آدم من غزة إلى بيروت للعلاج: أول غيث صندوق أبو ستّة للأطفال


2024-05-27    |   

آدم من غزة إلى بيروت للعلاج: أول غيث صندوق أبو ستّة للأطفال
آدم في مطار بيروت متوجّهًا إلى سيارة الصليب الأحمر اللبنانيّ

وصل الطفل الفلسطينيّ الجريح آدم (5 سنوات) اليوم الإثنين قادمًا من غزّة عبر مصر، في رحلة امتدّت لأشهر، حمل فيها جراحًا خطيرة في يده اليسرى بعد أن نجا من قصف إسرائيلي مباشر على منزل أسرته، فيما استشهد والده وأخته وعمته وأصيبت والدته بجروح خطيرة.

على أرض مطار بيروت، خطى آدم متجاوزًا إجراءات الأمن، ممسكًا يد عمّه عيد ولا يفلتها، مستكشفًا هذه المحطّة الجديدة له، حيث سينتقل إلى المركز الطبّي للجامعة الأميركيّة في بيروت لتلقّي علاج لم يتوفّر له في مستشفيات غزة ومراكزها الطبية التي استهدفتها حرب الإبادة وأخرجت غالبيّتها عن الخدمة. 

في مطار بيروت، كان متطوّعون ومتطوّعات من “صندوق غسّان أبو ستّة للأطفال” بانتظار آدم. وشكّلت خطواته الأولى على أرض المطار انطلاقة رسميّة لمهام الصندوق الذي تأسّس نهاية العام الماضي. وهو يتكفّل بنقل الأطفال مصابي الحرب للعلاج في لبنان، وسيوفّر التغطية الشاملة للطفل ومرافقه، لتلقّي الرعاية الطبيّة والنفسيّة والاجتماعيّة طوال فترة إقامته مع مرافقه.

وقد رافقت “المفكّرة القانونيّة” آدم وعمّه من المطار ووصولًا إلى المستشفى، ووثقّت قصّة “دمدم”، وهو اللقب الذي يختاره آدم لنفسه تحبّبًا، فيما تضيف شهادة عمّه سطورًا جديدة إلى قصّة الإبادة الجماعيّة ومحنة فلسطينيّي غزّة اليوم. 

في كلمات آدم الأولى في بيروت براءة طفل يصف حجم الطائرة التي أقلّته، وحديث عن سنّه التي تتحرّك في فمه وهي على وشك السقوط، وأنّه ينوي أن يرميها إلى الشمس، لتلتقطها “بيدها الكبيرة”، وترسل له سنًّا جديدة. ينشغل الطفل الغزّاويّ بسنّه، فيما يده ملفوفة بالضمّادات الطبيّة من الكتف حتى كفّه المتورّم، وتحتاج لعمليّات عاجلة لإنقاذها. تشكّل كلماته شهادة على البراءة، ويده دليلًا مرئيًا على جريمة مكتملة المعالم، يرويها لنا عمّه.

والعم هنا يحكي عن ليلة قصف منزل العائلة في جباليا في الأسابيع الأولى للحرب: “آمنون في منازلنا، أسر فوق بعضها، استهدفها الصاروخ الإسرائيليّ فكانت المجزرة”. استشهد 4 من العائلة، بينهم والد آدم وشقيقته ذات السنتين، وعمّته ابنة الستة عشر سنة. والمجزرة خلّفت جرحى بينهم والدة آدم الراقدة في المستشفى في مصر، حيث تحتاج لعمليات ترميم لوجهها وأنحاء مختلفة من جسدها. ومكان المجزرة هو ليس سوى منزل أسرة آدم في جباليا الذي دمّرته الغارت الإسرائيلية على رؤوس ساكنيه، وشهد آدم فيه على موت أقرب أحبائه، رغم سنّه الصغير.

وكانت أوامر الإخلاء الإسرائيليّة تنكّل بآدم وهو يتنقّل بين مستشفيات الشمال حيث تلقّى الرعاية الأوّلية، وصولًا إلى المستشفى الأوروبي في الجنوب، قبل أن يتمكّن العمّ الذي كان في مصر قبل الحرب من إجلائه مع أسرته من غزة عبر معبر رفح. إجلاء تعرقل عدّة مرّات، خصوصًا حينما قصفت الصالة الفلسطينية في معبر رفح والعمّ مقابلها في الصالة المصرية ينتظر الدخول إلى غزة، ليُقفل المعبر ويعود أدراجه ثمّ يكرّر محاولاته حتى نجح أخيرًا بعد ثلاثة أشهر من الحرب المتواصلة “وسط صعوبات كبيرة في تخليص الوثائق”. دخل العمّ غزّة ليجلي أسرة شقيقه الشهيد، وهو الذي لم يتمكّن من توديع من استشهدوا. وفي مصر، سعى العمّ إلى تأمين العلاج لابن شقيقه، فحصل آدم على رقع جلديّة وظلّت يده من دون علاج حتى الساعة. وقد تحمّل آدم منذ إصابته ألم الجراح، وغياب أدوية التخدير في مستشفيات غزة خلال علاجه فيها، “فكانت تُجرى له العمليّات بالحد الأدنى من التعقيم ودون بنج أو مسكّنات للألم”. يتحدّث عيد عن هذه الويلات، بعيدًا عن سمع آدم، فيما الطفل يخبر من حوله عن أبيه الشهيد كأنّه لا يزال هنا.

في بيروت اليوم، تنتظر آدم إقامة من أجل العلاج، حيث سيجري له فريق طبّي متخصّص العمليّات اللازمة. ووصول آدم، هو بالنسبة للمتحدثة الإعلامية باسم الصندوق دانيا دندشلي “إنجاز بسيط بوصفه بداية لمسار طويل، لأنّ الصندوق مشروع طويل الأمد لأطفال بحاجة لعلاج متكرّر وطويل نتيجة نوع الإصابات التي نختارها ونتكفّل بها”. وتشرح لـ “المفكّرة” أنّ وصول آدم هو “نتاج عمل دؤوب ومتواصل ومتعدد الجوانب مع سلطات متعددة”. وعن سؤال العوائق التي أخّرت وصول آدم حتى اليوم، تكتفي بالقول “بيروقراطيات الأنظمة”.

ودندشلي، الأخصائية النفسية، تلفت إلى أنّ هدف الصندوق من علاج الأطفال في لبنان هو “أن يستفيدوا من الخبرات الطبية اللبنانية والدعم المادي العالمي من خلال التبرّعات التي نجمعها لأطفال غزة”، موضحة أنّ لدى القطاع الطبي اللبناني خبرات فريدة في المنطقة في معالجة إصابات الحروب تحديدًا، لتتابع: وفلسفة الصندوق تحديدًا هي ترميم الحياة مع ترميم الأجسام، أي عملية جراحية يتبعها إعادة تأهيل نفسي وجسدي وتربوي واجتماعي لاعادة دمج هؤلاء الأطفال في مجتمعاتهم ومع من نجا من عوائلهم بعد أن يعودوا إليها.

وتشرف لجنة طبيّة في الصندوق على اختيار الحالات، والطبيب غسان أبو ستة الذي يحمل الصندوق اسمه وهو جزء من هذه اللجنة وكذلك من الفريق الطبي المعالج فيه. ويقسّم الصندوق مهامه إلى 4 مراحل، تبدأ بنقل الأطفال المصابين، ثم استقبالهم في بيروت، لتبدأ مهمّة الرعاية الطبية بما فيها العمليات الجراحية في المستشفيات والمرافق الطبية الشريكة. ويتعهّد الصندوق بتأمين رعاية شاملة متعددة الأبعاد، حيث يحصل الأطفال على دعم الصحة النفسية والتعليم والترفيه بالإضافة إلى كافة الاحتياجات الأساسية، ليعود الأطفال ومرافقوهم مع اكتمال العلاج حيث يتابعون تعافيهم مع أخصائيين على الأرض.

يروي العم عيد عن أحلام ابن شقيقه التي أسرّها له مؤخّرًا، فآدم يريد أن يصبح شرطيًّا ليضع المجرمين والقتلة في السجن. وبعد أن تنقضي الحرب “بدنا نرجع على مكاننا، ونعيد الحياة إليه”، يقول عيد، الغزّاويّ الثلاثينيّ، لينظر إلى آدم وتنطق عيونه بكثير من العزيمة والحنان تجاه ابن شقيقه.

في مطار بيروت اليوم، ركض آدم نحو سيّارة الصليب الأحمر، متشوّقًا إلى الركوب في “السيارة الكبيرة”. شقت السيارة طريقها من المطار إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. دخل آدم من باب الطوارئ، فيما ظلّت جراحه الغائرة والملتهبة تروي قصّة أطفال يعيشون الإبادة، وتصبح الرعاية الصحية لهم حلمًا يحتفل بتحقيقه لأحدهم، بدل ان تكون حقًّا بديهيًّا، فيما يتواصل القصف الإسرائيلي على غزة من شمالها حتى آخر خيامها في رفح، وتصنع آلة الحرب كل دقيقة “طفلًا جريحًا” جديدًا. 

وإذ يواصل المتطوّعون مواجهة الإبادة بالتمسّك بحياة كلّ طفل، وبإتقاذ كل طرف منه مهدّد بالبتر، فإن وقف الإبادة الجماعيّة، تحقيق العدالة، والحريّة، لغزة، ولفلسطين وناسها، تبدو مسلّمات مغيّبة في زمن يبطش العدوان بأكبر المسلمات، براءة الطفولة ونقيّها التام. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، حقوق الطفل ، لبنان ، مقالات ، فلسطين ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني