شعاع الهلال الأحمر التونسي يَحجب شبهات الفساد


2024-06-14    |   

شعاع الهلال الأحمر التونسي يَحجب شبهات الفساد
رسم عثمان سلمي

يُخفي الهلال الأحمر بشعاعه سُحُبًا من شبهات سوء التصرّف وأزمات داخليّة تعود تفاصيلها إلى سنة 2018، لكنّها ظلّت تطلّ حينا وتتوارى أحيانًا، تمامًا مثل الهلال الّذي يحلّ ويأفل. وقد برز ملفّ الهلال الأحمر من جديد مع بداية الحرب على غزّة وانطلاق الحملة الوطنية لجمع التبرّعات بدعوة من الرئيس قيس سعيد في 29 نوفمبر 2023، إثر تداول مقاطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي، تُظهر إتلاف عدد من المساعدات تحت سيول المطر. هذا المشهد أثار مخاوف حول مآل التبرعات الأخرى، خصوصًا وأنّ الندوة الصحفيّة التي نظّمها الهلال الأحمر التونسي يوم 01 جوان المنقضي لم تُقدّم أجوبة بقدر ما أثارت أسئلة حول غياب الشفافية في تحديد المبالغ الجمليّة الّتي تحصّل عليها الهلال، سواءً من المساعدات العينيّة التي تمّ تسليمها مباشرة، أو المبالغ التي تمّ تحويلها بنكيًّا، وحول مآل المساعدات وكيفيّة إتلاف البعض منها.

الهلال الأحمر التونسي  منظّمة تأسست في 07 أكتوبر 1957، اعترفت بها الدّولة التونسية كجمعية ذات مصلحة عمومية في 06 ماي 1957 بقرار من الوزير الأكبر آنذاك، وهي منخرطة ضمن الحركة الدّولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهي شبكة إنسانية عالمية تضمّ 80 مليون شخص، تمدّ يد العون إلى الأشخاص الذين يواجهون كوارث أو نزاعات أو مشاكل صحية أو اجتماعية. وتتألف الحركة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، و190 جمعية وطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وفق موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وتَخضع منظمة الهلال الأحمر التونسي إلى القوانين والأنظمة الدّولية المنصوص عليها باتفاقية جنيف المعتمدة في 12 أوت 1949 والبروتوكولات الملحقة والقانون الدّولي الإنساني، وفق ما ورد في الفصلَين الأول والثاني من نظامه الأساسي.

كان الهلال الأحمر التونسي قد أرسل، إلى حدود يوم 19 ديسمبر 2023، أربع طائرات مُحمّلة بـ35 طنّا من المساعدات، فيما ذكر أمين مال المنظّمة خلال الندوة الصحفية المنعقدة يوم 01 جوان أنّ حجم التبرّعات العينيّة بلغ 850 طنًّا مُخزّنة في أماكن مُعدّة للغرض، مضيفًا بأنّ قيمة التبرّعات الجمليّة بلغت حوالي 20 مليون دينار موزّعة بين الحسابات البنكية والبريديّة والشيكات والمبالغ التي تمّ تسليمها نقدًا. وهو ما يتقاطع مع ما ذكره أحد المتطوّعين الذين اتصلت به المفكرة القانونية وفضّل عدم ذكر اسمه، حيث قال: “جمعنا تقريبًا 18.5 مليون دينار عبر التحويلات البنكية والشيكات. وبالنسبة إلى المبلغ المتبقّي (مليون 300 ألف دينار) تمّ تضمينه في سجلّ، وأمين المال هو المسؤول الوحيد عن جمع محصول يوم كامل وضبط الحسابات بالمليم، وإعادة احتساب المبلغ. ولا يمكن التلاعب بحسابات الهلال”.بالمقابل فنّد سفيان الشايبي، المدير التنفيذي للهلال الأحمر التونسي في تصريح للمفكرة هذا الأمر، على اعتبار أنّ التلاعب لا يحصل على مستوى التحويلات البنكيّة وإنّما المبالغ التي تُسلّم نقدًا، ويقول في تصريح للمفكرة القانونية: “في المعاينة هناك طبيب تبرّع بأدوية قيمتها مليون دينار. فكيف يُعقل أن تكون قيمة المبالغ النقديّة مليون و300 ألف دينار فقط؟”

غياب الشفافية المالية

تغيب التقارير الماليّة والمعطيات الكمّية عن الموقع الرسمي للهلال الأحمر التونسي، المُلزم بنظامه الأساسي وبالمرسوم عدد 88 المتعلق بتنظيم الجمعيات بنشر قائماته المالية مرفقة بتقرير مراقبة الحسابات في إحدى وسائل الإعلام المكتوبة وفي الموقع الإلكتروني للجمعية إن وجد في ظرف شهر من تاريخ المصادقة عليها. ولكنّ هذه المعطيات لا تظهر على الموقع الرسمي للهلال الأحمر التونسي.

ووفق تصريح المدير التنفيذي للهلال للمفكرة القانونية، فإنّ رئيس الهلال الأحمر استحوذ على كلّ السلط وكان يتعامل مع المساعد الثاني لأمينة المال ما دفعها إلى الاستقالة منذ 2019. وقد تضمنت وثيقة استقالتها عديد النقاط المتعلقة بتجاوزات مالية نُسبت إلى رئيس الهلال الأحمر، مثل فتح حسابات بنكية وتحويل أموال على خلاف الصّيغ القانونية، إلى جانب عدم تقديم تقارير محاسبيّة لأعضاء المكتب الوطني، حيث تعذّر على مراقب الحسابات مباشرة مهامّه الرقابية ولم يتسلّم أيّ وثيقة من الوثائق التي طلبها من منظّمة الهلال الأحمر، وفق معاينة عدل إشهاد تحصّلت المفكرة على نسخة منها.

وفي وقت سابق، كانت التفقدية الإدارية والمالية قد توجّهت بمراسلة إلى وزارة الصحة في 11 جانفي 2023 بمناسبة دعوة الجلسة العامة للهلال الأحمر التونسي للانعقاد، تُفيد بأنّ الهلال الأحمر التونسي الّذي يستفيد من المال العامّ، ملزم بنشر تقرير سنوي يشمل وصفًا مُفصَّلاً لمصادر تمويله ونفقاته إلى محكمة المحاسبات. وتشير المراسلة إلى أنّ مراقب الحسابات لم يتمكّن من التدقيق في حسابات وتصرّف السنوات من 2018 إلى 2021، بما يمثّل مخالفة لأحكام الفصل 43 من مرسوم الجمعيات، تستوجب العقوبة، إذ لا يمكن للجلسة العامّة أن تصوّت على القائمات الماليّة بالقبول أو بالرفض في غياب تقرير مراقب الحسابات.

وقد توجّه عدد من موظّفي الهلال الأحمر أواخر شهر ماي 2024 بشكاية لدى الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية والمكلّف العام بنزاعات الدّولة وإدارة الأحزاب والجمعيات التابعة لرئاسة الحكومة بخصوص معاينة تجاوزات ومشاكل إدارية وتسييرية وتنظيمية في خطة رئيس منظمة الهلال الأحمر التونسي تتمثل خاصة في عدم إعداد القائمات المالية ونشرها، بالإضافة إلى عدم تسوية الوضعية تجاه إدارة الجباية وصندوق الضمان الاجتماعي والتعثر في الإيفاء بالتعهدات المالية تجاه أصحاب الحقّ والمزوّدين والموظفين وفق الاتفاقيات المبرمة مع المانحين والمموّلين.

مشاكل تسيير وتبادل اتهامات

من جانبه يقول المتطوّع المذكور سابقا: “إنّ من يهاجمون الهلال الأحمر هم من خسروا انتخابات الهيئة الوطنية، وأنّ أملهم الوحيد هو توظيف مسألة التبرعات والهبات لضرب التركيبة الحاليّة”. في حين يؤكّد المدير التنفيذي أنّ محضر المعاينة الّذي بحوزته يثبت أنّ عددًا من الأعضاء الحاليّين يعمدون إلى أخذ صناديق التبرعات النقديّة إلى منازلهم بنيّة احتساب المبالغ المُجمَّعة، مُشيرا إلى عدم وجود وصولات بنكية أو أيّ أثر كتابيّ لتلك المبالغ المُصرَّح بها. وهو يضيف في حديثه للمفكرة: “الرئيس يضيّق على كلّ من يتكلّم، ولا ينفكّ يثير قضايا ضدّ موظّفي الهلال الأحمر والحال أنّهم الحلقة الأضعف في السلسلة. عندما سحب منه المجلس الوطني الثقة في 2020 لإزاحته من الرئاسة والإبقاء على عضويته ضمن المجلس، بغرض فصل الإدارة عن المكتب الوطني، بادر بالطّعن في محضر الجلسة واتّهم الأعضاءَ الممضين على سحب الثقة منه، والّذي كان عددهم ثمانية من أصل 15، بمسك واستعمال مُدلَّس. ثمّ أثار دعوى ثانية حول إجراءات سحب الثقة، على أساس أنّ الطّرف المُخوَّل سحب الثقة هي الجلسة العامّة وليس المجلس الوطني. وقد خسر القضيّتَيْن أمام القضاء”.

يُذكَر أنّ الهيئة الوطنية للهلال الأحمر التونسي التي تشرف على إدارة المنظمة وتنفيذ قرارات الجلسة العامّة وتوجيهاتها قد اجتمعت في 27 فيفري 2020، وقد قرّرت بأغلبية أعضائها الحاضرين سحب الثقة من رئيس الهلال الأحمر عبد اللطيف شابو مع الإبقاء على عضويته، وذلك على خلفية “حياده عن المهامّ الموكولة له وسطوه على صلاحيات الهيئة واستحواذه على حسابات المنظمة، وفق ما ورد بالمراسلة التي قدّمها عدد من موظّفي الهلال الأحمر إلى هيئات الرقابة. 

وإذ سعتْ المفكّرة القانونية إلى التواصل مع من يمثّل أو تمثّل منظّمة الهلال الأحمر عبر الهاتف وعبر العنوان الإلكتروني للمنظمة، فإنّها لم تتلقَّ ، إلى حين كتابة هذا المقال،  إجابة رسميّة.

سوء تصرّف في التبرّعات

وكانت منظّمة أنا يقظ المختصّة في محاربة الفساد قد نشرت بيانًا في 18 ديسمبر 2023 طالبت من خلاله منظمة الهلال الأحمر التونسي بتطبيق القانون والكشف عن قيمة ومآل التبرّعات المجمّعة لفائدة الهلال الأحمر الفلسطيني، مُذكّرةً بوجود شبهات فساد تطال رئيس منظّمة الهلال الأحمر التونسي منذ سنة 2019 تتعلّق بإخلالات في التسيير المالي والإداري للمنظّمة، ممّا يجعل شفافية معاملاتها المتعلّقة بجمع التبرّعات ضرورية لدرء أيّ شبهة من شبهات الفساد. فيما نشرت بيانًا آخر في 05 جوان المنقضي ذكّرت فيه بمراسلاتها المتكرّرة إلى منظمة الهلال الأحمر بغرض نشر قيمة التبرعات النقدية والعينية، وعدد الشحنات التي تمّ إرسالها، وبرنامج عملية إرسال التبرعات العينية والنقدية وكيفية إرسالها، إلى جانب التبرعات التي تمّ إتلافها والمحاضر الّتي حُرّرت في شأنها.

أحد متطوّعي الهلال الأحمر الذي رفض الكشف عن هويته يقول للمفكّرة القانونية إنّ تدفّق المساعدات بشكل غير مسبوق وغير منتظَر خلال الأيام العشرة الأولى من بداية جمع التبرّعات لفائدة غزّة بعد انطلاق الحرب، جعلها تتراكم، قبل أن يتمّ تخصيص مستودعٍ ثانٍ لجمع التبرعات: “هناك سوء تقدير لحجم التبرّعات، وإمكانيات الهلال الأحمر كانت أقلّ من أن تستوعب هبّة المواطنين، لأنّ الهلال له نسق معيّن في جمع التبرعات. وعادة ما يتمّ جمع التبرعات في مستودع مقرين قبل إحداث المبنى الثاني في بن عروس”. وعن الصناديق الّتي تداولتها صفحات التواصل الاجتماعي وفي البرامج التلفزية، ينفي المتطوّع أن يكون هناك إتلاف، الّذي لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال محضر: “عندما تكون هناك تبرّعات غير لائقة، مثل حفّاضات الأطفال، أو موادّ غذائية لها مدّة صلاحيّة محدّدة، أو معدّات شبه طبيّة لا تستجيب للمواصفات، تُركن جانبًا”، مضيفًا أنّه لم يكن بالإمكان خلال الفترة الأولى فرز التبرّعات أو إرجاع التّالف منها إلى المتبرّعين والمتبرّعات، مراعاةً للمدّ التضامني والجانب الإنساني في المسألة.

 لم تقتصر الإشكالات المثارة حول أداء الهلال الأحمر التونسي على ملفّ التبرعات الموجّهة إلى غزّة خلال هذه الحرب، بل شملت كذلك برنامج الهجرة غير النظامية. وفي هذا الإطار، يقول المدير التنفيذي للمنظمة للمفكرة القانونية إنّه كان مُشرفًا على هذا البرنامج وأنّه نجح في استقدام المنسّقين الدّوليين من دول أفريقيا جنوب الصحراء من أجل إيجاد حلول لتأطير الفئة العمرية بين 14 و30 سنة في تلك الدّول من أجل تكوينهم ومساعدتهم على إحداث مشاريع في بلدانهم. وبغضّ النظر عن نجاعته وقدرته على احتواء مطالب الراغبين في الهجرة من عدمه، فإنّ هذا البرنامج انقطع منذ سنة 2020، بقرار من رئيس الهلال الأحمر عبد اللطيف شابو، وفق ما ذكره المدير. كما أنّ الرئيس لم يقدّم تقارير ماليّة للشركاء حول أنشطة الهلال الأحمر في هذا الصدد، ما دفع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في جوان 2020 إلى إلغاء التعاون مع منظمة الهلال الأحمر، على اعتبار أنّ الرئيس عبد اللطيف شابو لا يجيب عن المراسلات ولا يمدّ المفوّضية بالتقارير ولم يسلّمها المستحقات المالية المُقدَّرة بـ172 ألف دينار.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الوصول إلى المعلومات ، الحق في الصحة ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني