مسيرات بيروت في ذكرى المجزرة: ألمٌ وغصّات وغضب


2021-08-05    |   

مسيرات بيروت في ذكرى المجزرة: ألمٌ وغصّات وغضب
(تصوير لارا شاهين)

تمرّ السنة الأولى على تفجير مرفأ بيروت وكأنّها نوم متقطّع نستفيق منه حيناً ونعود إلى كوابيسه حيناً آخر. عامّ مضى من دون أن نلاحظ، وكأنّ الرابع من آب ليس سوى البارحة. معظم اللبنانين لم يتعافوا من صدمة 4 آب، فكيف من تركه حبيب أو أم أو والد، أو معيل أو طفل، أو جار، أو صديق، أو دمّر منزله أو حيّه، أو خسر عملاً تعب فيه سنوات، أو هدية كان يحتفظ بها من حبيب، أو صور من طفولته…

في الشوارع التي دُمّرت أحياؤها بالكامل أو جزئياً في 4 آب 2020، سار في 4 آب 2021، آلاف المواطنين وهم ضحايا بدورهم للمنظومة جنباً إلى جنب مع أهالي الأحياء المدمّرة والكثير من الأشخاص الذين أصيبوا في 4 آب بشظايا الزجاج الذي طعنهم في أماكن متفرّقة من أجسادهم. فبالإضافة إلى مسيرة أهالي الشهداء والنقابات التي انطلقت من العدلية ومسيرة فوج الإطفاء التي انطلقت من الكرنتينا، شهدت بيروت مسيرات أخرى الأولى انطلقت من ساحة ساسين ومرّت بالمستشفيات التي دمّرت بشكل شبه كامل في التفجير أي الجعيتاوي والروم والوردية ووقع فيها عشرات الضحايا سواء من طاقم العمل أو من الوافدين أو المرضى والثانية من شركة الكهرباء مرّت بمار مخايل والجميزة وصولاً إلى الصيفي إضافة إلى مسيرة ثالثة لمجموعات من مواطنون ومواطنات انطلقت من السان جورج ورابعة انطلقت من برج حمّود.

اختار المتظاهرون مسارات تمرّ بمناطق طالها الدمار والفقدان والوجع. استعادوا ذكرى الرابع من آب، لاحظوا الأبنية التي لم تُرمّم بعد، والزجاج المكسّر الذي لا يزال ظاهراً أو مكوّماً في الطرقات، والأبنية الفارغة التي هُجّر سكّانها ولم يعودوا بعد، والمحال التجارية والمطاعم التي أغلقت حتى إشعار آخر.  

التقت المسيرات جميعها عند تمثال المغترب قبالة مرفأ بيروت، لتُشكل مشهداً يُعيدنا إلى أيا 17 تشرين ححين غصّت ساحتا رياض الصلح والشهداء بالمتظاهرين، إنّما هذه المرّة بطعم الحزن والقهر على أرواح أُزهقت وظلم التفجير الذي حوّل اللبنانيين من ضحايا الوضع الاقتصادي المنهار إلى ضحايا الظلم والقتل والخسارة وفقدان الحق في الحياة والسكن.

لم يكن المتظاهرون من بيروت فحسب، بل توجّهت السيارات والباصات من مختلف المناطق اللبنانية لتصبّ في قلب العاصمة، شبّان وشابات وكبار في السن، شاركوا في هذا النهار ليشكّلوا قوّة اتّحاد عابرة لكلّ الاعتبارات السياسية، فحسب سيدة أتت من الهرمل التي تبعد نحو ثلاث ساعات عن بيروت برفقة زوجها و”نحن نطلب العدالة، من حقّنا معرفة ما حصل، فمن لم يتضرّر بإصابة أو خسارة قريب، فقد تضرّر معنوياً بسبب الفساد والإهمال”. وتُضيف، “أنا هنا لأؤكد أنّنا لا نرهن أنفسنا لمن يُريد تفرقتنا تحت شعارات سياسية ومذهبية”، فالتفجير “سبّب وجعاً يعيشه كلّ من في لبنان، منذ عام نعيش في حزن”.

شعارات وهتافات مندّدة

مسيرة حاشدة في مار مخايل والجميزة سار فيها الآلاف انطلاقاً من شركة كهرباء لبنان، عابرين الصيفي ثم متوجهين نحو تمثال المغترب قبالة مرفأ بيروت. قبل أن تلحق بهم المسيرة التي انطلقت من ساحة ساسين ضمّت بين مشاركيها ممرضين وممرضات من المستشفيات المدمّرة. وبين كل خطوة وخطوة، لمس المتظاهرون وجعاً عظيماً، وجع من وقع عند هذه الزاوية وافترشت دماؤه الأرض، وجع من رماه عصف التفجير من على الشرفة، أو من وقع سقف منزله عليه، أو من رأت ولدها يموت أمامها بطعنة من زجاج النافذة، وجع من انهار السقف فوق والدته المسنّة. تمرّ المسيرة أمام أنظار مسنّين ومسنّات وسيّدات يقفن على شرفات المنازل، منهنّ من رمين الأرز على المارّة. كان المشهد صاخباً، وأصوات المحتجّين تعلو في السماء يُقابلها صمت كبير، صمت من يشدّون على جرحهم العميق محاولين إسكاته، ليتمكّنوا من الصراخ مع غيرهم.

هي السلطة التي وجه إليها المحتشدون أصابع الاتهام بارتكابها هذه الكارثة بحقّهم قبل عام، ولم تقف عند ذلك بل استمرّت في استشراسها تجاه مواطنيها بعرقلة التحقيق القضائي وحماية المشتبه بهم الأوائل عبر الحصانات. فرفعوا لافتات مندّدة، “دماء الشهداء، لن تُمسح إلّا بدماء الفاسدين”، و”كلّ يوم 4 آب إلى أن يُحاسب المجرمون”. وتمنّى أحد المتظاهرين إعدام من تسبّبوا بالمجزرة، فحمل “مشنقة” ورفع عليها يافطة دوّن عليها عبارة “سيادتكم، فخامتكم، معاليكم، سعادتكم: المشنقة نهايتكم”. وبحناجرهم صدحوا عالياً، “فجرتونا في بيروت وعلى بيوتكم بدنا نفوت، ويلا إرفع حصانات”، “علّي صوتك، النظام بدو يموّتك”.

أين كانوا هؤلاء، لماذا لم تشهد العاصمة كلّ يوم محتجّين بهذا العدد منذ يوم الرابع من آب المشؤوم. هل نال الألم من إرادتهم؟ هل هدّهم التفجير؟ يقول البعض إنّ الشعب تعب، هلك من عدم وصول صوته لآذان صاغية، هلك من كثرة ما صرخ ولا من مجيب. لكننا أمس شعرنا أنّنا في 17 تشرين. يقول أحد المتظاهرين إنّ “من حاول إسكات الناس بكلّ الوسائل منذ العام 2019، لم يتوانَ عن استخدام أكثر الوسائل إرهاباً، قتل أكثر من 218 مقيماً وجرح أكثر من 6000 آخرين ودمّر آلاف الوحدات السكنيّة، فالشعب لا يزال يتعافى ولربما هذا ما يبرّر عدم تنفسينا عن غضبنا بشكل يوميّ في الشارع”.

وقفات عند أرواح خُطفت

شهدت المسيرة عدّة وقفات استذكار لشخص قُتل في 4 آب. في شارع الجميزة، أصدقاء روان ميستو لفتوا الأنظار إلى روحها التي أُزهقت جانب مكان عملها. صديقاها يرتديان قميصين عليهما صورتها. يُشير صديقها محمد بإصبعه إلى جانب المحل ويقول “هنا ماتت”. يُضيف في حديث سريع مع “المفكرة”، “نريد أن نعيش في دولة فيها عدالة وإنسانية، دولة فيها شعب يعيش بكرامة”. هذا أبسط ما يتطلّع إليه هذا الشاب الذي خسر زميلة عمل وصديقة، وخسر كافة مكتسباته المعيشيّة في بلد يعاني من طبقات متعدّدة من الأزمات، يقول: “كنّا نُشارك سوية في كافة التظاهرات التي حصلت في بيروت منذ العام 2019، روان كانت مندفعة لتكون جزءاً ممّا يحصل في البلاد”. لذا، فإنّ كلّ ما يطلبه هذا الشاب، يتقاطع إلى حد كبير مع ما كانت تُريده روان أيضاً.

خطوات قليلة، عند مستشفى الوردية الذي نال نصيباً هائلاً من الدمار، قُتلت الممرضة جاكلين جبرايل، يُعيد زملاءها في العمل استذكارها بوضع صورتها على مدخل المستشفى، يقفون إلى جانبها ويلوّحون بأعينهم للمارّين في المسيرة. تُعيد رئيسة المستشفى الأم نيكولا عقيقي مآسي ذلك اليوم المشؤوم، لا شيء من الكلام يُمكن أن يوصف هول الكارثة”. تقول: “أمس كنّا تحت الأنقاض، لا يوجد ما أقوله اليوم، حقاً يُمكن أن نُعيد بناء المباني التي دُمرت لكن من يبني النفس من جديد”. وتوجّه نظرها إلى المسيرة الحاشدة وتقول “هؤلاء الشباب من سيُعيد بناءهم”.

تستعيد من جديد حادثة موت الممرضة جاكلين، وهي لا تقوى على منع دمعتها وتنظر إلى صورتها، “جاكلين نحن ما مننساكي، كل يوم منذكرك”. وتُضيف، “وضعنا صورتها على مدخل المستشفى، كل زائر سينظر إلى صورتها”. تتابع، “كانت مثل الحربة التي أخذتها الصاعقة منّا، هي بطلة، استشهدت وبقي زملاؤها يحاربون”.

تشعر الأم نيكولا أنّ التفجير لم يمرّ عليه وقت، وكأنّه الأمس، تقول: “مرّ أحد الأشخاص من بين المسيرة وأخبرني أنّه كان في طوارئ المستشفى خلال التفجير وهو يعاني من نوبة ربو”. لا تضيف شيئاً إلى هذه الرواية، فهي لم ترد منها سوى أن تلفت إلى أنّ الوقت الذي يظن البعض أنّه مر بسرعة، في الحقيقة لم يمر، التفجير حصل منذ عام صحيح، لكنّ من عايشه عن قرب يشعر به كلّ يوم. ولدى سؤالها عمّا تطلبه اليوم من السلطات، تقول: “لا أطلب من أحد شيئاً، فقط إن لم تنصفنا الأرض وتنصف المعترين لراحوا وتنصف لبقيوا، ما إلنا إلّا السما”. تُضيف، “الأرض اليوم عم تحكي مع السما، وتطلب منها الإنصاف، لأنو ما حدا عم ينصفنا والناس كلها موجوعة”.

وكانت مسيرة ساسين التي ضمّت ممرضات وممرضين من المستشفيات المتضررة، توقّفت عند مستشفى الجعيتاوي ثمّ الروم الذي قتلت فيه 4 ممرضات و12 مريضاً ثم عند مستشفى الوردية.

تظاهرات غاضبة في وسط بيروت

بعد التقاء المسيرات جميعها قرب تمثال المغترب، دُعي الحشد إلى مجلس النوّاب حامي الحصانات، وهناك ملأت الحشود ساحة الشهداء والشارع بين مبنى النهار وأحد مداخل البرلمان كآخر نقطة تجمع يصلها المتظاهرين، ليكون المشهد هناك، من نوع آخر. فما كان في بداية النهار تعبيراً عن حزن وقهر تحوّل في المساء إلى غضب. فمجموعات من الشبّان الغاضبين، من وضع اقتصادي متدهوّر، من إهمال لمطالبهم وفقدوا الأمل من أن تستجيب لهم آذان السلطة، قد يكونوا هم أنفسم في كلّ مرّة، أو أشخاص غيرهم يجدون في التعبير عن غضبهم وسيلة وحيدة للاحتجاج. هم شبّان في مقتبل العمر، منهم عراة الصدور، يخبّئون وجوههم بكوفية أو قطعة قماش، يعرهون تجاه البوابة الحديدة المؤدية إلى ساحة النجمة حيث البرلمان ويُحاولون تسلقها. ويستمرون بالتصعيد ويبدأون رمي القوى الأمنية بحجارة فتحاول هذه الأخيرة إبعادهم إن كان عبر خراطيم المياه أو عبر الغاز المسيل للدموع. وكلّما رشقت القوى الأمنية قنابل الغاز، يركضون ويتفرقون بين المفارق ويعودون ريثما تأخذ الرياح الخفيفة رائحة الغاز. لم تبدأ القوى الأمنية استخدام الرصاص المطاطي حتى نحو السابعة وبحسب المعلومات وقعت عشرات الإصابات بالرصاص المطاطي، ومن بينهم ثلاث مصوّرين صحافيين. وكانت قوى الأمن الداخلي أصدرت في هذا الوقت على تويتر تغريدة تُشير فيها إلى أنّها “ستلجأ إلى استخدام الوسائل المشروعة والمتناسبة وفقاً للقوانين المرعيّة الإجراء بحق المتظاهرين غير السلميين”.

في نهاية هذا النهار أعلن الصليب الأحمر اللبناني عن إصابة 84 شخصاً، من بينهم 13 تم نقلهم من الجميزة ووسط بيروت إلى المستشفيات فيما تم إسعاف 71 شخصاً على الأرض. وفيما رصد المحامون المتواجدون على الأرض والمتابعون من “لجنة المحامين المتطوعين للدفاع عن المتظاهرين” نقل نحو 39 شخصاً إلى المستشفيات. الإصابات معظمها بسبب حالات اختناق جرّاء الغاز المسيل للدموع الذي رشقته القوى الأمنية تجاه المتظاهرين والرصاص المطاطي. وانتهى النهار أيضاً بتوقيف 4 متظاهرين في مخفر الجميزة خرجوا جميعهم في اليوم التالي.

إشكالان بين القوات اللبنانية ومتظاهرين

وقع خلال النهار إشكالان كان مناصرو حزب القوّات اللبنانيّة طرفاً فيهما. الأول حصل حين اعترض رجل متوسط العمر على قيام أحد الأشخاص برفع علم حزب القوّات على الأتوستراد المقابل لمرفأ بيروت وظهر الرجل على شاشات التلفزة ووجهه وملابسه ملطخة بالدماء يلفّ رأسه بالقماش. وقال إنّه صودف مروره أمام سيارة يحمل أفرادها أعلام حزب القوّات، فطلب منهم إزالته متمنياً أن يكون العلم الوحيد الذي يُرفع هو العلم اللبناني. وشرح الرجل بأنّه حصل تلاسن بالكلام مع القواتيين وانهال عليه عدد من القوّاتيين بالضرب المبرح فأصابوه بجرح في رأسه.

إشكال آخر، حصل في منطقة الجميزة خلال مرور متظاهرين من الحزب الشيوعي اللبناني أمام مركز القوّات وحصل بعدها إشكال أدّى إلى سقوط عدد من الجرحى، من بينهم مازن أبو زيد الذي دخل إلى المستشفى في حالة حرجة. الحزب الشيوعي اللبناني دان الإشكال معتبراً أنّه “كمين مدبّر نفذّته زمرة ميليشياوية من القوات اللبنانية،  ضد التظاهرة الشعبية التي دعت اليها لجنة أهالي ضحايا مرفأ بيروت بحجة مرورها في “منطقتهم“. وحمّل الحزب الشيوعي اللبناني، القوات اللبنانية المسؤولية الكاملة عن هذا الاعتداء الهمجي وما قد يترتب عليه من نتائج”. واعتبر أن هذا ليس الاعتداء الأول من قبل قوى السلطة في مختلف المناطق والساحات ولن يكون الأخير”.

من جهته، أصدر حزب القوّات اللبناني بياناً أشار إلى أنّ “موقع الحزب يقع في زاروب داخلي وليس على الطريق العام، ما يدلّ أنّ الاستهداف مقصود وعن سابق تصور وتصميم ولم يحصل بالصدفة”. وتضمن البيان عدّة اتهامات تجاه شباب الحزب الشيوعي بأنّهم “يحملون على ظهورهم حقائب مليئة بالحجارة ويتهفون “صهيوني صهيوني سمير جعجع صهيوني”، وراحوا يقتربون من المركز وهم يرشقونه بالحجارة وبعض قنابل المولوتوف، ممّا أدى إلى إصابة ثلاثة من القواتيين الذين تقدّموا لحماية المركز”. وقدّم البيان رواية أخرى تتصل بحادثة الاعتداء على رجل بسبب رفع علم القوات في التظاهرة، قائلاً: ” صودف تواجد شابٌّ قوّاتيٌّ  بين الجموع  يحمل علماً صغيراً لـ”القوات”، فقام أحد الحضور بنهره طالباً منه رمي علم “القوات”، فرفض الشاب ذلك، ممّا دفع هذا الشخص إلى صفعه على وجهه محاولاً انتزاع العلم منه بالقوة وهو يصرخ ويشتم “القوات” وعلمها، فاندفع مَن كان في الموقع للدفاع عنه”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، أحزاب سياسية ، لبنان ، حراكات اجتماعية ، مجزرة المرفأ ، انتفاضة 17 تشرين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني