ تداول ديمقراطي أو نقاش عامّ، وإنما تُكتشف فصولها مباشرة في الجريدة الرسميّة، ثمّ لا تقبل الطعن بأي شكل من الأشكال. تنقيح مرسوم الجمعيّات، الذي يتعارض جوهريا مع حريّة تكوين الجمعيات المضمونة بالفصل 32 من الدستور، إضافة إلى مساسه بحقوق دستوريّة أخرى كالحقّ في الترشح والنفاذ إلى المعلومة، يكشف مرّة أخرى زيف الادعاء بأنّ الحقوق والحريات مضمونة وأنّ الباب الثاني من الدستور لم يعلّق. ففي ظلّ تحصين المراسيم من أيّ رقابة، يصبح الحفاظ على باب الحقوق والحريات مجرّد شعار للاستهلاك الداخلي والخارجي.

تنقيح المرسوم 88 بهذه الطريقة وفي هذه الظروف، سيكون تعبيرا جديدا عن ذهنية الهدمِ السائدة، التي تستعيض عن تشخيص الأمراض والبحث عن علاج مناسب، ببترِ أعضاء الجسد الديمقراطي واحدا تلو الآخر. يلتقي هنا العقل الإداري المحافظ والكسول، الذي لم يستسغ حريّة الجمعيات ولم يسعَ للتأقلم معها، مع تصوّر سعيّد الرافض لكلّ ما أنتجه الانتقال الديمقراطي منذ 2011 بغثّه وسمينه، والباغض لكلّ أشكال التنظّم المدني لصالح نقاء الانتماء “الأهلي”. هكذا تتحوّل الحالة الاستثنائيّة، التي اتخذت من “تصحيح المسار” شعارا لها وبشّرت “بديمقراطية حقيقيّة”، إلى مطيّة ليس فقط لإعادة تشكيل النظام السياسي، وإنما أيضا للتراجع عن مختلف المكتسبات المفتكّة بفضل الثورة.

اضغطوا هنا لتحميل مشروع تنقيح المرسوم عدد 88.


[1] أعلنت الحكومة سنة 2020 عن حلّ 42 جمعية ومقاضاة أكثر من 400 جمعية أخرى بسبب تهم ترتبط بتمويل الإرهاب وغسيل الأموال، وفق إجراءات المرسوم 88.
[2] ميزانية 2021، مهمة رئاسة الحكومة، ص. 101.
[3] الكلمة معتمدة بهذه الصيغة (بالواو) في القانون التونسي وفي مشروع تنقيح المرسوم، وتعني (validité) وتتميز عن “صلاحية” (prérogative).
انشر المقال



متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، استقلال القضاء ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني