الأجهزة الأمنية الليببة تنشط شعبويًا: انتهاج نشر التحقيقات في قضايا حسّاسة اجتماعيًا


2024-06-24    |   

الأجهزة الأمنية الليببة تنشط شعبويًا: انتهاج نشر التحقيقات في قضايا حسّاسة اجتماعيًا

خلافا لمبدأ سرّية التحقيقات واحترام كرامة وإنسانية المشتبه بهم، انتهجت بعض الأجهزة الأمنية في ليبيا ممارسات قوامها نشر صور المشتبه بهم ومقاطع فيديو تتضمن اعترافاتهم التفصيلية أثناء مرحلة الاستدلال على صفحاتها للتواصل الاجتماعي، علما أنك تشعر في الغالب أن الاعترافات تمّت تحت الإكراه وهي مرتبة وملقّنة بالإضافة إلى حلاقة شعر الرأس واللحية للمشتبه بهم. وما يفاقم من خطورة هذه الممارسات أن أغلب الأجهزة التي تنتهجها تتمتع بالصفة الضبطية الرسمية وتتبع مؤسسات الدولة. وإذا أردنا تفسير هذا التصرف، فهو يندرج كنوع من الدعاية والتسويق لأعمالها وإعلان أنها تقوم بواجبها في ضبط الجريمة والحدّ منها، واحيانا أخرى توظف من أجل فضح خصم سياسي آخر يأتي اسمه في الاعترافات أو التنمر على المنظمات الحقوقية وتشويه سمعتها. في هذا المقال، سنناقش كيف يُعد هذا التصرف مخالفًا للقانون، وتأثيره على كرامة الإنسان، وأثره الاجتماعي الكبير، بالإضافة إلى تأثيره على سير العدالة وحقوق المتهمين.

وقد استخدم هذا الأسلوب مؤخرا جهاز الردع في طرابلس وجهاز دعم الاستقرار وجهاز البحث الجنائي وجهاز الأمن الداخلي، علما أن هذا الأخير دأب على نشر اعترافات المُشتبه بهم خاصة في الجرائم التي لها انعكاسات اجتماعية ودينيّة مثل الإلحاد والتبشير بالمسيحية والمثلية الجنسية. والمشكلة الأكبر أنه يتم ربط هذه التحقيقات بمنظمات المجتمع المدني والمدافعين والمدافعات عن حقوق الانسان، كنوع من تشويه سمعتهم وترهيبهم وتحريض المجتمع والناس عليهم. وهذا ما تعكسه تعليقات وتفاعلات المتابعين على التحقيقات المنشورة. الأسلوب نفسه اعتمدته وزارة الأوقاف في قضايا السحر والشعوذة، حيث تعمد إلى نشر صورهم والأدوات التي يستخدموها، خاصة بعدما أقرّ مجلس النواب قانون تجريم أعمال السحر والشعوذة والكهانة وما في حكمها.[1]

وخلال السنوات الثلاث الماضية، تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة لاستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان، ولاسيما النساء. وفي 2022، تصاعدت حملات الأجهزة الأمنية  ضد منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان، عبر التحريض في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وعبر تحالف الخطاب الديني مع سردية الأجهزة  الأمنية وظهر ذلك في استغلال المنابر الدينية للتحريض على المدافعين والمدافعات واتهامهم بأنهم أداة في أيدي الدول الغربية الساعية لهدم قيم وتقاليد المجتمع الليبي.[2] وبالفعل تم اعتقال مدافعين عن حقوق الانسان ونشر اعترافاتهم المصورة على خلفية نقاشات حول حرية المعتقد أو الإلحاد. وهي من أبرز التهم التي توجه لهم بحجة الدفاع عن الدين.[3] وقد صدرت أحكام قضائيّة بالسجن ضد بعضهم بتهم الانتماء لمجموعة تمّ إنشاؤها بالمخالفة للقانون ونشر أفكار هدامة تهدد قيم المجتمع الليبي.[4]

ورغم انتشار هذه المخالفات، أعرضت الهيئات القضائية ومكتب النائب العام حتى اللحظة عن اتخاذ أيّ تدبير بحق الأجهزة الأمنية المعنية، وهو أمر إن دلّ على شيء فعلى سطوة الأجهزة الأمنية ونفوذها.

مخالفة قانونية صريحة

لا نحتاج إلى كثير من الجهد لنخلص إلى أن الممارسات المذكورة (نشر مقاطع فيديو لاعترافات قبل عرضها على النباية العامة وصدور حكم نهائي بشأنها) تتعارض مع شروط المحاكمة العادلة، المنصوص عليها في التشريع الليبي أو في المعاهدات الدولية التي انضمّت ليبيا إليها[5][6]. إذ تظلّ القاعدة الرئيسية المكفولة في الإعلان الدستوري المؤقت في ليبيا أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نصّ، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة عادلة، تكفل له الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه، وأنّ لكلّ مواطن الحقّ في اللجوء إلي القضاء وفقاً للقانون. هذا فضلا عن أن نشر هذه الاعترافات قبل عرضها على النيابة العامة وإحالتها إلى المحاكمة، تتعارض مع موجب سرية مراحل التحقيق والاستدلال لضمان حماية حقوق المتهمين وقرينة البراءة ومنع التأثير على سير العدالة. يضاف الى ذلك شبهة الإكراه في سرد الاعترافات والتي يضطر المشتبه بهم إليه، خوفا من التعذيب والإيذاء الجسدي وهو تحت رحمة الجهات الأمنية.

تشهير وإهانة للكرامة الإنسانية

إضافةً إلى عدم قانونية هذا التصرف، فإنه يُعد تشهيرًا بالمشتبه بهم وإهانةً لكرامتهم الإنسانية. إذ من شأن نشر هذه المواد على وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام أن يجعل المتهم عرضةً للسخرية والانتقاد العلني، خاصة عندما يجبر المشتبه على الاعتراف بأمور لا تحظى بقبول في المجتمع مثل  المثلية الجنسية أو الإلحاد أو التبشير بالمسيحية  مما يُسهم في تشويه سمعته الشخصية والاجتماعية قبل أن يُتاح له فرصة الدفاع عن نفسه أمام القضاء. هذا التشهير العلني يؤثر بشكل مباشر على حق المتهم في محاكمة عادلة وغير متحيزة. كما تؤدي هذه الاعترافات إلى وصم اجتماعي يصعب إزالته حتى لو افترضنا صدور حكم بالبراءة فيما بعد وينعكس ذلك على الحياة الاجتماعية للمشتبه ومعاملاته اليومية مع المجتمع. كما لا تقتصر آثار نشر صور المشتبه بهم على الأفراد المشتبه بهم فحسب، بل تمتدّ لتشمل أسرهم وعائلاتهم. العائلات تُعاني من تداعيات اجتماعية ونفسية جراء تشويه سمعة أحد أفرادها، مما قد يؤدّي إلى العزلة الاجتماعية والتعرّض للتنمّر والمضايقات. هذه التداعيات تُسهم في زيادة الضغوط النفسية على أفراد العائلة وتؤثر سلبًا على حياتهم اليومية.

تأثير على سير العدالة وإصدار أحكام مسبقة

من أخطر تداعيات هذا التصرف هو تأثيره على سير العدالة. إذ أنّ نشر صور ومقاطع فيديو للمشتبه بهم يؤدي إلى إصدار المجتمع لأحكام مسبقة قبل أن يقول القضاء كلمته. ومن شأن هذا الأمر أن يؤثّر بشكل كبير على الرأي العامّ وأن يُشكل ضغطًا على الجهات القضائية، مما يهدد نزاهة العملية القضائية ويُخلّ بمبدأ الفصل بين السلطات. كما أن هذه الاعترافات مصوّرة بطريقة احترافية وتسير في اتجاه واحد وهو إظهار المشتبه به بصورة المجرم والمدان. لذلك نجد تفاعلا كبير بين المتابعين، غالبهم يؤيّد هذه الإجراءات ويباركها وفي الغالب عن جهل ومن دون وعي لخطورتها. وما يفاقم من ذلك هو أن الجهات الأمنية  تستخدم  الوسائل الإعلامية المملوكة من الدولة في تشويه سمعة المشتبه به خاصة المنخرطين في المجتمع المدني من المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان وترسيخ صورة سلبية واعتبارهم عملاء للغرب لديهم أجندة تتعارض مع المصالح الوطنية للشعب الليبي. كما يتعزز هذا الخطاب بدعم الخطاب الديني الصادر عن المؤسسات الدينية الرسمية وكثير من المنابر الدينية الأخرى مع سردية جهاز الأمن الداخلي بما في ذلك التحريض ضدهم واتهامهم بأنهم أداة في أيدي الدول الغربية الساعية لهدم القيم والتقاليد الإسلامية.  كما تلعب الجهات الأمنية على وتر العادات والتقاليد المحلية والمجتمعية والمعتقدات الدينية مما يجعل المشتبه به الظاهر في الفيديو يشكل خطرا على هذه القيم كافة.

السبق الإعلامي وتوظيفه سياسيًا

أصبحت بعض الأجهزة الأمنية تسعى لتحقيق السبق الإعلامي وحصد الإجابات على منصات التواصل الاجتماعي وإظهار نفسها بمظهر حامي القيم والأخلاق في المجتمع، من دون مراعاة تطبيق القانون بشكل صحيح ولا احترام المواثيق والاتفاقيات المصادق عليها من ليبيا. وفي أحيان كثيرة، يكون الهدف من هذا النشر هو التوظيف السياسي لصالح طرف أو آخر، مما يُحول القضية حتى لو كانت قضية حقيقية وجنائية إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية والإعلامية ففي بعض الفيديوات يذكر اسم طرف سياسي او قائد مجموعة مسلحة والتشهير به في ظل الصراع السياسي المحموم في ليبيا.


[1] ،مقال منشور في المفكرة القانونية (معاقبة السّحر ب “القتل” في ليبيا: قانون جديد ينزع الفواصل بين الواقع والغيب)

[2] موجز حالة حقوق الانسان 2022/2023منشور بموقع  مركز مدافع لحقوق الانسان .

[3] المرجع السابق

[4] المرجع السابق

[5] وفقاً للمبدأ الذي أرسته المحكمة العليا الليبي في الطعن الدستوري رقم (1/57ق) تعد المعاهدات الدولية التي صادقت عليها الدولة الليبية جزء من التشريع الوطني، ولها الأولوية في التطبيق متى ما تعارضت مع النصوص القانونية المحلية.

[6] نظم المشرع الليبي ضمانات التقاضي في المواد (31-33) من الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 3/8/2011م. كما أن ليبيا قد انضمت إلى العديد من المعاهدات الدولية والإقليمية التي نصت على التزام الدول المنضمة باحترام معايير المحاكمة العادلة ومنها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والذي انضمت لهُ ليبيا بتاريخ 15. 5. 1970 م، الجريدة الرسمية، عدد خاص، صادر في 20. 5. 2009م، وأُعيد طباعته بأمر من وزير العدل في عام 2018م، ص17. كما انضمت للميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بتاريخ 30. 5. 1985م، وصادقت عليه بتاريخ 16. 7. 1986م، الجريد الرسمية، عدد خاص، صادر في 20. 5. 2009م، وأُعيد طباعته بأمر من وزير العدل في عام 2018م، ص190.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، ليبيا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني