تعليقا على مرسوم منح الجنسية: المواطنة فعل محبة


2013-10-01    |   

تعليقا على مرسوم منح الجنسية: المواطنة فعل محبة

أصدر رئيس الجمهورية منذ فترة وجيزة مرسوما منح بموجبه مجموعة من الأشخاص الجنسية اللبنانية، وهو يكون بهذا الفعل قد أقر لهؤلاء بحق جوهري هو حق المواطنة. وبغض النظر عن الدوافع التي أملت مثل هذه الخطوة كان من المهم إخضاع مفهوم المواطنة لتحليل لا يكتفي بالنصوص القانونية بل يحاول الوصول إلى كنه هذا المبدأ وتداعياته في لبنان على تصورنا للدولة.

يقول لنا الفارابي في معرض شرحه لماهية الدولة الفاضلة بأن " أجزاء المدينة ومراتب أجزائها يأتلف بعضها مع بعض وترتبط بالمحبة وتتماسك وتبقى محفوظة بالعدل…"[1]. وبذلك يكون هذا الفيلسوف الكبير قد حدد شرطين لبناء المدينة الفاضلة: المحبة والعدل. من هنا كان لزاما علينا أن نبحث في تحقق هذين الشرطين في لبنان وما إذا نظامنا السياسي يسمح لنا بالمحافظة على المحبة والعدل.

والحقيقة أن الفارابي لا يأتي بجديد في هذا الموضوع إذ سبقه أرسطو بزمن طويل إلى ذلك عندما أعلن أن الصداقة هي العلاقة التي يجب أن تجمع شمل المواطنين في مدينة ما. والمقصود بالصداقة هنا ليست الفكرة المعتادة التي تتبادر إلى الذهن مباشرة كما هو متعارف عليه اليوم بل المقصود هو هذه الرابطة التي تجعل من المرء يعمل على تحقيق الصالح العام حتى لو تعارض ذلك مع مصلحته الشخصية. المحبة (أو الصداقة) هي إذا مبدأ وحدة المدينة لأن تعاون الأفراد هو شرط قيام المدينة. فعندما يخدم الانسان غاية المدينة يكون في نهاية المطاف يخدم الغاية التي وجد من أجلها أصلا.
السؤال الذي يطرح نفسه الان هل النظام اللبناني يسمح للفرد أن يخدم المدينة؟ بمعنى آخر ما هو نوع المحبة الذي يحرك الحياة السياسية في لبنان؟ والجواب نجده أيضا عند الفارابي الذي يختصر بجملة واحدة كل الاشكالية: "الخير الأفضل والكمال الأقصى انما ينال أولا بالمدينة، لا باجتماع الذي هو أنقص منها"[2]. فالاجتماعات الناقصة هي كل اتحاد بشري دون المدينة/الدولة كالعائلة أو القرية أو في حالة لبنان اليوم الطائفة.
وهكذا يتبين لنا أن النظام الطائفي يجعل كل انسان يبحث عن خير جزئي يخالف إن لم يكن يعارض الخير العام. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتخطاه إلى نتائج خطيرة. فكل خير جزئي هو حكما يناقض الخير الجزئي الذي يسعى اليه الاخر وهكذا تكون المدينة قد فقدت وحدتها وبالتالي المحبة التي تجمع بين أفرادها. وبما أن ماهية المواطنة تكمن في تحقيق "الخير الأفضل والأكمل" لكل أجزاء المدينة يتضح لنا مدى مخالفة الانتماء الطائفي لمبدأ المواطنة ومدى مسه بحقوق المواطنين الاساسية إذ هو لا يخل بحق ما من حقوقهم بل هو يضرب الركيزة التي تستمد منها سائر الحقوق قوامها. فمن دون مواطنة لا وجود لحقوق تتعلق بطبيعة الانسان بل مجرد تفاهمات سياسية تحمي أبناء طوائف.

منح الجنسية، قبل أن يكون مرسوما يصدره رئيس الدولة، هو فعل محبة، أي الاقرار بأن هذا الشخص هو جزء من الكل. وهنا نصل إلى اشكالية أخرى يحاول النظام اللبناني التهرب منها أي قضية منح المرأة اللبنانية الجنسية لأولادها.

القانون رقم 15 تاريخ 19/1/1925 يمنع المرأة اللبنانية من منح جنسيتها، وهو بالتالي يحرمها من تحويل أفراد عائلتها إلى مواطنين. ولا نستطيع أن نجد من مبرر لهذا الأمر سوى الحجة الطائفية ذاتها وما قد ينجم عن هذا الأمر من اخلال بالتركيبة الديموغرافية. وهكذا يظهر لنا جليا أن الظلم الذي يلحق بالمرأة اللبنانية ما هو إلا من نتائج تفضيل الخير الجزئي (أي المنطق الطائفي) على الخير العام (منطق حقوق الانسان). انه نقص في المحبة لأننا نمنع على المرأة حقها بالمساواة مع الرجل.

إذا كان هذا هو حال المحبة أي الشرط الأول لبناء المواطنة، فما هو مصير العدل في نظام طائفي؟ هل الطائفية كما يدعي البعض تساهم في ارساء العدل وتحقيق "الشراكة الوطنية" بين اللبنانيين؟

وبما أننا نسير على هدي الفارابي فلا ضير من الاستشهاد به مجددا. فهو يقول لنا بكل ثقة بأن "العدل تابع للمحبة". فالمواطنة، لأنها تقوم على المحبة، تهدف إلى احقاق العدل بين المواطنين. فالمحبة في المدينة "تكون أولا لأجل الاشتراك في الفضيلة"، واستعمال الانسان أفعال الفضيلة مع غيره هو وجه من وجوه العدل. فكل نظام يخل بمبدأ المساواة ويميز بين الأفراد لأسباب دينية أو عرقية أو مذهبية يستبدل خير الانسان الكلي المتأتي من طبيعته بخير الانسان الجزئي المتأتي من هوية غالبا ما تكون لا ارادية.

العدل ليس تسوية يتوصل اليها زعماء الطوائف بل هي حالة تفرض نفسها على الجميع بما لديها من قوة دفع ذاتية. وكل مس بحقوق المواطنة هو دليل على ضياع هوية الدولة المدنية وتفتت المجتمع إلى "اجتماعات ناقصة" حيث محبة الجزء تطغى على محبة الكل.
وآخر تجليات هذا الواقع هو ضرب مفهوم القانون لأن هذا الأخير هو رابطة المجتمع. فلما كانت المواطنة فعل محبة يجمع بين الأفراد على أساس العدل، كان التعبير الأمثل عن هذه العدالة يتم بالمساواة أمام القانون. لكن هل بمقدورنا احترام هذه المساواة في نظام يجد في التفرقة فضيلة ويضع خيره الأسمى في المحافظة على الفصل الطائفي بين المواطنين. فالحماية التي تؤمنها الكيانات الطائفية أنجع من تلك التي من المفترض أن تكفلها القوانين لأن المواطنة لم يعد لها من وجود يذكر في لبنان.

الدولة الطائفية تمنع المحبة بين المواطنين وتحرمهم من لذة الصداقة لتحقيق الخير العام وتوهمهم بأن الخير الجزئي هو غايتهم في الحياة. انها حقا، حسب الفارابي، المدينة الجاهلة التي "لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم، حتى لو أرشدوا اليها فلم يفهموها ولم يعتقدوها"[3].
 


[1] الفارابي، فصول منتزعة، دار المشرق، بيروت، 1993، ص. 70.
[2] الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1995، ص. 113.
[3] الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1995، ص. 127.
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، لا مساواة وتمييز وتهميش



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني