دار نقاش واسع في الآونة الأخيرة بشأن العرف المعتمد بعدم قبول المحجبات في السلك القضائي. هذا العرف بالنسبة للعديد من المحجبات الطامحات إلى الدخول إلى القضاء، يُشكل تمييزاً ضد المرأة بشكل عام، وضد المرأة المحجبة بشكل خاص. ويتجلى هذا التمييز برأيهن: أنه يمنع المرأة المسلمة من تحديد فهمها لواجباتها الدينية، التي ترى فيها أن الحجاب هو واجب ديني وليس رمزاً تضعه لتُظهر انتماءً معيناً، كذا ومن الحد من الحقوق المكرسة دستوراً: حرية المعتقد، والحق بالوصول إلى الوظائف العامة من دون تمييز.

وما يزيد الأمر غرابة، هو أنه يُسمح للمحجبات بتقديم طلبات الترشيح لامتحان الدخول، لكن يتم رفضهن بعد إجرائهن المقابلة مع مجلس القضاء الأعلى في إطار المرحلة التأهيلية لخوض الامتحانات الخطية.

إلا أن التدقيق في آليات الدخول إلى القضاء يظهر أن رفض المحجبات في القضاء ليس إلا أحد تجليات الاستنسابية الفائقة التي يتمتع بها مجلس القضاء الأعلى في غربلة المرشحين واصطفاء واستبعاد من يشاء منهم، بمعزل عن أي معايير موضوعية وبما يتعارض بشكل قاطع مع مبدأ المساواة في تولي الوظيفة العامة، ومنها وظيفة القضاء. وأكثر ما يخشى منه هو أن تشكل هذه الاستنسابية أداة لفرز المرشحين طبقيا وجندريا واجتماعيا، مع ما يستتبع ذلك لجهة تحديد مواصفات القاضي.

اعتصام “حجابي مش ضد العدالة”

النقاش خرج إلى الشارع نهار الأربعاء بتاريخ 10 نيسان 2019 حين نفذ عشرات من طالبات وطلاب اختصاص الحقوق، غالبيتهم من الجامعة اللبنانية، اعتصاماً أمام قصر العدل في بيروت حمل شعار “حجابي مش ضد العدالة”. الشعار المذكور هو اسم الصفحة التي تم استحداثها مؤخراً من قبل الطالبات، والتي من خلالها تمت الدعوة إلى الاعتصام للمطالبة بـ “إعطاء الحق للمرأة المحجبة بالدخول إلى السلك القضائي، وتحقيق المساواة بين المواطنين والمواطنات المنصوص عليها بالدستور اللبناني”. والمشاركات في الاعتصام بشكل عام هن مستقلات سياسياً غير ملتحقات بالأحزاب، حسبما أكّدته إحدى المشاركات التي أدلت بأن المحزبات لم يُشاركن بهذا التحرك بسبب امتناع مرجعياتهن الحزبية عن المشاركة.

تتسلح الطالبات بمسألة أن القانون لا يمنع دخول المرأة المحجبة إلى القضاء، كما بالحريات والحقوق المنصوص عنها دستورياً. فقانون تنظيم القضاء العدلي يشرح الشروط التي يجب أن يتمتع بها الشخص للترشح للاشتراك في مباراة الدخول إلى القضاء، والتي لا  تتضمن أية إشارات إلى عدم قبول المرأة المحجبة في السلك القضائي. كذا، وانطلاقاً من الحقوق المكفولة في الدستور اللبناني، وفي مقدمته التي تؤكد على أن “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل”. وتُشكل المادة 12 من الدستور العلامة الفارقة التي تضمن لكافة المواطنين الدخول إلى الوظيفة العامة من دون تمييز.

من جهتها، تشرح الأستاذة في القانون الدولي وحقوق الانسان د. حليمة القعقور أن “عدد المحجبات الملتحقات باختصاص الحقوق في الجامعات ولا سيما الجامعة اللبنانية هو كبير نسبياً”، لافتةً إلى وجود “كفاءات عالية في صفوف الطالبات المحجبات”. وعلى الرغم من ذلك، فإن “كثيرات من طالبات الحقوق يشعرن بالإحباط من مسألة عدم تمكنهن من الدخول إلى السلك القضائي بسبب العرف المعتمد بعدم قبول المحجبات بمعزل عن كفاءاتهن”. وتشرح القعقور بأنه “لا يوجد أي امرأة محجبة في السلك القضائي اللبناني” مع العلم أنه لا يوجد أي مانع قانوني لخوضهن تجربة الدخول”. وتُضيف، “ما أن تصل المرأة المحجّبة إلى الامتحان الشفهي تتعرض للتمييز على أساس حجابها فقط دون امتحان كفاءتها”.

بدورها، ترى الطالبة في كلية الحقوق لارا سرحال أنها تطمح بعد التخرج من التقدم إلى دورة القضاء. لكن سرحال على قدر ما هي مؤمنة بحقها بتقديم الطلب، إلا أنها تشعر بالحيرة حيال الأمر بسبب النتيجة المتوقعة بعدم قبولها كونها محجبة. لذا، فإن ليالي السهر على الدراسة تحضيراً لامتحان الدخول إلى القضاء يذهب سدى في ظل اعتماد هذه الأعراف، بالنسبة إليها. وتلفت سرحال إلى أن “العديد من زميلاتي اللواتي تقدمن إلى الامتحان نقلن تعرضهن للتمييز في المقابلات الشفهية”. وهذا التمييز تجده سرحال “انتهاكاً لحقوقي ومعتقداتي”.

انطلاقاً من هذه الخطوة الأولى التي قامت بها الطالبات بالاعتصام، فإن المساعي المقبلة تتجه نحو رصد حالات الانتهاكات التي تتعرض لها المحجبات لدى دخولهن للقضاء، بالإضافة إلى المطالبة بتفعيل الطعون بنتيجة الامتحانات الخطية والشفهية.

عرف يعلو على القانون؟

ولكن، ما المانع من دخول المحجبات؟ قلما تجد تبريرا لذلك في الخطاب الرسمي لمجلس القضاء الأعلى الذي يبقى في العموم متكتما ومتحفظا على وجود هذا العرف. ومن التصريحات القليلة المدلى بها مؤخرا في هذا الشأن، ما جاء في حديث تلفزيوني لوزير العدل السابق شكيب قرطباوي بتاريخ 8 آذار 2019: “هو عرف منطقي، معتمد منذ سنوات ويُساهم بمنع التمييز بين القضاة… وأن ما يُميز قاضيا عن آخر يؤذي القضاء”. واعتبر قرطباوي بأنه على “القاضية ألا تُعطي انطباعا أنها مع أحد ضد الآخر …. كما أنه لا يوجد قاض يلبس الصليب”[1]. بهذا المعنى، بدا قرطباوي وكأنه يبرر استبعاد المحجبات بمبدأ ظهور القضاء مظهر الحياد. وهذا الرأي الذي هو بعيد عن كونه مسلما به يستدعي عددا من الملاحظات:

أولا، أنه يعبر عن فهم منقوص للبس الحجاب ولجوهر حرية المعتقد. فلبس الحجاب وفق كثيرات من المحجبات لا يتمّ من باب إظهار ما يعتقدن به، بل من باب العمل بما يقتضيه هذا المعتقد. وعليه، أي تمييز ضدهن في الدخول إلى القضاء يشكل مسا بجوهر حرية المعتقد. وأن أي قول معاكس يعني حكما أن تظهير حيادية القاضي يبرر ليس فقط منعه من إـظهار معتقده بل أيضا حرمانه من حرية المعتقد بحد ذاتها. وهذا ما تشرحه القعقور بقولها أنه “من غير المنطقي الحكم على المرأة المحجبة أنها ستنحاز في أحكامها إلى مرجعيتها الدينية، فالحجاب ليس معيارا منطقيا للحياد”. وتسأل القعقور “ماذا يمنع القاضية غير المحجبة من أن تكون منحازة؟ فحيادية القاضي والقاضية تضمنها التدريبات التي يخضعون لها في المعهد القضائي، لا إزالة الحجاب عن رأس المرأة”.

ثانيا، أنه على فرض صحته، فإنه يبقى انتقائيا وغير مجدٍ في ظل الواقع السائد داخل قصور العدل وخارجها. وهذا ما أشار إليه النائب في البرلمان اللبناني علي فياض خلال جلسة الهيئة العامة لمجلس النواب بتاريخ 6 آذار 2019، غامزا من باب التعددية الطائفية والأعراف الناشئة عنها في إظهار التمييز وفق الانتماء الطائفي، ليس فقط في اللباس إنما في الأسماء أيضا. فبعدما سأل “لماذا لا يسمح للمحجبات بدخول سلك القضاء؟”، عاد وسأل “إذا كان الحجاب يعطي صفة دينية فماذا نفعل بالأسماء: محمد وبطرس؟[2] ولكن أخطر من ذلك هو ممارسات التطييف القائمة على قدم وساق في التنظيم القضائي، بالتواطؤ بين السلطة التنفيذية والهيئات القضائية كافة. وهذا ما يشير إليه المحامي نزار صاغية وهو المدير التنفيذي للمفكرة القانونية. فبعدما يذكر بتطييف المراكز القضائية الهامة، يؤكد بالاستناد إلى الأوراق البحثية المنجزة من المفكرة بشأن الطائفية والقضاء، بأن “تعيين القضاة في هذه المراكز غالبا ما يتم بترشيح من القوى السياسية الغالبة في الطائفة التي ينتمي إليها القاضي بل غالبا ما يتم تبعا لتواصل منتظم بين القاضي وهذه القوى السياسية. فهل يكون تمسك امرأة بما تراه من مقتضيات دينها ومعتقدها أكثر مسا بالحيادية من العلاقات التي بتنا نستشفها بشكل فاقع في مراسيم التشكيلات؟ وهل يكون إظهار الانتماء إلى طائفة في بلد هو في طبيعته متعدد طائفيا أكثر خطورة على مظهر الحيادية، من الانتماء إلى فريق سياسي غالبا ما تطغو مصالحه على الصالح العام؟” ويتابع صاغية: “ثم ماذا؟ هل يجوز أن يقال للمرأة المحجبة أن حجابها يتنافى مع الحيادية المفترضة لدى القاضي فيما أن الثقافة السائدة داخل القضاء وخارجه كلها تذهب في اتجاه مناقض تماما” ويختم صاغية بقوله: “من يعرف كل هذه الممارسات، يعرف أن المرجو من استبعاد المحجبات ليس إطلاقا التمسك بمظهر حيادية القاضي إنما أولا التمسك بمظهر معين للقاضي، عملا بتصورات خاصة للقيمين على التنظيم القضائي، تتخللها نظرة دونية للمرأة. فبفعل هذه التصورات الخاصة جدا، لا يستطيع هؤلاء تخيل أن تكون القاضية محجبة. وعلى الأرجح، تتأتى هذه النظرة الدونية للمرأة المحجبة عن مواقف مسبقة طبقية، قوامها افتراض انتشار الحجاب لدى الطبقات من ذوي المداخيل المحدودة حصرا”.

مباريات الدخول إلى القضاء، تسودها الاستنسابية وتنقصها الشفافية

ولكن، هل تقتصر ممارسة منع المرشحين من المشاركة في المباراة الخطية على المرشحات المحجبة أم أن ثمة فئات أخرى قد تكون معنية بالممارسات نفسها؟ “المفكرة” قدمت في كتابها حول تنظيم القضاء العدلي جوابا من شأنه توسيع إطار الاشكالية المطروحة وتعميقها[3]. فوفق “المفكرة”، يتعرض المرشحون لدخول معهد الدروس القضائية لغربلة تؤدي إلى إقصاء ما يقارب 60% في العقدين الأخيرين عن المشاركة في المباراة الخطية. ويتم هذا الإقصاء على أساس نص قانوني يمكّن مجلس القضاء الأعلى من استبعاد مرشحين عن المباراة بعد إجراء مقابلة شفهية معهم أو حتى من دون إجراء مقابلة معهم، من دون تحديد أي معايير. فعلى أساس هذا النص، دأب المجلس على إقصاء النسبة الأكبر من المرشحين تبعا لمقابلة شفهية وعلى أساس معايير غير موضوعية أو على الأقل غير شفافة، يخشى منها أن تؤدي إلى تمييز طبقي واجتماعي. وقد ذكرت “المفكرة” في هذا الخصوص بأن هذه الممارسة سمحت للمجلس بأن يستبعد من المباريات الخطية لدورة 1993/1994 ليس فقط المحجبات إنما جميع المرشحات النساء بعدما قرر أنها ستكون محصورة بالذكور. وقد شارك إذ ذاك في المباراة الخطية 78 مرشحا ذكرا من أصل 350 مرشحا ومرشحة أي ما يقارب 22% من مجموع المرشحين فقط. وما يزيد من استنساب المجلس في هذا المجال خطورة، هو أن القانون يحصن القرارات المتعلقة بأهلية الاشتراك في المباراة الخطية بحيث يضعها بمنأى عن أي طريق من طرق المراجعة، بما فيه طلب الإبطال لسبب تجاوز حد السلطة (المادة 95 من قانون تنظيم القضاء العدلي).

تعميم سابق بمنع التمييز ضد المحجبات

يُذكر أن قضية الحجاب أُثيرت في مراحل سابقة عندما تقدمت نساء محجبات إلى وظائف في الجيش اللبناني وغيرها من الوظائف العامة، واجهت فيها المحجبات التمييز ووصل الأمر إلى الطلب منهن أن يخلعن الحجاب[4]. في العام الفائت، وبعدما طرحت القضية في الحكومة الوزيرة السابقة النائبة عناية عز الدين، أصدر رئيس الحكومة سعد الحريري في كانون الثاني 2018 تعميماً يطلب فيه إلى جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات وكافة الأسلاك أن تلتزم بقبول جميع الطلبات ممن تتوفر فيهن الشروط التي ينص عليها القانون، بما فيهم المحجبات، وألا يكون الحجاب عائقاً في توليهن الوظيفة العامة، تحت طائلة المسؤولية”[5]. والحال، أن دخول المرأة المحجبة إلى الوظيفة العامة، بما فيها القضاء، لا تحتاج تعميماً، في ظل عدم وجود موانع قانونية أو اشتراط يمنع وضع الحجاب، إنما يبقى هذا الإجراء الذي اتخذه رئيس الحكومة تشديداً على الالتزام بالقانون وليس إنشاء لحق جديد.

 


[1]  السلك القضائي ممنوع على المحجبات – ليال بو موسى ، 8 آذار 2019، تلفزيون الجديد، https://bit.ly/2Z7HrxO.

[2]  مجلس النواب انتخب 7 نواب أعضاء للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء، بري لإعادة النظر بتعيين القضاة دون الأخذ في الاعتبار الطوائف والمناطق، الوكالة الوطنية للإعلام، الأربعاء 6 لآذار 2019، https://bit.ly/2v0Orym.

[3] القضاء العادي في جميع محطاته: رسم بلون الماء، المفكرة القانونية، 2018.

[4]  منع الحجاب من الوظائف العامة يُحرك عناية عز الدين والحريري بعمم… القضاء أمام مشكلة؟، علي عواضة، النهار، 18 كانون الثاني 2018، https://bit.ly/2Dsm4PD.

[5]  تعميم جديد من الحريري يخص المحجبات، ليبانون ديبايت، الخميس 18 كانون الثاني 2018، https://bit.ly/2Kt5e7N.