كلمة وداد حلواني، لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان‎


2013-09-27    |   

كلمة وداد حلواني، لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان‎

أخيراً وبعد انقضاء 22 سنة على عمر الدعوى والتحقيقات والجلسات، صدر الحكم عن محكمة جنايات الجنوب بقضية المربّي محي الدين حشيشو والذي صادف مع ذكرى اختطافه الـ31..!!
كانت نجاة، زوجته، وكنا معها ننتظر وكذلك أولاده وأولادنا أن تنصفنا العدالة بعد طول معاناة وانتظار. فجاء الحكم بتبرئة المتهمين الثلاثة لعدم كفاية الدليل بحق هؤلاء والا للشك، ومن دون تقديم أي حل من أي نوع كان للقضية المركزية التي هي معرفة مصير محي الدين حشيشو. وقد شكل الحكم، الذي سنطعن به امام محكمة التمييز، مؤشرا جديدا على تقسيم البلد منذ انتهاء الحرب، وبفعل قيم الحرب، ما بين أقوياء وضعفاء. ونحن ننتمي بالطبع إلى الفئة الثانية، باعتبار أنه فرض علينا أن نكون ضحايا مع مفقودينا ، وأن نحمل هذه الصفة منذ بداية الحرب حتى اليوم.
نقول بمرارة أننا نعيش في بلد يستّر حكامه على جرائم الحرب وعلى مرتكبيها، ويحمي خاطفي أولادنا وأزواجنا وأهالينا، أيا كانت أسماؤهم.
ثبت بالملموس حتى اليوم أن الضحية هي الحلقة الأضعف.. ونحن نعيش في بلد يعج بالمجرمين، يعيشون بيننا، يستقبلون ويودعون ويسافرون ويصرحون .. وهم معروفون بالأسماء وأماكن الاقامة والوظائف والرتب.. لكنهم لا يحملون ولم يحمّلوا يوماً هذه الصفة “المجرم”!!
ولا يسعنا هنا الا أن نستذكر بكثير من الوفاء والحب القاضي الراحل جوزيف غمرون، في القضية الشهيرة، قضية حاطوم، والتي انتهت الى تجريم الخاطف لاقدامه على خطف شخص من آل فارس في العام 1982 في ظل الحرب، بعدما اعتبر الخطف جريمة مستمرة لا تسقط لا بالتقادم ولا بالعفو!!
اننا نسوق هذا الكلام ليس للتشكيك بعمل القضاء، ولكن من حقنا أن نسأل:
ما هي الاثباتات المطلوبة للقول بأنها كافية؟ أكان على السيدة حشيشو أن تستمهل الذين اقتحموا بيتها – في وضح النهار – بالسلاح مضافاً اليه شارة القوات اللبنانية الملصوقة على لباسهم العسكري كي تحضر الكاميرا، هذا اذا كان لديها، لتأخذ صوراً لهم واحدا واحدا حتى تتمكّن من تقديم الدليل الكافي للمحكمة؟ ثمة متهم ثبت بالدليل القاطع أنه كان هنالك، من دون أي سبب أو حجة، وأدلى بإفادة كاذبة ولا يمكن لأي كان أن يصدقها. فما هي قوة هذا الدليل؟
وأهم من ذلك: اذا كانت الاثباتات غير كافية بنظر المحكمة، فلماذا لم توفر النيابة العامة أيا منها، ولماذا لم تخصص أي جهد لهذا الموضوع بل تركتنا وحيدين نبحث عما لدينا من أدلة من شاهد قبل أن يتوفى أو شاهد قبل أن يسافر، وتركتنا نستنطق شهودا لا يريدون أن يتكلموا لأنهم خائفون؟
وهنا تتوالد التساؤلات ولا تنتهي مثلاً كيف يتصرّف معظم أهالي المفقودين الذين “خرج أحبتهم ولم يعودوا”.. من أين يأتون بالأدلة الكافية على الجريمة التي ارتكبت بحق أبنائهم ؟ وأي دليل واف لا يرقى اليه الشك يمكن أن تقدمه أم محمد هرباوي عندما سرقوا أحمدها من حضنها وما يزال صدى صراخه واستغاثته يتردد حتى اليوم في مسامعها..؟ أي دليل في ظل دولة لا تهز ساكنا لإثبات الوقائع أو لاستنطاق شهود يكذبون أو يخافون لألف سبب وسبب.
في 2001، عينت لجنة للتدقيق في ملفات المفقودين وطلب آنذاك من ذوي المفقودين أن يقدموا أدلة تثبت أن أولادهم أحياء. فكأنما الدولة بكافة أجهزتها تريد دوما أن تتحرر من أي عبء وأن تلقيه على الضحية التي عليها اذ ذاك أن تجابه وحدها، بالصدر العاري، عمالقة الاجرام والمال!!
نحن لم نتدّخل يوماً ولا نريد التدخل في عمل القضاء، انه وجهتنا وملاذنا..لكننا نعلم كما يعلم الجميع  أن الأهالي ليسوا الطرف الذي يعوّل عليه في جمع المعلومات والأدلة عن الجرائم التي ارتكبت بحقهم، بل أن الأمر يدخل ضمن مسؤوليات الدولة المباشرة عبر اداراتها وأجهزتها المختصة.. فلماذا لم تتحرّك النيابات العامة أمام اتساع عمليات الخطف ومناشدات الأهالي المتكررة .. لماذا لم تعتبر، ما كان  يدلي به هؤلاء وما زالوا أمام وسائل الاعلام وفي المخافر والطرقات حول خطف أحد أفراد عائلاتهم، اخباراً فتلاحقه وتتعامل معه وفقاً للقوانين والأنظمة المرعية الاجراء؟ ولماذا لا تتحرك الآن في ملف محي الدين حشيشو طالما أن الجرم (الخطف) ما دام مستمرا في حكم المحكمة بالذات، والتي نظرت في أساس القضية متجاوزة العفو؟
ان أول مسؤول عن مضمون القرار الذي أصدرته محكمة جنايات الجنوب هو انسحاب الدولةمن مسؤولياتها وادارة الظهر لقضية تطال حوالي 17000 مفقود ومختف قسرياً وتهميش عائلاتهم.. وأول مسؤول هو انكفاء المجلس النيابي عن إقرار مشروع قانون يسمح بالتعرف على مصائر المفقودين. وهل بحاجة للتذكير بأنالدولة ثبتت في تقرير رسمي وجودمقابر جماعيةوفيرة في شتى المناطق اللبنانية لكن دون اتخاذ أي اجراء للتعامل معها والتعرف على هويات نزلائها.. وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد..!! والمسؤول الثاني الذي يلي الدولة، هي الجهة الخاطفة وكل الجهات الخاطفات، اللواتي ما زلن حتى اللحظة يحفظن كل المعلومات عن مصائر المفقودين لديها من دون أي شعور بالذنب.
لقد بثت إحدى وسائل الإعلام الشهر الماضي تقريراً عن وجود جثث أو بقايا لجثث مكدسة منذ سنوات طويلة من أيام الحرب في مشرحة جبل لبنان في مستشفى بعبدا الحكومي.. وفق المدير العام للمستشفى فان وجود هذه الجثث المجهولة الهوية يعرقل العمل في المشرحة ويضيق مساحتها وأن مسؤولية دفنها ضائعة مع أنها حوّلت بقرار من المدّعي العام، ولقد صرّح أحد الوزراء (الحاليين) المعني بالموضوع بعدم مسؤوليته وبأن الجثث فرضت على وزارته بالأمانة، وأن دفنها لا يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء بل يكفي صدور قرار من وزيري العدل والداخلية .. ولـوو معالي الوزير، ألم يخطر ببالك أن هذه الجثث تعود لأشخاص كانوا أحياء قبل أن يقتلوا ويرموا.. أن لهم أسماء وعائلات تبحث عنهم.. وأنه بالامكان التعرف على هوياتهم قبل دفنهم بعد أن أهملوا وضاعوا  كل هذه السنوات..!!
نحن لم نفقد ثقتنا بالقضاءالذي سيبقى مرجعا لنا لاثبات حقنا بالمعرفة، ونحن نعتبر أن معركة القضاة الشرفاء من أجل ترسيخ استقلاليتهم هي في صلب معركتنا أيضا لاكتساب مواطنتنا الكاملة: فمعركتنا حقوقية بامتياز وخصمنا هو ببساطة الاعتبارات السياسية التي تصبح في لبنان رديفا للاقانون.   
ان قضية محي الدين حشيشو ليست فقط قضية زوجته وأولاده، انها قضية جميع أهالي المفقودين.. وهم لن يتخلوا عنها.. وهذه القضية لا تنتهي ولن تنتهي بحكم يعلن براءة متهمين معينين من جرم الخطف، بل هي تنتهي بوقف الجريمة المستمرة التي تتمثل في الاخفاء القسري. فاما هم أحياء ونريدهم، واما هم أموات ونريد أن نعرف مصائرهم.  وليس بإمكان أي قضاء أن يحجب عنا هذا الحق، والكل يعلم ذلك. وتاليا من الطبيعي اليوم بعدما برأت محكمة الجنايات عناصر اتهموا بالمشاركة في عملية خطف، ان نتوجه ليس فقط الى محكمة التمييز للطعن فيه، بل أيضا أن نتوجه الى جميع المعنيين أو الجهات التي تعلم (ومنها القوة السياسية المتهمة بالخطف) للحصول على ما نريده من معلومات. أما أن ترفع الجهة الخاطفة بوجه الضحية شارة النصر، فهذا أمر من واجب أي مواطن أن ينتفض ضده.     
لعقود، شكلت قضية حشيشو علامة استفهام كبرى في وجه مجرمي الحرب، فكانت القضية الرمز. والحكم الصادر اليوم هو علامة استفهام أكبر: ماذا فعلت الدولة، بأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، أمس لانصاف الضحايا ؟ وما هي خطتها لانصافهم غدا؟ حين طرحنا مشروع قانون يضع آلية رسمية لمعرفة مصائر أحبابنا، قيل لنا أن البرلمان نائم، عاجز وميت: فهل يوقظ شبح محي الدين حشيشو هذه الضمائر النائمة؟
وانطلاقا من كل ذلك، الحكم التبرئة يشرع أبواب المعركة بالنسبة الينا من جوانب عدة:
فعلى الصعيد القضائي، سنستمر في الدعاوى القضائية طلبا للحقيقة. ومن هذا المنطلق، قررنا أن نميز الحكم، كما قررنا أن نتقدم من المحاكم بدعوى ضد الجهة الخاطفة لالزامها بالادلاء بما لديها من وقائع عملا بحق المعرفة، وفي كل الأحوال، ومهما كانت نتيجة التمييز، سنطالب النيابة العامة بالاستمرار في تحقيقاتها حتى انهاء جريمة الخطف المستمرة، أو التعرف على مصير المخطوف.
وعلى الصعيد التشريعي، سنطالب منذ الاثنين النواب، وفي مقدمهم لجنة حقوق الانسان، وضع يدها على مشروع القانون لتقديمه بصيغة اقتراح قانوني لتحديد مصائر المفقودين.
أما على صعيد المواطنين، فإننا ندعو كل من لديه معلومات من شأنها أن تسهم في احقاق الحق أو في الكشف عن مصير محي الدين حشيشو أو عن مصير أي من سائر المفقودين، الاتصال بنا. فما ننشده اليوم، هو تضامن حقيقي من الجميع يعوض عن التقاعس الحاصل من قبل أجهزة الدولة الرسمية في التحقيق في قضايا الفقدان والاخفاء القسري. وسنعلن قريبا عن آلية تلقي المعلومات في هذا الشأن.
“أسامة”، “مازن”، “هدى” و”منى” حشيشو وفي مقدمتكم “ماما نجاة” ويا جميع أهالي المفقودين لا تيأسوا من طلب الحق..  لن نتخلى عن حقنا بمعرفة مصير مفقودينا.. ومشروع القانون الذي كنا تقدمنا به لمعرفة الحقيقة بات اسمه اليوم مشروع محي الدين حشيشو. وهو مشروع لا بد أن يقره البرلمان عاجلا أم آجلا، فيتحقق حق المعرفة. نحن أصحاب حق.. نحن طلاّب سلام ولا سلام بلا عدل..

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات عامة والوصول الى المعلومات ، حريات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، حركات اجتماعية ، اختفاء قسري ، عدالة انتقالية ، فئات مهمشة ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، لا مساواة وتمييز وتهميش



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني