للمرة الثانية خلال أقل من سنة، قضاة لبنان يبادلون الاعتداء بالحراك والمواجهة


2014-05-16    |   

للمرة الثانية خلال أقل من سنة، قضاة لبنان يبادلون الاعتداء بالحراك والمواجهة

الحدث استثنائي وبالغ الأهمية وقد بقي الى حد كبير خارج الاهتمام الاعلامي: عدد كبير من القضاة قرروا بالتوافق فيما بينهم التوقف عن العمل في يوم 15-5-2014، من دون أن يكون هنالك جهة رسمية داعية اليه. وقد هدف التوقف عن العمل الى جبه قرار الهيئة العامة للمجلس النيابي بتقصير العطلة القضائية من شهرين الى شهر في جلستها المنعقدة في 14-5-2014. وسبب رفض القرار لا يقتصر على مآله وحسب، انما بالدرجة الأولى على طريقة اتخاذه من أعضاء السلطة التشريعية خلافا لقانون تنظيم القضاء العدلي الذي يوجب تشاورا مسبقا مع أعضاء السلطة القضائية أو هيئاتها الرسمية (المادة 5). وقد اختلف مستوى تجاوب القضاة مع هذه الدعوة وفق الدرجات والمناطق والوظائف: ففيما كان التجاوب شبه تام في محاكم الشمال، بلغت نسبة التعطيل في بيروت، حسب مصادر قضائية، ما يقارب ال50% مع نسب متقاربة في محاكم بعبدا وجديدة ونسب أدنى في المحافظات الأخرى لم نتوصل الى أي معلومات أكيدة بشأنها. أما من حيث الدرجات، وإن كان القضاة الشباب القوة الغالبة في هذا التحرك، فانه شمل أيضا قضاة من ذوي الدرجات والمناصب العالية، ومنهم قضاة من رؤساء محاكم استئناف ومحكمة التمييز. والى ذلك، لم يقتصر التحرك على قضاة الحكم، انما شمل أيضا عددا من قضاة النيابة العامة، جاء في مقدمهم قضاة النيابة العامة المالية وعدد من قضاة التحقيق.

واللافت ان هذا الحراك استمر رغم تدخل رؤساء محاكم الاستئناف في المحافظات وهيئة التفتيش القضائي لثني القضاة عن التوقف عن العمل. وقد بلغت مساعي هيئة التفتيش درجة الايعاز لبعض القضاة عقد جلساتهم تحت طائلة اتخاذ إجراءات تأديبية بحقهم، بحجة "أن القضاء سلطة وأن السلطة لا تُضرب". وكان عدد من القضاة الكبار قد تراجعوا عن مواقفهم بالتوقف عن العمل استجابة لطلب هذه المراجع.
ويهمني في هذا الاطار تسجيل ثلاث ملاحظات:

الأولى، أنه التحرك الثاني من نوعه في غضون أقل من سنة، بعد التحرك الحاصل في تشرين الأول 2013 تبعا لاعتداء عناصر من الجيش اللبناني ضد القاضي بلال بدر والذي كانت المفكرة أضاءت عليه. وتماما كالتحرك الحاصل آنذاك، حصل التحرك بمبادرة عفوية من القضاة من دون أن يكون موجها من المراجع القضائية الرسمية، واستمر رغم مواجهة هذه المراجع له. وفيما رفض مجلس القضاء الأعلى تحرك 2013 على خلفية رفضه لأي مواجهة مع مؤسسة الجيش، فان رفض المراجع القضائية لحراك 2014 نبع ليس عن اختلاف في وجهات النظر في رفض تقصير العطلة القضائية، انما عن فهم خاص لموجب التحفظ مفاده انكار حرية القضاة بالتعبير والتجمع. وبمعزل عن أسباب هذين التحركين، فان قيام القضاة بهما انما يؤشر الى حصول تحول جوهري في بيئة عملهم، قوامه تعزيز قدرتهم وجهوزيتهم على التجمع والتحرك إزاء الاعتداءات التي قد تطالهم. وما يعزز ذلك طبعا هو تزامن هذين الحراكين مع سعي عدد كبير ومتزايد من القضاة الى تأسيس جمعية وتاليا الى اعطاء تضامنهم طابعا تنظيميا وبنيويا. وقد يكون انخراط عدد هام منهم في مساعي انشاء جمعية للقضاة معطى أساسيا لفهم التفاوت الحاصل في مستويات التجاوب مع الدعوة للتوقف عن العمل وفق المناطق والدرجات والمناصب والتي سبق بيانها أعلاه، بحيث يكون مستوى تجاوب الفئات المختلفة أعلى بقدر ما يرتفع عدد أعضائها المنخرطين في مساعي انشاء الجمعية.

وبالطبع، من شأن نجاح التوقف القضائي عن العمل أن يسهم في تعزيز حظوظ قيام الجمعية التي من شأنها في حال نشوئها أن تضمن بدورها تناميا للحراك واتساعا في رقعة انتشاره. وهذا ما نسجله فعليا بين تشرين الأول 2013 والتحرك الأخير الذي شمل عددا أكبر من القضاة وامتد الى قضاة الدرجات العليا وقضاة النيابة العامة والتحقيق كما سبق بيانه.

وبذلك، يفرض القضاة أنفسهم تدريجيا وبشكل منتظم ومثابر كجسم فاعل وقادر على التأثير في القرارات العامة ولا سيما القرارات المتصلة بالشأن القضائي، فيتحول الجسم القضائي بكامله (وليس فقط في رأس هرمه) من متلق لسياسات تتفرد السلطات الحاكمة في وضعها الى شريك ذات دور متزايد في صنع هذه السياسات والتأثير فيها.

وخير دليل على ذلك هو المنطلقات والنبرة المستخدمة في البيانين الصادرين تبعا لتعطيل العمل وفي اليوم نفسه عن الهيئات القضائية ونقابتي المحامين من جهة، وعن وزارة العدل من جهة أخرى.

فقد تميز هذان البيانان بموقف رصين يستند الى لغة مبدئية واضحة، مفادها وجوب احترام مبدأ فصل السلطات واستشارة مجلس القضاء الأعلى في أي تعديل يطال التنظيم القضائي. ومن المرجح أن يكون الجو العام القضائي قد انعكس على مضمون هذين البيانين، على نحو يعكس تكاملا يؤمل تطوره بين الحراك القضائي والمراجع القضائية التي طالما أنكرت مشروعية وملاءمة هذا الحراك. وليس من المستبعد أن يكون البيانان قد هدفا الى استيعاب حراك القضاة والحؤول دون تحوله الى حالة عامة ومتكررة؛ وربما يكونان نجحا بذلك بحيث اكتفت غالبية وسائل الاعلام بنقل نص البيانين مع التعتيم الكامل على حراك القضاة واضرابهم، رغم جدّته وأهميته الفائقة.  

الثانية، أن القضاة بدوا من خلال تحركهم وكأنهم يلتقون مع الحراك الأوسع للعاملين في الوظيفة العامة. ففيما تعطل عمل المحاكم بشكل كبير بفعل توقف كتاب المحاكم عن العمل تلبية لدعوة هيئة التنسيق النقابية الى الاضراب في 14 أيار، عاد وتعطل عملها بعد يوم واحد بشكل لا يقل اتساعا في 15 أيار بفعل اضراب القضاة الذين بدوا بذلك وكأنهم يوافقون هؤلاء في كسر المادة 15 من قانون الموظفين العامين التي تحظر عليهم الاضراب. وهكذا، وبدل أن تؤدي توجهات النواب الى تمويل سلسلة الموظفين العامين من موارد صندوق تعاضد القضاة الى ابراز تضارب في المصالح بين القضاة والموظفين، نجح الحراك من خلال أسلوبه وتوجيه سهامه الى السلطة التشريعية المتهمة بالتعدي على القضاء والموظفين على حد سواء، في الالتقاء ولو ضمنا مع حراك هيئة التنسيق. وبذلك، قدم القضاة لهذه الهيئة دفعا معنويا، من شأنه أن يؤدي الى تشذيب قانون الوظيفة العامة من المحظورات الواردة فيه للتنظيم النقابي والمهني والتعبير عن الرأي، والتي باتت طبعا في تعارض تام مع مواد الدستور ومقدمته، ولا سيما بما يتصل بالإحالة الى المواثيق الدولية. وتجدر الاشارة في هذا الاطار الى اختلاف القضاة في وصف توقفهم عن العمل: ففيما أصر البعض على تسميته اعتكافا، وذلك على أساس أن القضاء سلطة وأن السلطة لا تحتج أو تُضرب انما لها فقط أن تعتكف، أصر قضاة آخرون على تسميته اضرابا أو تعطيلا للمحاكم، على نحو يعكس إرادة صريحة لهم في ممارسة الاحتجاج المهني ضد جهات نافذة بشكل واضح. وبالطبع، يبدو الموقف الأخير أكثر انسجاما مع واقع النفوذ الفعلي بعيدا عن المفاهيم النظرية والتي باتت منافية تماما لهذا الواقع.

أما الملاحظة الثالثة، فهي تتصل بماهية المطالب التي يدور الحراك حولها. فهل هي نقابية ذات طابع فئوي، الأمر الذي يجعلها في تعارض محتمل مع مصالح الدولة كدولة، أم أنها تندرج ضمن رؤية معينة للصالح العام، مما يسمح باجتذاب تأييد الرأي العام والمواطنين لها في صراع تزيد أرجحية حصوله؟ وخير دليل على ذلك هي التصريحات النارية لعدد من النواب للنيل من حقوق القضاة، سواء فيما يتصل بتقديمات صندوق تعاضد القضاة أو العطلة القضائية.

ومن هنا، قد يكون من المفيد أن يستعيد القضاة تقليدا قديما للحراكات الإصلاحية القضائية، مفادها ربط المطالب الخاصة للقضاة، بما فيها مطالب زيادة الرواتب أو تقديمات صندوق التعاضد، بما يعزز مشاعر القضاة بالطمأنينة والاستقلالية. وفي هذا المجال، تؤكد عدد من قيادات الحراك القضائي أن أساس حراكهم ليس مدة العطلة، انما بالدرجة الأولى، جبه ما اسموه اعتداء السلطة التشريعية على السلطة القضائية، وبكلام آخر الدفاع عن استقلال القضاء.  

كما قد يكون من المفيد جدا أن يسارع القضاة الى اعلان تأسيس جمعيتهم، فتأخذ وجوههم وخطابهم ومطالبهم حيزا أكبر في الخطاب العام، في أجواء من شأنها أن تمهد لاستعادة القضاء مكانته ودوره الاجتماعيين. يتبع… 

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني