أدى نشوء مؤسسات الضمان الاجتماعي في دول كثيرة اإلى صراع مع كبار تجار الدواء، ففيما يسعى هؤلاء الى زيادة أرباحهم، تسعى المؤسسات الضامنة الى تخفيض الفاتورة الصحية. وفي موازاة الخطاب الحاصل بشأن سعي وزارة الصحة العامة الى تخفيض كلفة الدواء في لبنان، رغبت “المفكرة” في الإضاءة على تجارب سابقة للحرب، أي على بدايات تجربة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. فحاورت لهذه الغاية مدير الضمان الصحي السابق في الصندوق جميل ملك. فكانت هذه المحصلة (المحرر).
في حديثه الى المفكرة، وقبل أن يتناول تجربة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في مجال الدواء، أصرّ مدير الضمان الصحي السابق في “الصندوق” جميل مَلَك، على التذكير بأزمات الدواء في لبنان. فبحسبه، سبقت “أزمة الدواء في لبنان إنشاء صندوق الضمان في العام 1963، نظراً لعدم تحمّل الدولة مسؤولياتها من قبيل دعم الدواء والعمل على تخفيض فاتورته. وتُرك المجال للشركات المحتكرة بإجراء صفقات مع بعض الأطباء والترويج لأدويتها بأسعار باهظة”. ويردِف ملك أنه منذ منتصف القرن الماضي، كان العديد من أصحاب الدخل المحدود يعمدون إلى شراء أدويتهم من سوريا، حيث كان الدواء المدعوم هناك أرخص بكثير من الموجود في السوق اللبنانية. كما ذكّر ملك بمحاولات إصلاحية عدة لملف الدواء أجراها بعض وزراء الصحّة، كان أبرزها عندما أراد وزير الصحة الأسبق نسيب البربير (مؤسس مستشفى البربير ومستشفى دار الصحة للأسر ذات الدخل المحدود) الاستجابة لمطالب الشعب وترخيص فاتورة الدواء 10 قروش في العام 1966، فتآمر عليه أصحاب شركات الدواء وشكلوا مجموعة ضغط متحالفة مع السلطة ضربت مشروعه، ما أدى إلى استقالته. أما المحاولة الثانية، فقد أجراها وزير الصحة الأسبق إميل بيطار في العام 1971، حيث جاهر بضرورة مواجهة “شبكة المستفيدين والمحتكرين التي تتحكم بسوق الدواء”.
أما عن دور “الصندوق” في تحسين وضع استهلاك الدواء، فأوضح ملك أولا أنه وضع بداية لائحة أدوية، تحتوي على 3000 دواء تغطيها مساعداته من أصل 7000 دواء مسجل في وزارة الصحة. وقد حرص على تضمين لائحته أدوية تشمل مختلف الحالات المرضية. فإذا تم ذلك، عمد الصندوق الى استخدام الصلاحية المعطاة له قانوناً (المادة 22 من قانون الضمان الصحي) باستيراد الأدوية مباشرة من الشركات المصنّعة لتوزيعها على الصيدليات بسعر الكلفة… إلخ. ويضيف ملك: “كنا نستورد من الخارج أدوية بأسعار أرخص وفارق 40 إلى 50 في المئة عن الأسعار في السوق اللبنانية، ما أدى إلى كشف جشع مستوردي الأدوية”. وعليه، كان بإمكان أي مواطن لبناني مسجّل في الضمان أن يشتري الدواء بسعر أرخص من الدواء نفسه الذي يشتريه أي مواطن غير مسجل في الضمان. وقد أدت هذه العملية إلى خسارة مستوردي وتجار الأدوية نسبة كبيرة من الشعب اللبناني كمستهلكين في تجارتهم. وإزاء ذلك، اعتبرت المافيات التي تحتكر سوق الدواء أن المادة 22 تُعتبر تدخلاً بالتجارة الحرة. وهذا ما يفسر ربما وفق ملك تعرض مستودعَي الأدوية التي كان يستوردها الصندوق، في منطقتي الباشورة وانطلياس، للسرق والنهب والحرق في الأيام الأولى لاندلاع الحرب الأهلية. فقد تم تنفيذ الهجوم على المستودعين في الوقت ذاته من قبل مجموعات متقاتلة، الأمر الذي يدعو الى الاعتقاد بأن “مافيا مستوردي الأدوية تآمرت مع طرفي النزاع خلال الحرب الأهلية للقضاء على دور الصندوق. ومنذ العام 1975 حتى اليوم، مُنع الصندوق من استيراد الأدوية من أجل الحفاظ على الأسعار التي تضعها الشركات المحتكرة، وعادت عملية سيطرة هذه القوى على سوق الدواء وفرضت على المواطنين شراء الأدوية من جديد بأسعار باهظة”.
وفي ما يخص دور وزارة الصحة في عملية التسعير عند استيراد الدواء، يؤكد ملك أن المحسوبيات تلعب دوراً أساسياً في التسعيرات التي تعتمدها الوزارة، فعلى سبيل المثال إذا كان دواء ما يستحق أن يُسجل بـ50 ألف ليرة لبنانية، تعمل المحسوبيات والصفقات والرشى على تسجيله بـ100 ألف ليرة. ويتذكر ملك عندما كان مديراً للضمان الصحي، سجلت إحدى شركات استيراد الأدوية دواءً في وزارة الصحة وسعّرته بـ120 ألف ليرة، وكانت هذه الشركة مهتمّة بتسجيله في الصندوق، وخلال أسبوع من المفاوضات عرضت خلالها الشركة على موظفين عديدين صفقات ورشى لتسجيله بالسعر ذاته، وافقت على تسجيله بـ60 ألف ليرة فقط. وبرأيي، الوزارة تقوم بدورها الرئيسي، بقدر ما تعمل على تنظيم حركة استيراد الأدوية وتسعيرها. ويرى ملك في السياق نفسه أن تغليب المصالح التجارية على سياسة التسعير يبقى طاغياً، على الرغم من وجود نص “دليل إجراءات المعاملات الإدارية في دائرة استيراد وتصدير الأدوية ” في وزارة الصحة، والذي يهدف إلىتجديد المستندات اللازمة والشروط المفروضة والمراحل التي تمر فيها المعاملات الإدارية في دائرة استيراد وتصدير الأدوية “بغية تسهيل مهمة أصحاب العلاقة والموظفين على حدٍ سواء”، بناءً على قرار وزير الصحّة السابق علي حسن خليل رقم 1/1635 الصادر في 9 تشرين الأول 2013.
من هنا تأتي ضرورة إعادة إحياء المختبر المركزي لفحص فعالية كل أنواع الأدوية التي تدخل إلى السوق اللبنانية، وبناء سياسة تسعير عادلة بعيدة عن المصالح الاحتكارية. ويذكر ملك هنا أن المختبر المركزي قد دمّر خلال الحرب الأهلية ولم يعدْ بناؤه حتى اليوم. وعليه، لا يمكن تسجيل أي دواء جنيسي في أي دولة من دون إخضاعه إلى فحص في مختبر مركزي، وهذا ما نفتقده في لبنان. فإن المادة 47 من قانون تنظيم مهنة الصيدلة تسمح للصيدلي باستبدال الدواء الأصيل بآخر جنيسي. وقد أضيف على هذه المادة، تماشياً مع متطلبات الوصفة الطبية الموحدة، “شرط أن يكون الطبيب المعالج موافقاً على الدواء قبل الاستبدال”. وهذه العبارة تعني أن للطبيب صلاحية عدم الموافقة على استبدال الدواء من قِبل الصيدلي بمجرد كتابته لعبارة (N.S.) إلى جانب الدواء الموجود على الوصفة الطبية، وهذا ما يشير إلى أن السلطة السياسية غير جادّة في حجة السماح لتداول الدواء الجنيسي من أجل تخفيض فاتورة الدواء، لأن الأطباء هكذا أصبحوا قادرين على الالتفاف على القانون والحفاظ على صفقاتهم مع شركات الأدوية.
وفي سياق متصل، يذكّر ملك أيضاً بقانون إنشاء “المكتب الوطني للدواء”، الصادر في 13 أيار 1972. وبعيد الحرب الأهلية، تم تشكيل مجلس إدارة للمكتب الوطني للدواء في منتصف التسعينيات من أجل استيراد الأدوية للجهات الضامنة (الضمان الاجتماعي، تعاونية موظفي الدولة واللواء الطبي في الجيش والأمن الداخلي والأمن العام)، وعُيّن الدكتور قاسم حماده مديراً للمكتب، ورصد له 5 مليارات ليرة لبنانية. صُرفت الأموال وطار المكتب ولم يستورد أي شيء، علماً أن الدراسات كانت تؤكد أن المكتب الوطني يمكن أن يوفر نسبة 30 إلى 50 في المئة من فاتورة الدواء، وهذا ما ينعكس توفيراً على المضمونين والجهات الضامنة.
ويشدد مَلَك على أن الحل لأزمة الدواء، إذا أرادوا تخفيض فاتورة الأدوية والمحافظة على جودتها، هو في العودة إلى استيراد الأدوية من قِبل صندوق الضمان وإنشاء مختبر مركزي، لأن صندوق الضمان كمرفق عام لا يبغي الربح يمكنه أن يغطي كل متطلبات الرعاية الصحية.
كلمة أخيرة ختم بها ملك المقابلة وكأنه يصدر حكمه على نظام ما بعد الحرب. فقد ذكر أنه حتى خلال الحرب الأهلية، كانت معاملات استرجاع المستهلكين لبدل تكلفة الدواء تتم في حوالي ربع ساعة، مقارنة باليوم، حيث أصبحت تمتد لأشهر. كان طموح إدارة الصندوق أن يقبض المضمون ثمن الدواء، في وقت أقصر من الوقت الذي يحتاج اليه لقبض قيمة شيك من المصرف.
* صحافي, من فريق عمل المفكرة القانونية
نشر هذا المقال في العدد | 26 |آذار /مارس/ 2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.