مخيّمات في الجامعات الأميركية لمقاطعة إسرائيل (1): ذاكرة النضالات الطالبية الفاعلة


2024-06-27    |   

مخيّمات في الجامعات الأميركية لمقاطعة إسرائيل (1): ذاكرة النضالات الطالبية الفاعلة
من باحة جامعة كولومبيا (موقع ويكيميديا)

نحن بحاجة إلى القيام بشيء يزعج ذلك الرئيس الهادئ والمبتسم والقاتل في البيت الأبيض… سيقولون إننا نعكّر السلام، لكن لا يوجد سلام. ما يزعجهم حقًا هو أنّنا نعكّر الحرب.

– المؤرّخ الأميركي هوورد زين في خطابه ضد الحرب على فيتنام في بوسطن في تاريخ 5 /5 /1971

في 17 نيسان، نصب طلاب جامعة كولومبيا-نيويورك خيماً في حرم الجامعة  في اعتصام اتّخذ طابع المحاضرات وعرض الأفلام التثقيفيّة teach-in and film screening وأنشطة طبخ ورقص وأغاني وتبادل ثقافي بين طلّاب فلسطينيين ويهود ومن عموم الانتماءات الثقافيّة في المدينة، للقول إنّ اعتصامهم عابر للثقافات ويتوجّه للوعي العام لفترة طويلة we will not stop we will not rest، وللقول إنّ تصعيدهم أتى جرّاء تجاهل مطلبهم في الكشف عن استثمارات الجامعة في إسرائيل وحجبها Disclose, divest.

في اليوم التالي، استدعت رئيسة الجامعة نعمت شفيق شرطة نيويورك لفضّ الاعتصام بالقوّة، ما أدّى إلى تأجيجه وامتداده إلى مئات الجامعات في الولايات المتّحدة وحول العالم. ازداد عنف الشرطة واعتقل آلاف الطلاب، كما اعتقل أساتذة حاموا عن طلّابهم وسحل بعضهم أرضًا من دون مراعاة لسنّهم وموقعهم التربوي. واستخدم الرصاص المطاطي ضدّ الطلّاب. كما تمنّعت الشرطة عن دورها في حماية الاعتصامات من غزوات مناصري إسرائيل. وألصق مفهوم “معاداة السامية” بشعارات تحرير فلسطين ووقف الإبادة. بينما، فنّد ناشطو الإعلام البديل منهج بثّ الشائعات واختراق الاعتصامات من صهاينة يلعبون دور الضحيّة على نوافذ الإعلام المهيمن.    

بقي الجسم الطالبي متماسكًا، وامتدّ إلى أكثر من 100 جامعة وأكثر من 30 ولاية، فيما يرتقب العالم اليوم مآلات حراكهم الأمميّ. ومن هنا أهميّة استيضاح سياقه المكاني (ولاية نيويورك- جامعة كولومبيا) والزماني (فترة تصاعد القمع الأكاديمي، وتواتر أخبار العدوان على غزّة، وتآكل السرديّة الصهيونية)، ومعناهما التاريخي والسياسي. فيما نتناول في الجزء الثاني ما أمكن من خطابات ومواقف، على ألسنة الطلّاب والأساتذة، تعبّر عن مضمون الحراك.

نيويورك طليعيّة وذات ميزة تفضيليّة   

لم ينقضِ أسبوع على العدوان على غزّة حتى كانت المجازر المتتالية حصدت ألفي مدني، وهو عدد سيتضاعف مرّات عدّة في الأسابيع اللاحقة. واكب ذلك تصريحات لقادة إسرائيليين تدعو إلى إخلاء المدينة ومن ثمّ القطاع مجاهرين بنيّة الإبادة. وقد بقيت آنذاك مناصرة فلسطين بمثابة “تابو” في الولايات المتحدة بالمقارنة مع تظاهرات حاشدة شهدتها مدن أوروبيّة حيث كان اليسار نشطًا. لكن جرى خرق الجدل بعد مجزرة المستشفى الأهلي في 17 تشرين الأول (والبروباغندا الرديئة للجيش تبريرًا لاستهدافه واقتحامه المستشفى). وقد حرّكت المجزرة مدنًا عريقة مثل مدريد وبرشلونة ودبلن ولندن في تظاهرات غاضبة وحاشدة. كما تحرّكت نيويورك نظرًا لتاريخها في مناصرة قضايا أمميّة ومجتمعيّة، وهي المشهورة بإقامتها أوّل احتفال لعيد العمّال. ونيويورك ذات إرث يساري وليبرالي متجذّر في ذاكرتها، ساهمت فيه الجماعة اليهوديّة (التجمع اليهودي الأكبر عالميًّا)، وتمايز هؤلاء عن يهود شرق وغرب أوروبا في رفض غالبيّتهم الهجرة إلى إسرائيل خلال فترتي الانتداب البريطاني كما من بعدها. وبالنسبة لجزء كبير منهم، بالأخصّ مناهضي الصهيونيّة، يشكّل إرثهم اليساري اليوم تناقضًا مع اتصالهم كجماعة، ثقافيًا وماديًا، بشبكة علاقات ومصالح وطيدة مع دولة الاحتلال.

وتتميّز نيويورك، بأنّها تحوي المقر الرئيسي للأمم المتحدة، والأهم شارع ضيّق في مانهاتن يدعى “وول ستريت” هو مركز التجارة العالميّة. وللدلالة على أثر الحراكات في هذه المدينة، نستذكر ما قام به المخرج مايكل موور عام 2000 (الناشط اليوم ضدّ الحرب على غزّة)، بعد أن نظّم مع فرقة روك تدعى “Rage Against The Machine” حفلة موسيقية وسط “وول ستريت”، أدت إلى إغلاق النظام الرأسمالي لبضع دقائق، وإن لم تتسبب بخسائر. ومن هنا أهميّة حراك “احتلال وول ستريت” في 17 أيلول 2011 عقب انتفاضتي تونس ومصر (امتدّ الحراك حينذاك إلى 82 بلدًا، وشعاره الأبرز “نحن الـ 99%”). وتزداد أهميّة الخرق السياسي في أي ولاية أميركيّة بالأخص منها ذات الارتباطات الأمنيّة الاقتصاديّة مع إسرائيل، فأيّ ولاية توازي في اقتصادها اقتصادات دول كبرى

كما تتقدّم رمزيّة جامعة كولومبيا في نيويورك، خامس أقدم جامعات الولايات المتحدة، مؤسّسة علم الوراثة، وذات أصول مالية قدّرت بأكثر من 18 مليار دولار العام الماضي. فيما تبرز أهميّتها في ربطها حراك اليوم بحراكات انطلقت منها تدعو لوقف الحرب على فيتنام في الستينيّات، وحراك مقاطعة أبارثايزد جنوب أفريقيا في الثمانينيّات، وحراك وقف الحرب على العراق في بدايات الألفيّة الثانيّة، وحراكات بيئيّة واجتماعيّة مختلفة. علاوةً على أنّها الجامعة التي خرجّت عددًا من رؤساء الولايات المتحدة، ومجمل 29 رئيس دولة حول العالم، وبرز فيها مفكّرون لامعون مناصرون لفلسطين، أبرزهم إدوارد سعيد ورشيد خالدي وجوزيف مسعد وجورج صليبا. لذا حين نتحدّث عن تمدّد الحراك إلى جامعات عريقة، فلا نتحدث فحسب عن تاريخها التربوي، بل عن دورها الاقتصادي والمجتمعي وتأثيرها في السياسة الأميركية الداخليّة والخارجيّة، بل في السياسة الدوليّة.

جامعة كولومبيا – من صفحة طلاب كولومبيا للعدالة في فلسطين على فيسبوك

نيويورك قبل 17 نيسان في مناصرة غزّة: الطلّاب مكوّن أساسي

في 13 تشرين الأوّل الماضي، شهدت نيويورك اعتصامًا ضدّ الإبادة في غزّة أمام منزل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر. وقد أكمل المتظاهرون مسارهم بعدها، ليقيموا اعتصاما sit in على جسر بروكلين معطّلين السير بعض الوقت. وقد اعتقل العشرات منهم بما فيهم مسؤولَين منتخبَين وحاخامات وأحفاد لناجين من المحرقة. وتغيّر نبض الشارع بعد مجزرة الأهلي عما قبله. بخاصّة بعد حراك ثلاثي قوامه جماعات يهود-ضد-الصهيونيّة، ونوّاب “الزمرة” في الكونغرس وفي طليعتهم الفلسطينيّة رشيدة طليب، إلى جانب مفكرين يهود أبرزهم نعومي كلاين. كان لتنسيق الثلاثي الأثر البالغ في كسر تابو مناهضة الصهيونيّة (راجع المقال حول الزمرة).

وقد نظّم هؤلاء إلى جانب جماعات مناصرة فلسطين سلسلة اعتصامات، بدءاً من احتلالهم إحدى باحات الكونغرس، “الكابيتول”، على طريقة SIT-IN، معلنين بذلك حركة عصيان مدني، علماً أن التاريخ الأميركي ينطوي على محطات عدّة من “العصيان المدني” المؤسسة لحقوق العمال ومناهضة العنصريّة ومناهضة الحرب، وهي الإرث اليساري اليبرالي الذي تحتفي به أميركا في نشيدها الوطني بكونها “أرض الأحرار” The land of the free. أمّا حركة العصيان المدني اليوم لوقف الحرب على غزّة، فقد شهدت تنامياً محدوداً في أوساط النوّاب الديمقراطيين في الكونغرس، إنما اتّسعت أكثر في الشارع مع تنامي أعداد تظاهرات، لم تقتصر على مشاركة عرب أو يهود-ضد-الصهيونية، بل تحوّلت إلى تظاهرات شعبيّة مليونيّة عمّت كل الولايات (لعلّ أبرزها تظاهرة واشنطن في تشرين الثاني).

إزاء تجاهل أصوات هؤلاء، بدأ تعكير الحياة اليوميّة في الساحات والإدارات العامة. فكنا نرى  مثلاً “الصوت اليهودي للسلام” تحتّل أحد الأماكن (جسر حيوي، محطة مترو حيويّة، باحة في الكونغرس، باحة من باحات البيت الأبيض، باحة بيت لمسؤول متواطئ في الإبادة، الخ..) فتجري اعتقالات بالجملة لوأد اعتصاماتهم. ثمّ يعاودون الكرّة بعد إخلاء سبيلهم، ثمّ تقتحم جماعات أخرى من مناصري الفلسطينيين ندوة أو اجتماعاً لنواب أو مسؤولين في الحكومة، فرأيناهم يهتفون مثلاً في وجه رئيس الجمهورية جوزيف بايدن مقاطعين خطاباً إنتخابياً له، أو في وجه وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن أو في وجه سيناتور نيويورك، أو سواهم من مسؤولين اعتبروا متواطئين مع الإبادة. وتكررت مؤخراً مشاهد الDie in -أبرزها عند باحة استقبال المسؤولين في البيت الأبيض وفي باحة الكونغرس- لإعادة تصوير مشاهد المجازر في غزّة. كما عمد معتصمون إلى رشّ مداخل إدارات عامة باللون الأحمر تجسيداً للون الدماء. وما كانت تهدأ الأمور حتّى نشهد تصعيداً في مكان آخر، الخ..  وكان ذلك في موازاة عمل مفكرين وناشطي الإعلام البديل على تفكيك سرديّة “إسرائيل الضحيّة” وفضح جرائمها وتفنيد يوميّات بروباغندا الاحتلال.

وكان طلاّب الجامعات من صلب كل هذه التحركات. وبدأت اعتصاماتهم داخل الجامعات في ولايات مختلفة منذ الأسابيع الأولى، وواجهت تضييقاً منذ البداية. حتّى أن مجلس الشيوخ الأمريكي في بدايات العدوان، وصف المجموعات الطالبية الفلسطينية في عدد من الجامعات بأنها بغيضة. وفي وقت مبكر، تمّ تخيير إدارات الجامعات بين أموال داعمي إسرائيل وحقّ الطلاب في التعبير. ولعلّ طليعة التظاهرات البارزة، كانت التظاهرة الحاشدة بدعوة من طلاب هارفرد، والتي قامت رغم تعرض الطلّاب للضغط من مؤيدي الصهيونية داخل الجامعة. وباكراً أيضاً، بدأت موجة اعتقالات لعشرات الطلاب وفي جامعات عدّة، في طليعتها جامعة برانديز، وجامعة براون، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. أمّا في كولومبيا فكان ملفتاً على سبيل المثال أواخر تشرين الثاني، مشهد طلاّب الجامعة وهم يهتفون بوجه المرشحة السابقة للرئاسة هيلاري كلينتون (هي أستاذة محاضرة في الجامعة) “عار عليك!”، ويتهمونها بالتواطؤ في “الإبادة” وقد رفعوا يافطة تقول أنّ “يد كولومبيا ملطّخة بالدماء”.

هذا ما دعا زعماء الأكثريّة في الكونغرس –وبعد عملهم على الطعن بشرعيّة نوّاب “الزمرة”– للعمل على الطّعن بحراك الطلّاب، ومحاكمة أيّ إدارة جامعيّة لا تقمع الطلّاب الذين يبدون تعاطفاً مع الفلسطينيين. وصولاً للأشهر الأخيرة قبل 17 نيسان، حين تصاعد ترهيب الطلّاب على نحو مبالغ فيه. وهذا ما نفهمه من بيان نشره إئتلاف SJP في جامعة كولومبيا في 14/3/2024، تحدّث البيان عن دعوة بروفيسور في الجامعة أحد الطلاب لإزالة ” إيموجي” علم فلسطين من جانب اسمه -ظهر في اجتماعات zoom-  على اعتبار أنه رمز “جيوبوليتيكي” ويسبب تروما!  كما حوصر الطلّاب بتعابير من قبيل “safe space” والحماية من “trauma response”. وهذا ما استحضره بشأنه موقع Intercept ضمن مجموعة أمثلة في تقرير مطوّل في 28 آذار، متحدثاً عن سرديّة يجري تسويقها تساوي ما بين “شعور الانزعاج من المعلومة” و”شعور عدم الأمان جسدياً”.

وفي موازاة الحراك الطالبي، استمرّ مشهد احتلالات القاعات، ولم تقتصر على الإدارات الرسميّة بل شملت الشركات الداعمة لإسرائيل. وآخر الأمثلة في 16 نيسان، احتلال موظفين في غوغل لمكتب أحد مدراء الشركة (sit in)، رفضاً لما توفّره الشركة للجيش الإسرائيلي من مشاريع تقنية. وفي اليوم نفسه، أشار أحد المقالات إلى تصدّر الطلاب واجهة الحراكات، وإلى مواجهة المتظاهرين منهم للاعتقالات والاتهامات الجنائية أو الإيقاف والطرد، ووقعت اعتداءات على عدد من الطلاّب لمجرّد ارتدائِهم الكوفيّة الفلسطينيّة أو تردادهم لشعار “حرروا فلسطين”. ونقل المقال عن طلّاب في جامعة كولومبيا (قبل التخييم بيوم)، شعورهم بأنه جرى تقديمهم ك”كبش فداء” من قبل إدارة الجامعة.

وكان أحد الحقوقيين الفلسطينيين أطلع مجلة “Teen Vogue” عن ورود أكثر من 720 تقرير لحالات قمع الطلاب وتتطرّق إلى بعضها. كما جرى منع إقامة العديد الندوات الفكريّة، وتجدر الإشارة إلى حصول الأمر نفسه في دول أوروبا، لعلّ آخرها وأبرزها قبل 17 نيسان منع كل من الوزير اليوناني السابق يانس فاروفاكس والطبيب الفلسطيني غسّان أبو ستا، من حضور ندوة في ألمانيا، وصولاً حتّى إلى حظر استخدامهم لتطبيقات التواصل لإقامة الندوة.

التظاهرة على جسر بروكلين أواخر تشرين الاول 2023

رمزيّات 17 نيسان… وتهوّر “مينوش”

في 17 نيسان، أصدر الكونغرس قرارًا مفاده أن شعار “من النهر إلى البحر فلسطين ستتحرر” هو معاد للسامية ويجب إدانته. وتزامن ذلك مع ذكرى يوم السجين الفلسطيني، والتضامن مع أكثر من 9500 أسير فلسطيني في سجون الإحتلال. وتزامن أيضاً مع ثالث أيّام عيد الفصح اليهودي الذي يستمر 7 إلى 8 أيّام (احتفى فيه اليهود المناصرون لفلسطين خلال الحراك مع باقي الطلّاب داحضين سرديّة معاداة السامية). وكان ذلك على بعد أقلّ من أسبوع من إقرار حزمة المساعدات المالية الضخمة لإسرائيل (14 مليار دولار). ويتطابق التاريخ مع تاريخ 17 نيسان 1965، الذي شهد أكبر احتجاج مناهض للحرب في واشنطن العاصمة حتى تاريخه. وقد تزامن مخيّم الطلاب في هذا اليوم أيضاً، مع النقل المباشر لجلسة الإستماع إلى شفيق في الكونغرس، بخصوص تعاطيها مع ما اعتبرته النائبة الجمهورية إليز ستيفانيك من نيويورك، تزايداً في الأنشطة المعادية للسامية في الجامعة. هذا وما زال حاضراً في ذهن إدارة كولومبيا، الجلسة المماثلة في كانون الأول، التي أسفرت عن استقالة عن كل من رئيسة جامعة هارفارد ورئيسة جامعة بنسلفانيا.

لكن بصرف النظر عن رمزيّة وتأثير بعض تلك السياقات، فقد أوضحت إحدى ناشطات تحالف “حجب الاستثمار في الأبارتايد- جامعة كولومبيا”  CUAD لمجلة the Nation، أنّ الاستماع إلى شفيق لم يكن سبب اختيار توقيت التخييم (encampment)، وأنّ التصعيد الطالبي كان سيحصل نظرًا لغياب أي تغيّر عملاني في موقف الجامعة منذ بداية انتظام الطلّاب في وجه “الإبادة” في غزّة. إلى جانب ذلك، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي منذ 21 نيسان، بما تكشّف من مقابر جماعيّة في خان يونس، في مجمّع ناصر الطبّي، كاشفًا عن جثث مقطوعة وأخرى مسروقة الأعضاء، ودلائل على إعدامات ميدانيّة قام بها الاحتلال خلال اقتحامه المجمّع في شباط الماضي. وكان الحراك يتفاعل مع كل أنباء جديدة تأتي من غزّة. وسعى الطلّاب في مختلف الاعتصامات إلى توضيح أن موضوعهم الأساسي هو ما يجري في غزّة، وأنهم لا يريدون أخذ الجدل إلى مواضيع أخرى.

في التفاصيل، قام مئات من طلاب جامعة كولومبيا بنصب خيم في إحدى باحات الجامعة، وأطلق عليها تسمية “مخيم التضامن مع غزة” وكذلك تسمية “منطقة محرّرة”. كان تنظيم الحراكات الجامعيّة بدأ قبل أشهر من قبل CUAD الذي يضم 116 مجموعة، لعلّ أبرزها وأكثرها نشاطاً “طلاب للعدالة في فلسطين” SJP ، و”الصوت اليهودي للسلام” JVP. ويعرّف التحالف عن نفسه على أنّه “استمرار لحراك مناهضة الحرب على فيتنام وحراك حجب الاستثمارات عن الأبارتايد في جنوب إفريقيا”. وتوضح صفحة التحالف أكثر شعار (Disclose, divest)، فللحراك 5 مطالب يسعى إلى تحقيقها، في طليعتها حجب الاستثمار مع أي شركة أو مؤسسة تستفيد من الأبارتايد والإحتلال والإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين. فالمقاطعة للأكاديميا ومراكز الدراسات والأبحاث الإسرائيليّة. والثالث، التوقّف عن سرقة الأراضي سواء في هارلم أو لينابيهوكينغ أو فلسطين وتقديم التعويضات ودعم الإسكان لسكان هارلم ذوي الدخل المنخفض. أمّا الرابع، فإنهاء قمع الطلاب الفلسطينيين وحلفائهم بما فيه من إجراءات تأديبية جامعية، والكشف عن جميع العلاقات مع شرطة نيويورك وقطعها. أمّا المطلب الأخير فإصدار بيان يدعو لوقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة ويدين الإبادة ويدعو الحكومة لفعل ذلك.

ظهيرة ذلك اليوم، كانت شهادة لرئيسة الجامعة نعمت “مينوش” شفيق أمام لجنة التعليم في الكونغرس برئاسة فيرجينيا فوكس. وجّهت فوكس تهماً لجامعات أميركا المرموقة وتحديداً لجامعة كولومبيا ب “معاداة السامية”، وقالت أنّ “بعض أسوأ حالات الاعتداءات والمضايقات والتخريب المعادية للسامية حدثت في الحرم الجامعي في جامعة كولومبيا”، وأردفت أنّه “نظرًا للطبيعة الخطيرة والمتفشية لهذه الحالات، وفشل إدارة جامعة كولومبيا في فرض سياساتها الخاصة لحماية الطلاب اليهود، يجب على اللجنة الاستماع إلى قيادة جامعة كولومبيا شخصيًا لمعرفة كيفية تعاملها مع معاداة السامية في حرمها الجامعي”، وتابعت أن الجامعة أصبحت مرتعاً لمن يدعمون الإرهاب والعنف ضد اليهود. ودارت معظم التهم الموجهة عملياً حول معاداة اسرائيل، والتي لم تميّز اللجنة ولا الشهود المستمع إليهم (بما فيهم شفيق)، بينها وبين معاداة اليهود. لذا كانت الجلسة أقرب لأن تكون مشهدا تمثيليا مفبركا لترويع الناشطين. وقد استمرت أكثر من ثلاث ساعات ونقلتها مختلف وسائل التواصل.

خضعت شفيق للخلط المفاهيمي رغم معرفتها أنّ الطلاب اليهود المناهضين للصهيونية هم مكوّن أساسي في الحراك. كما أكّدت خلال استجوابها على وجود أفراد بين الطلاب الناشطين عبروا عن معاداتهم لليهوديّة على أنها أمور تعرفها العامة (إشارة إلى حوادث رسّخها “ماتراكاج” الإعلام المهيمن). ولجأت بعدها إلى تعميم التهمة على كل المتظاهرين بعد إلحاح النائبة المستجوبة. بل سلمّت بضرورة طرد أساتذة لمجرّد تأويل كلامهم على أنه “معاد للسامية”. وبدا أنّ كل ما قامت به شفيق وزملاؤها المستمع إليهم كشهود من إدارة الجامعة، لم يشفع في ردّ التهم عن كولومبيا في كونها أصبحت مرتعاً ل “معادي الساميّة”. على أنّ أي تنازل لن يرضي موجّهي التهم.

في اليوم التالي، اتّصلت شفيق بقسم شرطة نيويورك لفض الاعتصام في الجامعة. وأدى ذلك إلى اعتقال أكثر من 100 طالب في اليوم الأوّل وحده. وكانت المرة الأولى التي تسمح فيها كولومبيا للشرطة بقمع الاحتجاجات في الحرم الجامعي منذ تظاهرات عام 1968 ضد حرب فيتنام. وبحلول ليلة 18 نيسان اختفت الخيم، لكن الطلّاب عادوا ليحتلّوا حديقة الحرم الجامعي وأقاموا حفلات رقص وقضوا نهارهم متسلّحين بوجبات “بيتزا” جرى التبرع لهم بها. وامتدّ الحراك سريعاً إلى أكثر من 40 جامعة في الولايات المتحدة وإلى جامعات غربيّة عدّة. وتجاوز عدد المعتقلين حتّى أوّل أيّار الألف على امتداد جامعات الولايات المتحدة، كما تمّ طرد العديد من الطلّاب وجرى تهديد آخرين بالمثل. ومن الإجراءات الانتقاميّة البارزة، طرد جامعة كولومبيا ابنة النائبة الهان عمر، وهي إلى جانب النائبة الفلسطينيّة طليب، أشدّ المناصرين للفلسطينيين ضد العدوان.

عيد الفصح في مخيم التضامن في غزة التابع لجامعة كاليفورنيا في بيركلي

ذاكرة حراك مناهضة الحرب حاضرة بقوة

وعن الذاكرة الجمعيّة، تجدر الإشارة إلى فترة القمع في الولايات المتحدة في الأربعينيّات والخمسينيات، التي اصطلح على تسميتها بالماكارثيّة McCarthyism، وهي سلوك السلطة القمعي تجاه أي صوت يساري تحت شعار معاداة الشيوعيّة (كان الأمر مماثلاً في لبنان وعدد من البلدان منعت ترخيص الأحزاب اليساريّة ولاحقت أفرادها وقمعت التظاهرات العمّاليّة والطالبيّة). وخلال تلك الفترة، وضعت الجامعات العامة في كاليفورنيا ضوابط تحدّ من الأنشطة السياسية للطلاب. وفي جامعة كاليفورنيا- بيركلي، على سبيل المثال، منعت المجموعات الطالبية المشاركة في أنشطة سياسية من الاقتراب من الحرم الجامعي. بدأت اعتصامات Sit In اعتقل إثرها نحو 800 طالب، لكن صمود الطلّاب ضغط على الجامعة لإلغاء سياساتها القمعيّة. ودمغ هذا الحراك الذاكرة الشعبيّة فأصبح سكّان المدينة يحتفون بالتعدديّة ومساحة الحريات الأكاديميّة لديهم. ما يشير إليه الموقع الرسمي للجامعة اليوم بأنّها “موطن حركة حرية التعبير”. وللدلالة على رمزيّته، يستعيد اليوم الكوميدي اللبناني الفلسطيني سامي عبيد كيف خلقت جامعة بركلي مفهوم “المساحة الآمنة” في ظل حراك “حرية التعبير” عام 1968، وكان القصد منه إيجاد مكان حيث يمكنك قول أي شيء وتكون محمياً قانونياً. في إشارة منه إلى مدى التلاعب في هذا المفهوم اليوم.

 أمّا التاريخ الأطول والأبرز في تأطير الحراك الطالبي، فيرتبط بتطوّر مراحل الحرب على فيتنام، التي امتدّت منذ هزيمة الاستعمار الفرنسي عام 1954 حتّى سقوط سايغون في 30 نيسان 1975. يمكن إعادة بدء الاحتجاجات على الحرب مع مجموعات قليلة العدد من نشطاء سلام ونشطاء يساريين في بعض الجامعات أقاموا تظاهرات عام 1963، في حين كان الجزء الأكبر من الطلّاب يرتضي بسياسة الحرب. واشتهر الحراك أكثر عام 1965 على مستوى وطني، بالتزامن مع غارات القصف الشديدة لفيتنام الشمالية. واجتذبت المسيرات المناهضة للحرب شيئاً قشيئاً قاعدة دعم واسعة. واتّسع حراك مناهضة الحرب عام 1967، بعد إشهار مارتن لوثر كينغ تأييده لهذا الحراك، في خطاب بعنوان “ما وراء فيتنام: وقت كسْر الصَّمْت”، انتقد فيه الحرب والجرائم في فيتنام، وقال أنّ الحرب على فيتنام تعد تجديفاً إزاء كل القيم الأميركيّة. وقد اغتيل كينغ في العام التالي.

وكان بلغ الحراك ذروته في أوائل عام 1968 بعد أن أثبت هجوم تيت الناجح[1] الذي شنته القوات الفيتنامية الشمالية أنّ لا أفق لهذه الحرب. وقد شهد العام نفسه تظاهرات طالبية حول العالم، من فرنسا التي شهدت أكبر عصيان مدني وحراك طالبي بمشاركة نحو 11 مليون عامل، وكادت أن تطيح الحكومة، إلى إيرلندا الشماليّة والمكسيك والبرازيل وتشيكيا وعدد كبير من الدول. وكانت دوافع هذه الحراكات اقتصاديّة وعمّالية مع ربطها بمطالب مناهضة الحرب حيناً، أو مواجهة حيناً آخر لقمع الحريّات في أنظمة أكثر دكتاتوريّة (شهد لبنان تظاهرات طالبيّة مماثلة حاشدة عام 1970).

عموماً رسّخ حراك الستينيّات شرعيّةً مناهضة الحروب الإمبرياليّة في الدول الغربيّة. ويدرس طلّاب أميركا اليوم تاريخ حراك مناهضة الحرب في كتبهم المدرسيّة، وتجد مثلاً على قناة “history” الشهيرة ملخصاً عن مقاومة سكّان حي هارلم لسياسات جامعة كولومبيا العنصريّة ضدّ السود، ويبرز مارتن لوثر كينغ  كرمز وطني وبطل قومي، فيما يبرز دور مؤرخين كبار مثل هاوورد زين في إعادة قراءة التاريخ من زاوية مجتمعيّة ناقدة لسرديّات السلطة (يقول المفكر نعوم تشومسكي أن هاوورد زين “غيّر بدرجة عاليّة الوعي الأميركي على نحو بنّاء. حقاً، لا أظنّ أنّ هناك من أحد يقارن به في هذا الصدد”). ويبرز دور السينما والأغاني الشعبيّة في مناهضة سرديّات النظام حول حرب فيتنام، حيث أصبحت أفلاماً دراميّة حول عبثيّة الحرب علامة دامغة في تاريخ السينما (مثل دكتور سترانجلوف، وبلاتون، وفورست غامب، وفول ميتل جاكيت، الخ).

وكان لموسيقى الكونتري والروك الدور الأبرز منذ أواسط الخمسينيّات حتى اليوم، في مقاومة سرديّات الحروب، نتحدّث عن فرق موسيقية مثل Buffalo Springfield، وأبرز أعضائها نيل يونغ مؤلّف أغنيتي “for what it worth” (أبرز الأغاني الشعبيّة المناهضة للحرب 1967)، و”Ohio” التي تتحدث عن 4 طلّاب قتلتهم الشرطة عام 1970 في مدينة كنت Kent في ولاية أوهايو خلال تظاهرات ضد الحرب. ويونغ هو من الملتزمين في حركة المقاطعة BDS. ونتحدّث أيضاً عن البيتلز، وأبرز أعضائها جون لينون الذي كانت لديه علاقة وطيدة بسكّان نيويورك وبنى ثقافة تدعو للحب والحريّة بدلاً من الحرب، وجزء كبير من أغانيه تدعو إلى هذا الأمر. ومن أبرز أيقونات الغناء الأميركي المناهض للحرب أيضاً، بوب ديلان، صاحب أغنية “The Times They Are A-Changin” (1964) وأغنية ” Knocking on Heaven’s Door” (1973). ويوجد مروحة واسعة من فنانين كانت حفلاتهم أشبه بتظاهرات داعية للسلام. نشير هنا بشكل خاص إلى إحدى أغنيات جون لينون عام 1969 والتي عددت أبرز دعاة وقف الحرب، تقول

 “John and Yoko, Timmy Leary, Rosemary, Tommy Smothers, Bobby Dylan, Tommy Cooper, Derek Taylor, Norman Mailer, Alan Ginsberg, Hare Krishna, Hare, Hare Krishna, All we are saying is give peace a chance”.

ومن المفيد الإشارة أنه مؤخراً عقب مخيّم كولومبيا واحتلال قاعات في الجامعة، استذكرت مقالات عدّة حادثة قتل الطلاب الأربعة في أوهايو. على أنّ هذه الحادثة لم تكن حادثة القتل الوحيدة للطلّاب المتظاهرين، وكان تلاها ببضعة أيّام إطلاق الشرطة النار على في جامعة مسيسيبي (1970) على طلّاب سود مناهضين للعنصريّة، وأردت الشرطة اثنين منهم. وكان وثّق المؤرّخ الراحل هوورد زين التداعيات التاريخيّة لتلك الأحداث. قال: “شهد ربيع عام 1970 أول إضراب طالبيّ عامّ في تاريخ الولايات المتحدة، حيث قام طلّاب من أكثر من أربعمائة كلية وجامعة بإلغاء الدراسة احتجاجًا على غزو كمبوديا، وقضية ولاية كنت، ومقتل اثنين من الطلاب السود في جاكسون الكلية الحكومية في ولاية ميسيسيبي، واستمرار الحرب”.

وفي أحد خطبه الشهيرة لمناهضة حرب فيتنام، يصف المؤرّخ زين معنى العصيان المدني السلمي، يوضح ضرورة أن يدرك المنزعجون من العصيان المدني أهميّة التناسب. ف “الأشخاص الذين يرتكبون العصيان المدني ينخرطون في أصغر الاضطرابات من أجل الاحتجاج على القتل الجماعي. هؤلاء الناس ينتهكون أتفه القوانين، قوانين التجاوزات وقوانين المرور، من أجل الاحتجاج على انتهاك الحكومة لأقدس القوانين، “لا تقتل”. ويؤكّد على أن المعتصمين لا يؤذون أحدًا على عكس ما تفعله الحكومة. ويردف: “الآن يقولون إننا نزعج حتى أصدقاءنا عندما نرتكب عصيانًا مدنيًا، وهذا صحيح. لكن تاريخ العصيان المدني في هذا البلد وفي أجزاء أخرى من العالم يظهر أن الناس قد ينفرون من العصيان المدني للوهلة الأولى”. ويؤكّد زين أنه في نهاية المطاف، تظهر أحقيّة مطالب المتظاهرين ضدّ الحرب وينضمّ إليهم الناس بطريقتهم الخاصة، و”لهذا السبب يجب علينا الاستمرار”.

ويذكر أنّه إلى جانب التاريخ الزاخم للحراك الطالبي المناهض لحرب فييتنام، قاد الطلّاب احتجاجات عدّة بالغة الأهميّة. ونكتفي بالإشارة إلى حراك مقاطعة الأبارتايد في الثمانينيات الذي أسهم في إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وكانت حراكات بيئيّة عدّة وهامة شهدتها الجامعات. أمّا الاحتجاجات الكبرى ضد حرب العراق (2003)، فقد ساهمت في نقد سرديّة السلطة حول تلك الحرب وجدواها، وأعقبها ظهور نوع جديد من الصحافة الإستقصائيّة على مواقع الإنترنت أكثر جرأة في فضح جرائم الحرب. لعلّ أبرزها موقع ويكيليكس الذي سرّب وثائق حول العديد من الانتهاكات الإنسانيّة. وكان لبعض الأفلام الدراميّة دورها أيضًا، كما لبعض الأفلام الوثائقيّة حول الحرب، قد يكون أبرزها فيلم “Fahrenheit 9/11” للمخرج مايكل مور، الأشبه بالبحث الاستقصائي حول أسباب الحرب السياسيّة والإقتصاديّة وهو الفيلم الناقد لبروباغندا الحرب. ويحضر محمول هذه الذاكرة المتنوّعة بقوة اليوم، باستعادة الطلّاب لإرث تكتيكات الحراكات الاجتماعيّة حينًا، بخاصة إرث مناهضة الأبارتايد، وبالنقد الإعلامي لبروباغندا الحرب حينًا آخر، عبر تفنيد وقائعها ومسوّغاتها.

اعتقال المؤرخ هوورد زين في تظاهرة مناهضة للحرب خارج مبنى جون كنيدي الفيدرالي في بوسطن – أيار 1971

العنف المفرط ضدّ المتظاهرين… والتغطية إعلاميًا عليه

من أمثلة ركون الطلّاب إلى تاريخ الحراكات: حين أمهلت جامعة كولومبيا الطلّاب حتى تاريخ 29 نيسان لفضّ اعتصامهم، قام الطلاب في اليوم نفسه باحتلال مبنى هاملتون هول في الجامعة وحوّلوا اسمه إلى “هند هول” (تخليداً للنهاية التراجيديّة للطفلة هند رجب)، وذلك في استعادة منهم لمشهد اعتصامات عام 1968 في المكان نفسه. ولجأت الجامعة مقابل ذلك إلى طرد العديد من الطلاب، بمن فيهم المفوضين منهم للتفاوض مع الجامعة، ومنعت تخرّج طلاب آخرين. كما لجأت الشرطة إلى اعتقال عدد من الطلاب، وكان زملائهم يقيمون اعتصامات أمام المخافر مطالبين بالإفراج عنهم. وكل ما فض اعتصام تحت تهديد اعتقال كل من يبقى في باحة ما، نرى الطلاب يعودون لإقامة مخيم آخر. وقد تكرّر الأمر في عدد من الجامعات.

واختلف العنف والقمع للطلاب من ولاية وجامعة إلى أخرى. ففي جامعة أموري على سبيل المثال استخدمت الشرطة الرصاص المطاطي والصاعق الكهربائي ضد المتظاهرين. في ولاية أوهايو، وفقًا لموقع The Lantern، قام الجنود الموجودون على سطح قريب بتسليح أنفسهم بأسلحة نارية بعيدة المدى. وتمثّل نوع آخر من العنف في جامعات عدّة بتساهل الشرطة مع اعتداءات مناصرين لإسرائيل، وعدم حماية المعتصمين من هجماتهم المتكرّرة. وجرت محاولة ترهيب الطلّاب من خلال طائرات مروحيّة تحلّق فوق رؤوسهم، وكأنّ هؤلاء الطلّاب يشكلون خطرا قوميا. بالمقابل، دعا أحد أعضاء مجلس الشيوخ إلى ترحيل الطلاب من أميركا. (تفصيل أكثر على ألسنة الطلاب حول تمايز حراكات الجامعات في الجزء الثاني من هذه المقالة).

احتلال مبنى هاملتون هول في جامعة كولومبيا وتحويل إسمه إلى هند هول

ومن أساليب العنف غير المباشر، بعد توسّع الاعتقالات في الأيام الأولى، عملية ال doxing التي قامتْ بها اللوبيات الصهيونية. والتي يجري من خلالها تحديد هويّات المعتصم، سواء لحثّ الجامعات على طردهم، أو لحثّ الشرطة على اعتقالهم، أو تهديد مستقبلهم الوظيفي. وعليه، كنا نرى الطلّاب يرتدون كمامات أو أوشحة لحجب هويّاتهم. وتمّ منع من هم من غير الطلاب دخول الجامعات، فيما جرى طرد العديد من الطلّاب فأصبحوا بذلك غير قادرين على الانضمام إلى زملائهم في الاعتصامات. وأدّت موجة الاعتقالات في كولومبيا وحدها إلى نحو 300 اعتقال. ومع انضمام جامعات أخرى وصلت الاعتقالات  إلى أكثر من 1200 اعتقال ولا زلنا في الأوّل من أيّار، وقد أدى تعنيف الطلّاب إلى توسّع رقعة الاعتصامات إلى أكثر من 40 جامعة حتى تلك الفترة. 

وشهدنا مشاهد رجال شرطة بثياب مدنية يمزقون خيم الطلاب ويدمرون ممتلكاتهم في اعتداء صريح على الملكيّة الخاصة. ومن المشاهد المستفزّة المتكررة، هجوم الشرطة على نساء كبيرات في السن، وتثبيتهن أرضاً واعتقالهن. وقد جرى تداول مشهد من هذا القبيل من جامعة سانت لويت- واشنطن، مع سيّدة جرى اتهامها بإهانة شرطي. كما جرى اعتقال المرشحة على الرئاسة جيل ستاين لمجرّد تواجدها ومحاولتها التفاوض باسم الطلاب. وشهدنا اعتقال البروفسورة نويل ماكافي رئيسة قسم الفلسفة في جامعة أموري، ونقل فيديو آخر اعتقال بروفسورة أخرى في الجامعة ذاتها كارواين فوهلين، سحلت أرضاً بطريقة وحشيّة، لمجرّد اعتراضها كلاميّاً على اعتقال أحد طلّابها. وبروفسورة أخرى أنا ليز أورليك، كبيرة في السن في Dartmouth College اعتقلت بطريقة وحشيّة، علماً أنها يهوديّة، بل الرئيسة السابقة لقسم الدراسات اليهودية. وتابعنا بروفسور آخر، داني شو، تمّ اعتقاله وطرده. وهذّه عينة فقط مما وجدناه على وسائل التواصل.

وشكّلت التغطية الإعلاميّة في وصم المتظاهرين بالكراهية والعنف، نوعاً آخر من أنواع الترهيب. وعموماً، كنّا في التغطية الإعلامية للحراك أمام مشهديْن: الأوّل يمثّله إعلام “الماين ستريم” من تلفزيونات وصحف، حاول بعضه أن يصف الأمر على أنّه جدل بين حدود حريّة التعبير وخطاب الكراهيّة، فيما تماشى أغلبه مع سرديّة أن كل مناهض للحرب هو معاد للساميّة. أمّا المشهد  الآخر فيمثّله الاعلام البديل بالأخص مواقع مثل (democracy now, grey zone, ME)  ومجموعة بودكاستات (Secular Talk, useful ideot, Owen jones, bad hasbara, The Majority Report…) كانت هذه البودباسكات تفنّد البروباغندا الشرسة في وجه الحراك.

تمّ وصم الطلّاب بأنهم أرهابيون، أو نازيون (في صدى لما وصمهم به رئيس إسرائيل بنيامين نتنياهو). وقد تمّ تصوير كتاب أكاديمي (موجود في الجامعة) يعالج موضوع الإرهاب وجد مع أحد الطلّاب، والادعاء على أنه كتاب يدعو للإرهاب (مماثل لبروبوغندا اسرائيل حول ايجادهم كتاب “كفاحي” في غرف أحد الفلسطيين). وأحد مواضيع “الماتراكاج” للإعلام المهيمن، أن مطالبهم ليست واضحة (والعكس صحيح) أو أنهم يتلقون تمويلاً من جهة سياسية ما (هم تلقو بعض الطعام والعتاد البسيط من الأهالي المناصرين في الولايات)، أو أنهم لا يسمحون لليهود من الاقتراب من التظاهرات، ويدعون إلى قتلهم (الجمعيات اليهودية مثل JVC مكوّن أساسي وكبير وفي طليعة منظّمي الحراك). أو أنهم يستخدمون أدوات حادة، وقد صور شرطيجنزيراً” قال أنّ المعتصمين يستخدمونه، وتبيّن لاحقاً أنها جنازير تبيعها الجامعة لتقييد الدراجات. ودعا عدد من المسؤولين إلى الاستعانة بالحرس الوطني لقمع الطلاب.

ومن مواضيع “الماتركاج” ادّعاء طالبة في جامعة يال مناصرة لإسرائيل بأنّه جرى طعنها بعصا علم فلسطين في عينها، لكونها يهوديّة. لكن أحد بودكاستات الإعلام البديل كشف زيف الإدعاء، حيث تبيّن أـن أحد المتظاهرين لوّح بعلم صغير قربها، وبدأت بالصراخ من دون أن يمسّها. وتبيّن أنّ الطالبة نفسها سبق ونشرت على منصّة “إكس” في كانون الأوّل شكوى، من أنّ طبق الكوسكوس (المغربي) يتمّ عرضه في كافيتيريا الجامعة من دون إضافة تسمية “إسرائيلي” إلى جانبه. وفي إشارة أيضاً إلى هزالة البروباغندا الصهيونيّة، فقد اندسّ مناصر لإسرائيل بين المتظاهرين ليشتم اليهود وتم على الأثر اعتقال “كل المتظاهرين ما عدا هذا الشخص نفسه” كما بيّن بودكاست “Secular Talk“، بعد فضحه هويّة ذلك الشخص، وحذّر المتظاهرين من وجود العديد من مثل هؤلاء يندسون في التظاهرات. 

وأشار بودكاست “the majority report” إلى فبركات مماثلة من قبل جماعات مثل shirion collective ,وقد دعت علانية على موقعها الرسمي على منصة “إكس” لتطوّع مناصرين لإسرائيل للبس الكوفية والاندساس في التظاهرات الداعمة لفلسطين بهدف تخريبها. كما فضح البرنامج بروفيسور مناصرا لإسرائيل في جامعة كولومبيا يلفّق أخباراً حول الطلاب ويأوّل خطاباتهم ويدعوهم ب”النازيين” و”الإرهابيين”. فكان ملفتاً مدى تجاهل الإعلام كل خطاب الكراهية الصادر عن مناصري إسرائيل، من قبيل الدعوات إلى الموت، والبصق على المتظاهرين أو مثلما قالت إحدى المناصرات لاسرائيل للطلّاب “نتمنى لو يتم اغتصابكم“، أو رميهم بأنواع مختلفة من الشتائم –جرى توثيقها بفيديوهات، وكأنما كل هذا ليس خطاب كراهية. ومن الفيديوهات المثيرة للسخرية، مناصرة أخرى لإسرائيل أجرت اتصالاً بالشرطة وادّعت أنّ المتظاهرين يحتجزونها وأظهر الفيديو كذبها الفاضح وهي تتصنّع دور الضحيّة. كما وثّقت العديد من الفيديوهات سواء عنف الشرطة وعنف مناصري إسرائيل ضد المتظاهرين أو ادّعاءاتهم وتلفيقاتهم حول المعتصمين.

ولم تبقَ الحملة الممنهجة على الطلّاب في إطار التحليل والشكوك، إذ كشف تحقيق على موقع MintPress أنّ هناك أموالاّ عدّت وبرامج وشخصيات تمّ توظيفهم للإيقاع بالطلاب وتثبيط حراكهم (ترجم موقع صفر مضمون التحقيق). كما كشف تقرير على واشنطن بوست في 12 أيّار فشل استراتيجيات شفيق في قمع الحراك، مشيراً إلى أن هيلاري كلينتون نفسها ذكّت مستشارها في الحملة الانتخابية الرئاسية السابقة فيليب رينس (وسبق أن كان مستشاراً لدونالد ترامب عام 2016)، كي تستعين فيه شفيق، ما ارتضته الأخيرة على اعتبار أن خبراتها في السياسة الأميركيّة محدودة. وقد درّب هذا المستشار شفيق على ما يجب أن تقوله في إفادتها أمام لجنة الكونغرس، والتي بدت فضائحيّة في مدى إخلالِها بمبادئ استقلاليّة الجامعة كصرح تربوي.    

ولعلّ أغنيةمغني الرابماكل مور، (هو غير المخرج مايكل مور) التي لاقت رواجاً كبيراً على مواقع التواصل، تلخّص في بضعة كلمات مضمون البروباغندا ضد الطلاب، وما يسعى الطلاب الى تحقيقه:

“حاملو الشارات يعملون على حماية الممتلكات والنظام الذي صممته عنصريّة البيض
ولكن الناس أصبحوا في الشوارع.. ويمكنك أن تدفع ل”ميتا”، ولا يمكنك أن تدفع لي
هم السياسيون الذين يخدمون بأي وسيلة “أيباك”، “كوفي”، وجميع الشركات
ألا ترى، كيف يبيعون الخوف على امتداد أرض الأحرار!
غير أنّ هذا الجيل هنا على وشك قطع خيط الصلة (معهم)”  

يتبع: في الجزء الثاني نتحدّث أكثر عن مضمون الحراك كما يراه الأساتذة والطلاب المشاركون فيه.


[1] هجوم تيت،  هو هجوم مفاجئ شنته الفيتكونغ والجيش الشعبي في فيتنام الشمالية خلال الاحتفال برأس السنة القمرية في كانون الثاني 1968، ضد فيتنام الجنوبية الموالية للولايات المتحدة، وتمثّل بسلسلة هجمات منسّقة على أكثر من 100 هدف بما فيها العاصمة سايغون وقواعد عسكرية وبعثات دبلوماسية أميركية. ورغم عدم تحقيقه جميع أهدافه وعدم ايقافه الحرب، إلّا أنّه غيّر مسارها بعد اختراق مواقع حساسة مثل سفارة الولايات المتحدة في سايغون، وبعد حفاظ الشماليين على سيطرتهم في عدة مناطق لفترة طويلة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حركات اجتماعية ، حرية التعبير ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني