آمال وتحديات الواقع الدستوري الجديد في السودان

آمال وتحديات الواقع الدستوري الجديد في السودان

منذ الموجة الأولى للربيع العربي في العام 2011، وبعد انفصال جنوب السودان تحديداً، بدأت الاحتجاجات في جمهورية السودان تأخذ شكلا أقوى وأكثر جدية في تغيير نظام البشير، كنتيجة مباشرة للضغوطات الاقتصادية والقمع السياسي المتواصل. حيث شهد السودان عدة حركات احتجاجية، كانت أبرزها احتجاجات سبتمبر 2013، التي نجحت في إحداث تغييرات جلية في الخارطة السياسية السودانية1. في خواتيم ديسمبر من العام 2018، وبعد إنطلاق شرارة الإحتجاجات من مدينتي الدمازين وعطبرة، نظُّم السودانيون وقفات احتجاجية، وتمت الدعوة لتسليم مذكرة تطالب برحيل النظام وتسليم السلطة لحكومة انتقالية مدنية، تعني بإنجاز مهام التحول الديمقراطي في السودان. وهو ما تمت الاستجابة له في فجر الحادي عشر من أبريل بانقلاب اللجنة الأمنية2 وقيامها بعزل الجنرال وإنهاء حكمه الذي دام زهاء الثلاثين خريفاً. ومع تسارع وتيرة الحراك، بَرزَ “تجمُع المِهْنيين السودانيين”؛ وهو جسم مطلبي مكون من عدة كتل نقابية، كقائد للحراك الميداني. لعدة أسباب موضوعية، من بينها اقتناع شريحة واسعة من الشعب السوداني بعدم قدرة النخب السياسية السودانية في صناعة دولة مدنية في السودان، كان الرأى الراجح وسط القوى الثورية أن يطّلع تجمع المهنيين بمهام إدارة المرحلة الانتقالية وتشكيل حكومة من المدنيين الأكِفاء لتحقيق السلام، تسيير دفة الدولة، تفكيك دولة نظام الإنقاذ، وإعداد مؤتمر دستوري للخروج بدستور دائم للجمهورية.

بمرور الوقت، وفي غرة يناير 2019 تحديداً، أصدر تحالف مكون من (تجمع المهنيين السودانيين، نداء السودان، الإجماع الوطني، التجمع الاتحادي المعارض، تجمع القوى المدنية) إعلان الحرية والتغيير؛ وهو وثيقة حاكمة، تضم مطالب القوى الثورية، كما توضح ما اتفق عليه أطرافها من رؤى حول شكل وهيكلة الدولة في سودان ما بعد البشير. نجح التحالف، الذي امتد فيما بعد ليشمل لجان الأحياء وأجساما نقابية أشهرها اللجنة المركزية للأطباء السودانيين، في ضم غالب ألوان الطيف السياسي والمجتمعي إلى حاضنته، مما نتج عنه علُو صيت قوى الحرية والتغيير كقائد للحراك الثوري3.

على الرغم من نشوء خلافات بين أعضاء الحرية والتغيير حول تفاصيل متعلقة بمرحلة ما بعد نظام البشير، لم تحظ طريقة التغيير؛ دستورية كانت أو ثورية، بنقاش مثمر يُفضِي لبيان طريق التغيير الأمثل بالنسبة للبلاد. عموما، المتتبع لمسيرة الحكم الوطني في السودان، يَلحظُ أن كلَّ عمليات الانتقال السياسي فيه مرت بالجيش كنقطة وسيطة. مَردُ ذلك هو عجز السودان عن بناء وحماية دستور دائم، حاكم للممارسة السياسية، ومُوضِح لشروط التعاقد بين إنسان السودان والدولة. الجدير بالذكر أن السودان كان يُحكم، نظرياً طبعاً، وفقاً لدستور العام 2005 الانتقالي. ومنذ ذلك العام، فشلت كل المحاولات، كما سنعرض لاحقاً، للتوصل إلى صيغة تعاقدية (دستور) دائمة ومُتفَق عليها من أصحاب المصلحة أو مجازة باستفتاء شعبي.

على كُلٍ، وفي منتصف يوليو المُنصرم، أنتج الاتفاق بين قوى الحرية والتغيير والانقلابيين وثيقة دستورية، تُحدِدْ هياكل السلطة الانتقالية، ومهامها، وطرق التعيين، بالإضافة إلى آليات فض النزاعات. كما تطرقت الوثيقة لعملية إحلال السلام بالبلاد، ووضعت سقفاً زمنياً –ستة أشهر– للتوقيع على اتفاق سلام شامل بين حكومة إعلان الحرية والتغيير من جانب، والحركات المسلحة من جانب آخر. من ناحية قانونية، اعترت الوثيقة عدد من الهنات أبرزها التعيينات للمناصب العليا في السلطة القضائية والنيابة العامة. أيضاً، عطَّلت الوثيقة المهام الرقابية في الفترة الأولى من المرحلة الانتقالية بنصها على أن تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي يعقب مُباشرة الحكومة لأعمالها. كما تم هضم السلطة التشريعية بواسطة السلطة السيادية، مُمثلةً في المجلس السيادي، والسلطة التنفيذية، إلى حين تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي. وفي حين يتطلع السودان للتعافي بعد فترة شمولية عصية، تبرز عدة تحديات، بعضها موروث من تاريخ البلاد الدستوري، والآخر هو حصاد الواقع السياسي المتشابك.

في هذا المقال، نحاولُ التعريفَ بتاريخ الواقع الدستوري في السودان، تقديم الوثيقة الدستورية وبيان المؤسسات المشكلة حسب نصوصها، توضيح التحديات القانونية التي قد تواجه السودان بسببها، إلى جانب آفاق الثورة السودانية؛ وقدرة الثورة على ابتكار حياة دستورية صحية تنقل السودان إلى مصاف الدول المدنية.

الواقع الدستوري المتخبط في السودان

إن تقديماً مختصراً لتاريخ التجارب الدستورية السودانية ليس بالأمر اليسير. يرجع ذلك لكثرة هذه التجارب، وإختلاف طبائع كُلٍ منها. فمنذ أن نالت استقلالها في العام 1956 وحتى اندلاع ثورة ديسمبر 2018، مرَّ على الدولة السودانية الحديثة ما يقارب إثني عشر دستوراً وإعلاناً دستورياً، يأخذ الصفة الدائمة تارةً أو الصفة المؤقتة تارةً أخرى. أغلب، إن لم يكن كل، هذه الوثائق الدستورية كانت إنعكاساً لتوجهات نخب المركز السوداني (مدنية أو عسكرية) وأيدلوجيات الأحزاب الطائفية، وليست وثائق تؤسس لنظام حكم متعدد يحكم دولة متنوعة مثل السودان. إذاً، يمكننا القول بأن الواقع الدستوري في السودان، كغيره من دول ما بعد الاستعمار، كان شديد الارتباط بمجريات الواقع السياسي؛ يتغير بتغيره و يتواءم مع طبيعة السلطة الحاكمة ليشكل لها درعاً حامياً طوال فترة حكمها4.

وبتتبع التاريخ الحديث للدولة السودانية، بإمكاننا أن نلاحظ كثيراً من التشابهات والتقاطعات في الواقع السياسي وطريق انتقال الحكم. فقد اتسمت جميع تجارب الحكم المدنية بقصر فترتها نتيجة لاستدعاء الأحزاب السودانية مراراً وتكراراً للجيش لحل الأزمات السياسية. ثم يحكم الجيش السوداني لفترات طويلة حتى يلجأ الشعب لسلطة الشارع للإطاحة بالحكم العسكري. وعلى هذا المنوال، ظلّت الحياة السياسية تتقلب من سلطة مدنية قصيرة، تتصارع فيها الأحزاب السياسية على حكم البلاد مع فشل في إعداد دستور دائم لها، إلى حكمٍ عسكري شمولي، ينفرد فيه العسكر بالسلطة حتى ينتفض عليه الشعب ليأتي بالسلطة المدنية من جديد5.

وهكذا كان الحال ابتداءً من حكومة ما بعد الاستقلال التي أدت خلافاتها الداخلية المحتدمة إلى قيام رئيسها، في العام 1958، بتسليم مقاليد الحكم لوزير دفاعه الجنرال إبراهيم عبود، والذي حكم البلاد حتى انتفض عليه الشعب في أكتوبر من العام 1964. ونتيجة لضغط الشارع المتواصل، سلّم الجنرال الحكم لسلطة مدنية، تولّت مهمة إعادة وإرساء الديمقراطية بالبلاد. وبنفس النمط، انقلب العقيد جعفر النميري، وثيق الصلة، في ذلك الوقت، بالحركات اليسارية، على نظام الحكم وحكم لما يقارب الستة عشرعاماً، قبل أن تدور عليه دوائر الانتفاضات الشعبية في أبريل 1985. وبُعيد فترة انتقالية قصيرة، اختار الشعب مَن يحكمه عن طريق الانتخابات التي أجريت في العام 1986 وجاءت بحكومة السيد الصادق المهدي. بالرغم من ذلك، تواصل مسلسل الانقلابات في السودان، ولكن هذه المرة كان بتخطيط من الجبهة الإسلامية، التي تعاونت مع العسكر للوصول إلى الحكم، فجاء الانقلاب على الحكومة المنتخبة في العام 1989. استمر الحكم العسكري-الإسلامي الذي ترأسه عمر البشير (نظام الإنقاذ الوطني) لما يقارب الثلاثين عاماً في الحكم، ليصبح أطول نظام حكم مرَّ على تاريخ السودان.

مما سبق ذكره، يمكننا أن نرد التقلبات السياسية المتكررة في السودان إلى ضعف وتخبط عملية البناء الدستوري فيه. وبينما وسَمَ التعثر في صياغة العقد الاجتماعي مسيرة الحكم الوطني ككل، كانت فترة حكم المؤتمر الوطني، بكل المقاييس، هي الأكثر تخبطاً؛ حيث كانت البلاد في حالة من الفراغ الدستوري منذ لحظة تعطيل قائد الانقلاب للدستور في العام 1989حتى العام 1991. ومن ثم، حُكِمت البلاد بمرسومٍ دستوري ظلَّ سارياً حتى العام 1998 حين تم إعتماد، دستور للبلاد، كان بلا شك يعبر عن أيدلوجيا النظام الإسلامي الحاكم، وليس السودان كبلد متنوع في مكوناته الثقافية. في العام 2005، وقَّعت حكومة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان ما اصطُلح على تسميتها باتفاقية السلام الشامل، والتي، نظرياً، أنهت الحرب بينهما، وبذلك أنهت واحدة من أطول الحروب الأهلية في أفريقيا. اعتُبر الاتفاق، وفقاً لأحكامه، بمثابة دستور انتقالي للبلاد، يحكم فترةً زمنية محددة، إلى حين إجراء استفتاء لاقليم جنوب السودان، ومن ثم إقامة دستور دائم للبلاد.

كنتيجة للتراكم السياسي والقانوني بالسودان، يعتبر الدستور الانتقالي، المصاغ في العام 2005، أفضل منتوج دستوري. فمن حيث المحتوى، يَعتبر كثير من المراقبين أن هذا الدستور كان الأفضل على مر تاريخ السودان، حيث يسعى لتأكيد قيم الديمقراطية، التعددية الحزبية، والتنوع. كما أنه أفرد باباً كاملاً للحقوق والحريات – وثيقة الحقوق التي اعتبرها عهداً بين كافة أهل السودان- ووضع على الدولة واجب حماية هذه الحقوق وجعل حكم القانون أساساً للحكم. ومع ذلك، يعتبر الكثيرون أن هذا الدستور لا يمثل إرادة الشعب السوداني، ويمثل فقط إرادة طرفي الاتفاق؛ لكونه تم بين شريكي الحكم وقتها، نظام الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان6 . ويسوق البعض أن غياب السند الشعبي، بالإضافة للتهميش الممنهج، خصوصاً من أقاليم البلاد الجنوبية، أدى فيما بعد إلى إنفصال جنوب السودان في العام في 2011، وفقاً لنتائج الاستفتاء التي تمت وفقاً لأحكام الدستور الانتقالي.

وبالرغم من انقضاء الفترة المسماة بالانتقالية بانفصال جنوب السودان، ظل الدستور الانتقالي يحكمُ البلاد حتى بعد الانفصال، ولحين سقوط النظام. حيث كان الحزب الحاكم، عن طريق أغلبيته في البرلمان، يعدل أحكام الدستور كيفما شاء، متيحاً لنفسه الانفراد بالسلطة التي سعى إلى مشاركتها مع بعض الأحزاب السياسية في آخر فترات النظام تحت مسمى (حكومة الحوار الوطني).

الوضع الدستوري ما بعد ثورة ديسمبر

مع التوقيع على الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية في السابع عشر من شهر أغسطس من العام 2019؛ دخل السودان حِـقبة جديدة وفريدة بكل المقاييس، ينهي فيها ثلاثين عاماً من الشمولية، القهر، الحروب، الانتهاكات الممنهجة لحقوق الانسان، والغياب الكامل لحكم القانون. ويفتح بذلك، كما أشارت ديباجة الوثيقة، المجال لبناء دولة حديثة تقوم على الاعتراف بالتنوع، احترام التداول السلمي للسلطة، التعددية الحزبية، وتعزيز حكم القانون وحقوق الانسان.

وبطبيعة الحال، ألغت الوثيقة الدستورية الجديدة العمل بدستور السودان الانتقالي لسنة 2005، وأسست لنظام حكم برلماني، يقوم على أساس المواطنة وكفالة الكرامة وحقوق الإنسان لجميع الأفراد دون تمييز. إضافة إلى ذلك، حددت الوثيقة مدّة الفترة الإنتقالية بتسعة وثلاثين شهراً، على أن تسري من تاريخ التوقيع عليها. بالتأكيد، وكما سنعرض لاحقاً، لا يمكن أن نقول أن هذه الوثيقة تعبرعن إرادة الشعب، بل يمكن تعريفها بأنها “إتفاق سياسي يعكس تقاسم السلطة بين أكثر الجهات الفاعلة في البلاد وقت الصياغة”(Elite-driven)7. إلا أنه، بالرغم من ذلك، وبحكم الأمر الواقع، تشكل الوثيقة الدستورية، نظرياً، اللبنة الأساسية لنظام الحكم وأولوياته في الفترة الانتقالية أنفة الذكر.

نتج عن هذا الاتفاق تقاسم الطرفين المتنازعين -اللجنة الأمنية التي أعدت الانقلاب على البشير وقوى إعلان الحرية والتغيير- للسلطات بالبلاد. تم تشكيل مجلس مكون من أحد عشر عضوا، ستة مدنيين وخمسة بصفة عسكرية، ليمثل سيادة الدولة، يجيز تعيين رئيس الوزراء، ويمارس مهام السلطة التشريعية، جنباً إلى جنب مع السلطة التنفيذية، لحين تعيين المجلس التشريعي الانتقالي. بالنسبة للحكومة، فيما عدا وزيرين، كون الدكتور حمدوك، رئيس الوزراء المُعين من قبل قوى الحرية والتغيير، حكومة مجملها من أساتذة الجامعات والكفاءات السودانية بالخارج ، حسب مطالب قوى الثورة الرامية لإبعاد السياسيين من المشهد الانتقالي. إلى جانب المجلس التشريعي الانتقالي، فقد تم إرجاء تعيين رؤوس المفوضيات القومية، وولاة الولايات لفتره لاحقة.

على صعيد آخر، وبالرغم من المناخ الثوري الذي يعيشه السودان، والذي تمظهر في تجاوزات قانونية في تعطيل السلطة التشريعية مؤقتاً، واحتكار تعيين رأسي السلطة القضائية والنيابة العامة، بقيت المحكمة الدستورية وقضاتها عصية على التغيير الثوري، وهي ثغرة يرى كثير من المراقبين للمشهد السوداني بأنها قد تؤدي إلى نتائج لا يحمد عقباها. إجمالاً، يمكن القول بأن جُل مؤسسات القطاع العام، مدنية كانت أم عسكرية، قد اعتراها تغيير فيه شبهة في دستوريته، ولكن اكتسب شرعيته من سلطة الشارع8.

التحديات التي تواجه الوثيقة الدستورية

يصف كثير من المراقبين بأن الوثيقة الدستورية بشكلها الحالي تشكل خطراً كبيراً على الثورة وأهدافها، وذلك لاحتوائها على عيوبٍ قانونية فادحة، على حد قول المراقبين، فقد تشكل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، لتعطيل تحقيق أهداف الثورة في تحقيق الحرية، السلام، والعدالة. أبرز هذه العيوب تتعلق بتعيين رئيس القضاء والنائب العام، بالإضافة إلى سريان القوانين الصادرة من قبل النظام البائد المتعلقة بالسلطة القضائية، المحكمة الدستورية، والنائب العام. وبالتأكيد، عدم استقلالية هذه المؤسسات قد يلعب دوراً كبيراً في دفع الثورة إلى الخلف.

على الرغم من ذلك، وفي محاولة لتصحيح المسار وتدارك بعض الأخطاء الواردة في الوثيقة، عمد وزير العدل، المعين حديثاً، على تعديل بعض النصوص التي تتعلق بتعيين رئيس القضاء والنائب العام. حيث نصت الوثيقة الدستورية الأولى على أن تعيين كل من رئيس القضاء والنائب العام يكون عن طريق مجلس القضاء العالي والمجلس الأعلى للنيابة على الترتيب، مع العلم بأن المؤسستين لم يتم إنشاؤهما بعد. ولتفادي هذا الوضع، عُدلت الوثيقة الدستورية بحيث تسمح لمجلس السيادة الحالي بتعيين كل من رئيس القضاء والنائب العام، لحين تشكيل مجلس القضاء العالي والمجلس الأعلى للنيابة، وهذا ما حدث بالفعل لاحقاً. ومن هنا ثار الجدل عن دستورية هذه التعديلات والتعيينات، ولأي مدى يجوز للمجلس السيادي ومجلس الوزراء إصدار مثل هذا التعديل.

وبالإطلاع على الوثيقة الدستورية، يذهب بعض فقهاء الدساتير بالقول أن هذه التعديلات الصادرة من المجلس السيادي غير دستورية؛ حيث أنها تتنافى مع نص الوثيقة التي تمنح الحق في تعديل الوثيقة فقط إلى ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي، الذي لم يتكون بعد. وبذلك، تكون التعديلات قد خالفت نص الوثيقة وبذلك تصبح غير دستورية. ولكن بالتمحيص في نصوص الوثيقة نجد أن المادة 24/3 من الوثيقة الأولى تمنح جميع سلطات المجلس التشريعي للمجلس السيادي ومجلس الوزراء على أن يمارسها في اجتماع مشترك تكون فيه القرارات بأغلبية ثلثي الأعضاء. وبذلك تكون هذه التعديلات دستورية طالما أنها صادرة من ثلثي أعضاء مجلسي السيادية والوزراء.

عموما، وتفادياً لكل هذا الجدل، كان من الممكن للمجلس السيادي، عن طريق السلطة الممنوحة له في التشريع لحين تكوين المجلس التشريعي، أن يصدر تشريعين يُكون من خلالهما كلا من مجلس القضاء العالي والمجلس الأعلى للنيابة، وبذلك يكون قد تجنب تعريض المنصبين والوثيقة الدستورية، ومن ثم تطلعات السودانيين، لأي شبهة في عدم دستوريتهم.

أمال الثورة السودانية في خلق دستور دائم للبلاد

على الجانب الآخر، تطفو آمال يمكن أن تُمهد مسار السودان الانتقالي، وتعبر بثورة ديسمبر إلى نهايتها؛ أي إنجاز الاستحقاق الدستوري بطريقة قانونية ومستدامة، بالإضافة إلى بناء مؤسسات الحكم المدني في السودان. هنا، يبرز المؤتمر الدستوري، المزمع قيامه في خواتيم الفترة الانتقالية، كفرصة لتصحيح العقد الاجتماعي المخل بالسودان. كما أنه يوفر فرصة ثمينة للشعب السوداني للمناقشة العميقة بين كل مكونات المجتمع في قضايا السلام، نظام الحكم، الحريات العامة، وضمان دستورية التغيرات السياسية مستقبلاً.

أيضا، يعقد السودانيين آمالهم على مفواضات السلام مع حركات الكفاح المسلح، الجارية حالياً في دولة جنوب السودان، في تحقيق إتفاق سلام شامل ينهي فترة طويلة من الحروب الأهلية في أقاليم دارفور، كردفان، والنيل الأزرق. كما يأمل السودانيين، أيضاً، في إحداث اختراق في السياستين الخارجية والاقتصادية لضمان إنفاذ مخرجات الفترة الانتقالية. تحديداً، يعول السودان على مساندة محيطه الاقليمي والعالمي، في تجاوز التحديات المرتبطة برفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإزالة العقوبات الأمريكية. يترتب على هذه الخطوات، فيما يترتب، تصحيح وضع السودان القانوني مع المؤسسات المالية العالمية واكتساب نقاط إيجابية في مؤشرات الاستثمار والائتمان العالمي.

1 Jehanne Henry, “We Stood, They Opened Fire” Killings and Arrests by Sudan’s Security Forces During the September Protests Human Rights Watch Report, September 2014

2 اللجنة الأمنية هي لجنة شكلها الرئيس المعزول البشير بعد انطلاق الاحتجاجات عليه في خواتيم ديسمبر المنصرم. تولي وزير الدفاع رئاسة اللجنة التي ضمت وزير الداخلية، مدير المخابرات، قائد الشرطة.

3 عصام الزيات، إعلان الحرية والتغيير: 4 قوى تقود الثورة السودانية، إضاءات، 12/04/2019.

4 إبراهيم حاج موسى، التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم في السودان، دار الجيل للنشر والطبع والتوزيع.

5 عمرو محمد عباس، رحلة الدساتير السودانية: الديمقراطية المؤقتة والعسكرية الدائمة الرائحة، يوليو 2015.

6 عبدالباسط محمد الحاج، التجربة الدستورية في السودان، صوت الهامش.

7 Nathalie Bernard-Maugiron, State Power and Constitution Drafting Process in Post-Revolutionary Transition in North Africa, IEMed, NA, P. 120.

8 Sami Abdelhalim, The Need for a Transitional Constitutional Framework for Post-al Bashir’s Sudan, constitutionnet, June 2019.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، دستور وانتخابات ، السودان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني