ليس للفقراء حقٌّ في المدينة


2021-06-28    |   

ليس للفقراء حقٌّ في المدينة
الصورة مأخوذة من صفحة الحملة الوطنية لإسناد النضالات الإجتماعيّة

مثل زيتونة برية، ينتصب البيت العتيق للجدّة محرزية الدريسي في مركز مدينة أريانة، مدافعاً عن آخر لحظاته في زمن الاقتلاع العمراني. منزل العائلة المُتكوّن من طابقين، الذي ينتمي إلى العمران ما قبل الاستعماري، يُشكّل شهادة صامتة عن غربة المدينة التقليدية وضياعها داخل مشهدية عمرانية، أقلّ ما يقال فيها أنها حالة من التطوّر التخريبي.

بعد أكثر من 60 سنة ألقِيَ بالجدة محرزية وأسرتها خارج المنزل، تنفيذا لأمر بالإخلاء إثر إصرار المالك الجديد على إنهاء عقد الإيجار واسترداد المنزل الذي اشتراه بأبخس الأثمان دون دراية من العائلة. هذا المنزل الذي قطنتْه العائلة أكثر من نصف قرن، أجبِرتْ مؤخّرا على مغادرته بالقوة العامة تاركةً وراءها أمتعتها وأشياءها وذكرياتها وكل ما يمكن أن يقتسمه المكان مع الإنسان من معانٍ وأشياء. ومن المنتظر أن تُخرِس أصوات الجرافات كل شيء إلى الأبد، لتنتصب لافتة كبيرة تشير إلى حظيرة بناء ضخمة، على الأرجح مركز تجاري جديد أو طوابق متكونة من محلات أرضية للكراء وشقق سكنية للإيجار في الطوابق العليا، مثلما يُوحي بذلك الاتجاه العمراني الزاحف على المدينة.

 

نمو حضري على حساب الهامشيين

جولة قصيرة في حومة (حي) سيدي عمار في مركز مدينة أريانة، قد تُبعثر بصرك بسبب آثار عدم الاتساق والتدمير التي خلّفها المعمار الرّبحي على المعمار القديم. هذه “الحضرنة” الزاحفة دون رحمة تشبه إلى حدّ ما صوت شخصية إيهاب حسن في رواية “استخدام الحياة” للكاتب المصري أحمد ناجي، عندما يقول: “العمارة ليست البحث عن الجمال او فعاليته. بل هي استنزاف كل موارد الطبيعة، عصر كل عناصر البيئة إلى آخر نقطة، التاريخ، الأسلوب، الجمال، الخصوصية الثقافية. كل هذا نوع من الهوامش، بل هي زوائد جلدية ناتجة عن العمارة…العمارة تقود ولا تُقاد”.[1]

هذا التشكّل الحضري الجديد الذي يتمدّد بشكل متسارع تحت أصوات الجرّافات وشاحنات الإسمنت والحديد، يبدو أن المدينة التقليدية وساكنيها أول ضحاياه، إذ يجري اقتلاعهم دون التفكير في الآثار الاجتماعية والجمالية والبيئية. هناك حالة من “التدمير الخلاّق”[2] تحمل في طياتها معاناة اجتماعية ومسار مطبوع باللاعدالة. خلال محاولتها شرح الأسباب الكامنة وراء طرد محرزية الدريسي وعائلتها من المنزل، قالت حفيدتها رانية مجدوب “إن حكاية منزلنا تشكّل نموذجاً لمسارات صناعة الهامش والكيفية التي تُجرّد بها الطبقات الفقيرة من حقّها في المدينة. فمركز مدينة أريانة يُعدّ من الأحياء القليلة التي حافظت على تنوّعها الاجتماعي والطبقي، ولكنهم يريدون تحويلها إلى مركز تجاري كبير ومكاتب بزنس ومحلات للكراء”، وقد أضافت رانية التي تنشط ضمن ائتلاف من أجل الحق في السكن والمدينة “إن السلطات تعاملت معنا باحتقار واقترحوا علينا حلولا خيرية، في حين أن المشكلة متعلقّة بالحقّ في السكن، لأن الدولة لم تتوجه بسياسات إسكان للطبقات الفقيرة، واقتصرت على بعض البرامج الموجهة للطبقات الوسطى، ومنزل جدتي ليس مأوى فقط بل هو حياة اجتماعية بأكملها”.

 

المضاربة العقارية وسَلعنة المدينة

إن إفراغ مراكز المدن الكبيرة من الفئات الفقيرة عبر استغلال أوضاعهم السكنية الهشة ليتم إرسالهم لاحقا إلى الضواحي المهمشة، يجري التأسيس له بوصفه حالة من التجديد العمراني الذي يفرضها العصر، في حين أن هناك سياسة عمرانية تهدف إلى الاستعمال الربحي للمدينة وتحويلها من فضاء متنوع وذي قابلية للحياة إلى “مجموعة من البضائع”،[3] وهذه البضائع التي يجري الترفيع في أسعارها باستمرار تصبح حكرا على الفئات الميسورة دون غيرها.

بعض الإحصائيات التي تنشرها وزارة التجهيز والإسكان تشير إلى أن عدد البنايات العمودية تطوّر بنسبة 43.59% في الفترة الفاصلة بين سنتي 2016 و2017[4]، ويتمركز هذا التطور بالأساس في الشريط الشرقي للبلاد، خاصة تونس الكبرى وسوسة والمنستير والمهدية وصفاقس. وفي الوقت ذاته، شهد عدد المساكن الشاغرة ارتفاعا بنسبة 67% في الفترة الفاصلة بين سنتي 2004 و2014[5]. ويمكن إرجاع ظاهرة الشغور بالأساس إلى انهيار المقدرة الشرائية مقارنة بارتفاع أسعار بيع العقارات وإيجارها. تعتبر هذه الإحصائيات ملمحا عن السياسة العمرانية التي تهدف إلى تحويل مراكز المدن التونسية الكبرى إلى سوق كبيرة للمضاربة العقارية، وبنية متشابكة من المحلات التجارية الكبرى والعمارات ومآوي السيارات.

في هذا السياق تحدثت ليلى الرياحي، مهندسة معمارية وناشطة سياسية، للمفكرة القانونية عن مضمون هذه السياسة العمرانية قائلة: “إن غياب سياسة إسكانية عمومية ووجود سياسة تشجّع الاستثمار والفضاءات التجارية الكبرى والمضاربات العقارية تهدف في نهاية المطاف إلى خلق ريوع عقارية. وعندما يتكاثر الاحتكار والمضاربة والريع يغيب العدل الذي ربطه عبد الرحمن إبن خلدون بنيويا باستمرار العمران، لأن المضاربة تنسف العمران القائم على التضامن والتعاون وتعوّضه بالمنافسة”. وأضافت الرياحي “إن هذا المنوال العمراني يُعيد تشكيل المدينة بوصفها فضاءً عامّا ليجعلها غير متاحة أمام الجميع، ويشدّها أكثر إلى مصالح الأقلية الاجتماعية. وبالمقابل تغيب سياسات عمرانية وإسكانية ملائمة لمجموع الحاجيات المواطنية، فعندما ترتفع أسعار الإيجارات في قلب المدن يُضرب آليّاًّ الحق في السكن”.

تشكل مدينة أريانة أنموذجاً لهيمنة المنوال العمراني الربحي، إذ واكبت المدينة حالة من المركزة العمرانية العشوائية التي قضتْ على الخصوبة الفلاحية التي كانت تحيط بمركز المدينة، وجعلتها محاصرة بالبناءات من كل الجهات. فقد شهدت المدينة في سنة 2017 بزوغ 280 بناية عمودية جديدة. ومن المنتظر توسّع هذا الاتجاه العمراني، بخاصة أن السلطات باتت تنظر إليه بوصفه مصدرا جديدا للموارد الجبائية.

 

الحق في السكن، الضرورة الغائبة

تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن الأسر التونسية وفّرت حوالي 27% من نفقاتها الجملية سنة 2015 لفائدة السكن، إضافة إلى أن متوسط إنفاق الفرد الواحد ارتفع من 635 دينار سنة 2010 إلى 1030 دينار سنة 2015، وتقدر نسبة الارتفاع بحوالي 62%.[6] ومن الملاحظ أن الارتفاع المشط في أسعار الايجار كان له دور كبير في ارتفاع متوسط إنفاق الفرد الواحد على السكن، خاصة في الأوساط الحضرية الكبرى التي تشهد تمركزا ديمغرافيا عاليا، ترافقه صعوبة مستمرة في توفير الحاجيات الحياتية الأساسية، وهو ما غذّى ظاهرة التجمعات السكانية العشوائية المحيطة بمراكز المدن التي لا تتوفّر فيها شروط السكن الملائم والعيش الكريم، وعادة ما يكون ارتباطها بالخدمات العامة للدولة على قدر كبير من الهشاشة.

رغم أن الحق في السكن يعتبر من الحقوق الحياتية الأساسية فإنه غير مكفول في التشريعات التونسية، إضافة إلى أنه لم يصبح جزءاً من السياسات العمومية، ولم تنخرط الدولة التونسية في سيّاسة إسكانية موجّهة للفئات الفقيرة والأقلّ حظا في الانتفاع بسكن لائق. حتى أن البرنامج الوحيد المتعلق بالسكن الاجتماعي الذي أعلِن عنه في سنة 2012 كان محدوداً واقتصر على التدخّلات العرضية المتعلقة بتحسين المساكن أو بناء وتهيئة مساكن ومقاسم اجتماعية لم يتجاوز عددها 13500 مقسما ومسكنا في سنة 2020 من أصل 20000 مقررة منذ سنة 2012.[7] وقد كانت البرامج الإسكانية الأخرى موجهة للموظفين والأجراء على غرار برنامج السكن الأول أو برنامج المساكن الممولة عن طريق صندوق النهوض بالمسكن لفائدة الأجراء.

غياب الدور الحمائي- الاجتماعي للدولة بخصوص الحق في السكن تسَاوق مع بروز المضاربة العقارية وارتفاع نفقات السكن، التي أصبحت تشكل عبئا ثقيلا على شرائح اجتماعية واسعة خاصة في الحواضر الكبرى. كما ساهم غياب الدولة في خلق حالة عمرانية غير متكافئة، يجسدها أساسا الاكتظاظ العمراني في الأحزمة الحضرية الشعبية الفقيرة التي بات ينظر إليها –رسميا- بوصفها حالة أمنية في حاجة إلى مزيد من الضبط والعقاب، مقابل الأحياء الميسورة التي عادة ما يكون فيها النفاذ للخدمات والحياة اللائقة يسيرا.

 

 

[1]  أحمد ناجي. استخدام الحياة، ط1، مصر: منشورات مرسوم، 2014، ص: 55.

[2]  المصطلح مقتبس من: ديفيد هارفي. مدن متمردة، من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر (ترجمة لبنى صبري) بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017، ص: 45.

[3]  سرير احمد بن موسى: هنري لوفيفر: من الحق في المدينة إلى هرمينوطيقا المدينة” المواقف، المجلد 15، العدد 02، ديسمبر 2019، ص-ص 237- 266.

[4]  وزارة التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية (الإدارة العامة للإسكان) إحصائيات البناء العمودي لسنة 2017.

[5]  وزارة التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية (الإدارة العامة للإسكان) أهم المؤشرات الخاصة بالمساكن والأسر لسنة 2014.

[6]  المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر لسنة 2015. المعهد الوطني للإحصاء، تونس، ديسمبر 2017.

[7]  ميزانية الدولة لسنة 2021، مهمة التجهيز والإسكان والبنية التحتية، أكتوبر 2020.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، الحق في السكن ، مقالات ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني