رئاسة الجمهوريّة تعفو عن محمد الحسن بعد عام على وفاته ويده مكبّلة بالسرير


2022-11-05    |   

رئاسة الجمهوريّة تعفو عن محمد الحسن بعد عام على وفاته ويده مكبّلة بالسرير
قبر محمد الحسن الذي توفي في 17 آب 2021

كان يُمكن لمحمد أحمد الحسن (لبناني، 56 عاماً) أنّ يقضي آخر أيّام حياته في منزله مع عائلته بدلاً من الموت في السجن، لو لم يتأخر صدور مرسوم العفو الخاص عن رئيس الجمهورية السابق ميشال عون عاماً وشهرين. فقد توفي محمد في مستشفى الحياة في 12 آب 2021 بعد معاناة مع السرطان الذي اكتشفه متأخراً بعد أن غزا جسده، وذلك بعد 22 يوماً من تقديم طلب العفو عنه إلى اللجنة المختصة. كان يُمكن لشقيقته نزهة أن تغمره وتودعه في المنزل قبل وفاته، لكنّها بدلاً من ذلك، وقفت تشاهده وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة على سرير مستشفى الحياة، ويده مكبّلة بالسرير.

طرقت نزهة باباً تلو الآخر لسياسيين مستجديّة إخراج شقيقها الذي يحتضر من السجن ليتمكّن من الموت معززاً في منزله. تروي المرأة لـ “المفكرة” تفاصيل رحلة تلك المأساة مع منظومة رفضت أن يموت بكرامته في منزله بدلاً من أن يموت مسلوب الحرية. حتّى حينما تقدّمت بكافة التقارير الطبيّة، إلى لجنة العفو التي تؤكد احتضار محمد، لم تتمكن نزهة من إخراج شقيقها من السجن، وتوفي في 12 آب 2021 بعد 22 يوماً من تقديمها الطلب. وما يؤلم نزهة اليوم أكثر هو أنّ قرار رئيس الجمهورية بالعفو عن محمد صدر، إنّما بعد عام من وفاته.

محمد الحسن قبل دخوله السجن

“لم يعد لديه الكثير من الوقت”

تقول نزهة لـ “المفكرة” إنّ “محمد دخل السجن بعدما تورّط في تعاطي المخدرات ليتحوّل بعدها إلى تاجر بنظر الدولة”. وتُضيف: “محمد لم يكن تاجراً بل أصبح يعاني من اضطراب الإدمان على المخدرات بسبب يأسه بعدما انهارت ظروفه المعيشيّة، وبات يشتري المخدرات له ولرفاقه ويتقاضى ثمنها منهم”. وتُضيف، “حوكم بتهمة الترويج لمدّة خمسة سنوات، قضى منها ثلاثة في السجن (السنة السجنيّة 9 أشهر)”. وقد صدر حكم بحقه عن محكمة الجنايات في جبل لبنان في تاريخ 23/1/2020 وصادقت عليه محكمة التمييز في 2/7/2020 وفقاً لما ورد في مرسوم العفو.

وكانت نزهة تجمع بعض المال مع شقيقتها التي تعمل في الخياطة لتأمين بعض من احتياجات محمد في سجن رومية. يختنق صوتها وهي تروي عبر الهاتف رحلة شقيقها من رومية إلى القبر. “كان محمد قبل دخوله السجن بصحّة جيدة، وجهه جميل وشاب ولا يظهر عليه أنّه في الخمسين من عمره”. وتُضيف: “كنت أزوره كلّ أسبوعين في رومية، وبدأت بعد كل زيارة ألاحظ اصفراراً في وجهه وعيونه”. أذكر أنني قلت له “وجهك أصفر يا محمد، فأجابني، أنا في السجن ولست في الجنة، هنا حين نمرض يتجاهلون أوجاعنا ويعطوننا حبّة الدواء ذاتها لجميع الأمراض”. وتتابع نزهة: “بعد فترة بدأت العوارض تظهر عليه أكثر، وبدأ جسمه بالتورّم، قدماه ويداه تورّمت، كما انتفخت معدته”.

تقول نزهة إنّه تمّ نقله إلى مستشفى الحياة حيث شخّص الطبيب إصابته بالسرطان بعد أن تبيّن وجود كتل على كبده. حينها “قال لي الطبيب أنّه لم يعد لديه الكثير من الوقت بسبب صعوبة حالته وتقدّم السرطان”. وتلفت إلى أنّه بقي ليلة واحدة في المستشفى وتمّت إعادته إلى رومية في اليوم التالي.

تُضيف “في إحدى المرات سقط أرضاً وهو في سجن رومية وتم نقله إلى مستشفى الحياة مرّة جديدة، وتم التواصل معي من رومية وتوجّهت مباشرة إلى المستشفى”. وتُضيف: “لم يقبل العناصر إدخاله إلى المستشفى بل طلبوا من الطبيب الخروج إلى الآلية العسكريّة وفحصه في الخارج، فأخبرهم الطبيب أنّه بحاجة لدخول مستشفى عاجلاً”. وتتابع: “حين وصلت، طلب منّي عناصر الدرك بأن أؤمّن مبلغ مليوني ليرة لإدخاله وإلّا سيتم إعادته إلى رومية”.

كان وقع هذا الكلام شديد القسوة على نزهة التي وضعت يدها في جيبها لتجدها فارغة، قالت للعناصر: “ليس لدي هذا المبلغ”. فأجابوها “إذاً سنعيده إلى رومية”. هلعت وهي تسمع هذه العبارات خائفة على شقيقها، وطلبت منهم انتظارها كي تعود. راحت تركض من قريب إلى آخر محاولة تدبير بعض المال، وتقول: “تمكنت من تأمين 600 ألف ليرة فقط، وإذ أفاجأ باتصال من زميله في رومية يقول لي إنّه أعيد إلى السجن”.

لم تغب نزهة سوى أربع ساعات عن مستشفى الحياة حين كانت تحاول أن تجد مالاً لإنقاذ شقيقها ولكنّ عناصر الدرك لم ينتظروها. راحت تبحث عن أرقام هواتف النوّاب و تتصل بهم الواحد تلو الآخر من دون جدوى. تقول: “توصلت إلى هاتف وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم، التي طلبت منّي التقارير الطبيّة الخاصّة بأخي وساعدتني لتأمين سرير له في مستشفى الحياة”. وتُضيف: “لا أعلم حينها من دفع المال لكن تم إدخاله المستشفى”.

مرسوم عفو بعد سنة من وفاته

لاحقاً وجهت الوزيرة ماري كلود نجم نزهة إلى لجنة العفو الخاص لتقدّم المستندات اللازمة لتقديم طلب إخراجه من السجن. فالمادة 391 وما يليها من أصول المحاكمات الجزائية تمنح لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء من مجلس القضاء الأعلى صلاحية النظر في طلبات العفو الخاص في قضايا المحكومين على أن يصدر العفو بمرسوم صادر عن رئيس الجمهورية، وهي صلاحية تمنحها المادة ٥٣ من الدستور للرئيس. وعليه، تقدّمت نزهة بكافة الأوراق المطلوبة متأملة خروج شقيقها من السجن لتتمكن العائلة من توديعه، لكنّ محمد توفي بعد 22 يوماً من تقديم الطلب.

وبعد شهرين من الذكرى السنويّة لوفاته، صدر مرسوم العفو عن محمد موّقعاً من وزير العدل هنري خوري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس الجمهوريّة السابق ميشال عون تحت رقم 10649 بتاريخ 20 تشرين الأول 2022. وهو واحد من مراسيم عفو خاص عدة أصدرها الرئيس عون قبل أسبوع من انتهاء ولايته الرئاسية ومغادرته قصر بعبدا، ومرسوم بمحمد، صدر ليعفيه من المدّة المتبقيّة من العقوبة بعد أن فارق الحياة. 

فوجئت نزهة باتصال “المفكرة القانونيّة” لسؤالها عن صدور المرسوم، وسألتنا: “صدر المرسوم؟، بعد شو، أخي توفّى وإيده مكبّلة بسرير المستشفى بعدما رأيته بعيني يلفظ أنفاسه الأخيرة”. تقول نزهة: “كانت أمنيتي أن يخرج من السجن ليموت في المنزل ونودعه بسلام، لكنّ مرسوم العفو تأخر، وها هو يصدر اليوم بعد شهر من الذكرى السنويّة لوفاته”.

نزهة التي حملت همّ شقيقها محمد، تحمل اليوم همّ شقيقها الآخر المرتمي في فراشه في المنزل بسبب جلطات متكررة يعاني منها في قدميه قد تودي بحياته بين لحظة وأخرى. يرتجف صوتها وهي تشرح أنّ شقيقها الآخر قد يواجه المصير ذاته لمحمد نتيجة ارتفاع كلفة الطبابة. تبحث نزهة بين المستشفيات والمستوصفات عن الكلفة الأقل لإجراء الفحوصات لشقيقها الذي طلب الطبيب إدخاله المستشفى فوراً. تقول إنّ مستشفى رفيق الحريري رفض إدخاله فيما المستشفيات الأخرى تطلب أموالاً باهظة. وتخشى نزهة “أن يموت بين لحظة وأخرى في حين أن هناك أمل لإنقاذه لو لدينا المال”.

صورة مرسوم العفو

وزير العدل يوضح: لم يتضمن الملف معلومات حول وفاته

على إثر انتشار خبر توقيع مرسوم عفو عن محمد الحسن وهو متوفي، أصدر وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري بياناً مقتضباً في 5 تشرين الثاني، أوضح فيه أنّ “طلب العفو الخاص المقدم من صاحب العلاقة أو من وكيله تبتّ فيه لجنة العفو المؤلفة من ثلاثة أعضاء من مجلس القضاء الأعلى بعد أن يطلع النائب العام التمييزي على الملف ويرفع تقريره بالخصوص المذكور”. وأضاف، “يقترح وزير العدل بالاستناد إلى الموقفين  أعلاه، إصدار مرسوم العفو الخاص في حال كان الرأيان إيجابيين”.

وبالتالي فإن دور وزير العدل بحسب البيان، “ينطلق في اقتراحه من موقفي لجنة العفو والنيابة العامة التمييزية، واللذين لم يظهر فيهما في حالة المرحوم محمد أحمد الحسن أية معلومة تشير إلى وفاته، علماً أنّ لا دور لوزير العدل القيام بأي تحقيق بهذا الخصوص، فاقتضى التوضيح”.

يشار إلى أنّه خلال هذا العام، خسر 19 شخصاً حياته في سجون عدة في لبنان جرّاء وعكات صحيّة ناتجة عن الأمراض التي كانوا يعانون منه. ويظهر أنّ معظم هؤلاء يبلغون من العمر بين الأربعين والستين عاماً. وكانت “المفكرة” قد أعدّت تحقيقاً عن واقع الطبابة والرعاية الصحية في سجن رومية أظهر أن الأمراض الأكثر انتشاراً هي أمراض القلب والشرايين، وارتفاع ضغط الدم، والسكري والاضطرابات النفسية، بالإضافة إلى أمراض مستعصية كالأمراض السرطانية وقصور الكلى. وأظهر التحقيق أنّ واقع الرعايّة الصحيّة متراجع في سجن رومية حيث انخفضت قدرات صيدليّة السجن على تأمين الأدويّة، كما أنّ أطباء السجن قلّصوا زياراتهم بسبب تراجع قيمة البدل المادي. ومن خلال المقابلات مع أهالي السجناء تبيّن تعدد الشكاوى لناحيّة التأخر في تلبية حاجات المرضى في السجون، بالإضافة إلى الطلب من الأهل تأمين كلفة الطبابة بعدما كانت تقع على عاتق وزارة الداخليّة طيلة الفترة التي سبقت الأزمة الاقتصاديّة، ما وضع أعباء مالية عالية على الأهالي.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، تحقيقات ، مرسوم ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني