عندما تفضح الأزمة اللامساواة بين القضاة

،
2024-07-04    |   

عندما تفضح الأزمة اللامساواة بين القضاة

أظهرت الأزمة بشكل غير مسبوق عوامل اللامساواة التي تفرّق بين القضاة في لبنان. وفي حين أن معظم هذه العوامل كان موجودا منذ زمن، إلا أن الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان منذ 2019 أبرزتها بشكل كبير وسلّطت الأضواء عليها وعلى نتائجها. فبالإضافة إلى عوامل التفريق بين القضاء على أساس الاستقلالية أو النزاهة أو الإنتاجية، فإن السّنوات الأخيرة أظهرت أضافت عوامل تفريق إضافية على أساس مواقعهم وقدرات كل منهم على التعامل مع الأزمة وتخطّي مصاعبها، إن كان على صعيد حياتهم الشخصية أو في محاكمهم أو كيفية ممارستهم لعملهم القضائي.

وكان مدخول القاضيات “المقبول” قد أخمد حدّة اللامساواة هذه طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، إذ كان القاضي يحصل على ما يكفيه لتأمين معيشة لائقة، لا سيّما بعد 2011، وخصوصا متى أضفنا تقديمات صندوق التعاضد. إلا أن انهيار قيمة رواتب القضاة، كما قيمة المساعدات التي يقدّمها الصندوق، أعادت اللامساواة الاجتماعية بين القضاة إلى الواجهة، خصوصاً من الناحية المادية، وأعطتها وهجا غير مسبوق، مؤثرة بذلك بأشكال مختلفة على قدرة كلّ قاضٍ على الاستمرار في تأدية عمله بالشكل المطلوب.

وتتعدّد أسباب اللامساواة بين القضاة. وقد يكون أهمّ هذه الأسباب اجتماعيا، بما أن القاضيات يأتين من طبقات اجتماعية مختلفة جدا. إذ أصبح القضاء اللبناني اليوم أكثر تنوّعا اجتماعيّا ممّا كان عليه منذ خمسين عاما بعدما كسرت كليات الحقوق الجديدة (لا سيما في الجامعة اللبنانية) احتكار جامعة اليسوعية منح إجازات في الحقوق. وكما ذكّرنا في مقال سابق، فإن أعضاء الطبقات الوسطى والفقيرة قد يرون في الوظيفة العامة إجمالا، وفي القضاء بشكل خاص، طريقا للارتقاء الاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى مصدر دخل ثابت وتقديمات اجتماعية أساسية لهم (من طبابة وتعليم وسكن وغيرها) لم يكونوا ليضمنوا الحصول عليها لو اختاروا أيّ مهنة أخرى. وهذا ما يجعلهم أكثر حساسيّة لتراجع الأوضاع المادية اليوم. كما تفرّق بين القضاة المراكز التي يحتلونها (حتى ما بين قضاة الجيل الواحد وذات الدرجات القريبة) والتي تعطي بعضهم سلطات وقدرات وشبكات معارف لا يتمتع بها زملاؤهم، تسمح لهم بالتعامل بشكل أفضل مع صعوبات الأزمة بعكس زملائهم، وإلى ما هنالك من مصادر اللامساواة ندرسها فيما بعد.

في جميع الأحوال ومهما تعدّدت الأسباب، يخرج وضع القضاة في الأزمة، أكثر من أي مرحلة أخرى، عن الأطر القانونية المجرّدة التي تنظّم المهنة (من وظيفة قضائية ودرجات وأقدمية إلخ.)، والتي تريد أن تُظهر لنا القضاء كجسم واحد يتعامل مع الأزمة بالطريقة ذاتها. تَظهَر إلى العلن عوامل شخصيّة تعني مسار كل قاضٍ على حدة وترتبط برأس ماله الاجتماعي. وعليه، فيما كان للأزمة مفاعيل طاحنة على حياة عدد من القضاة على نحو جعلهم غير قادرين على القيام بعملهم، فإن مفاعيلها بقيت محدودة بالنسبة إلى آخرين .

ويأخذنا تطوّر اللامساواة بين القضاة إلى عاقبة أخرى من بين عواقب الأزمة على القضاء: فهو يشير إلى مدى انحلال المؤسّسة القضائية الجامعة الحامية، بشكل يجعل القضاة أفرادا معزولين، كل واحد منهم متروك لأمره ولقدرته الشخصية على التعامل مع نتائج الانهيار الاقتصادي التي عرضناها في المقالات السابقة من سلسلة مقالات “القضاء اللبناني في الأزمة”. من قضاة وحيدين معزولين أمام طبقة سياسيّة امتهنت تعطيل القضاء واستعماله لحماية مصالحها، إلى قضاة وحيدين أمام أزمة دمرت أطر حياتهم الشخصية والمهنية. إنها قصة انحلال مؤسسة، وسلطة، ودولة، يصارعه كل يوم مئات من القضاة المثابرين… بدرجات مختلفة، كل حسب موقعه وخصائصه الاجتماعية والمهنية.

أزمة مختلفة… لقضاة من طبقات اجتماعية مختلفة

عندما يمضي الباحث وقتا مع القضاة يسألهم عن أوضاعهم في الأزمة، سرعان ما يأخذه الحديث إلى مسارات القضاة قبل دخولهم القضاء، وإلى علاقتهم بالمهنة عند  دخولها ومن بعده. وتختلف هذه العلاقة بشكل كبير بين قاض وآخر، مع نتائج واضحة على كيفية تعاملهم مع الأزمة وصعوباتها المادية والمعنوية. فالقضاء بالنسبة لبعض القضاة لم يكن “رسالة” يطمحون لتأديتها فحسب، إنما أيضا مهنة وضرورة مادية فرضتها عليهم ظروفهم وظروف عائلاتهم الصعبة عندما كانوا في المدرسة والجامعة وبعد التخرّج. وعليه، شكّل النجاح في مباراة دخول القضاء بالنسبة لبعضهم خشبة خلاص ماديّة، تسمح لهم بإعالة أقاربهم في ظلّ ظروف ماديّة صعبة، أو على الأقل ضمانة مادية تؤمن لهم مدخولا محترما ومستقرّا يحميهم ويحمي أهلهم من مطبّات الحياة في لبنان، حيث لا تغطية صحية مضمونة للجميع، ولا ضمان بطالة أو شيخوخة[1]، ولا تعليم مجاني مضمون النوعية، وكلها مخاطر اجتماعية كان القضاء يتعهد أمام هؤلاء الشباب بتغطيتها ولو جزئيا. فيأتي راتب القضاة، الذي شهد تحسنا ملحوظا منذ نهاية التسعينيات وحتى 2011، كما المساعدات الصحية والاجتماعية التي أصبحت أكثر شمولا في هذه الفترة، لتقدّم لهم وعدا باستقرار مادي هم بأمسّ الحاجة إليه. وهو وعد لم تعد تحترمه المؤسسة القضائية منذ 2020.

“كنت مضطر قدّم عالقضاء لأمّن مدخول، قبل ما نحكي شعر ورسالة. المحاماة كانت تتطلب وقت تدرّج دون مدخول. ظروفي حكمت عليي (الدخول إلى القضاء)، وقلت ليش لاء”[2]

وتختلف هذه المقاربة جذريا عن مقاربات أخرى اعتمدها قضاة آخرون عندما سألناهم عن أسباب دخولهم المهنة وعن علاقتهم بها، فركزوا على اعتبارات وعوامل تشير إلى هامشية الهمّ المادي، ما يسمح لهم بالتأقلم مع الأزمة وعواقبها بشكل أكبر. ولقد سمعنا قضاة عدة يعرضون طموحاتهم السابقة في القضاء وإحباطهم عندما لم تتمكن المهنة من أن تكون على مستوى تطلّعاتهم الفكريّة والأخلاقيّة، مثل ذلك القاضي الذي كرّس جوابه على سؤالنا للكلام عن قدراته (potentiel) وعن عجز القضاء من أن يقدم له مساحة لتطويرها. وتُغيِّب هذه المقاربة الثانية بشكل ملحوظ العامل المادي الذي كان مركزيا في المقاربة السابقة، وها هو أصبح هنا تفصيلا. إن راتب القاضي وتقديمات صندوق التعاضد شكّلت السبب الرئيسي الذي دفع بعض القضاة إلى دخول المهنة والبقاء فيها، فيما هذه العوامل غائبة عن دوافع قضاة آخرين وقراراتهم المهنية الحالية أو المستقبلية.

“بالسنة الثالثة حقوق مررنا بضائقة مادية صعبة كتير فقلّي أبي مش قادر أمنلك 300 ألف لتتسجل، فبعت كل مكتبتي للنادي لإدفع تسجيلي بالجامعة، هيدا أعزّ شيء عندي، مكتبتي، وبعته، لهيك قررت إطحش بالحقوق”[3]

ومن أبرز العوامل الشخصية التي تلعب دورا هنا، على صعيد قدرة القاضي على تأدية مهامه في الأزمة دون أن يشلّه الهم المادي، هي الثروة الشخصية أو العائلية التي يرتكز عليها لتغطية أكلاف عيشه، وهي مرتبطة مباشرة بخلفية القاضي الاجتماعية. قد يأخذ هذا العامل شكل ارتياح مادي عائلي (أهل مقتدرون ماديا)، أو الاعتماد المادي على زوج أو زوجة مرتاحين ماديا، تسمح لهم مهنتهم بتأمين دولارات ثمينة، فيما لا يزال القضاء اللبناني يعيش في زمن الليرة (مع تحسينات ملحوظة في السنة الأخيرة). ويساعد هذا العامل القضاة “المحظوظين” على الاستمرار بالذهاب إلى العمل وإيلائه فكرهم ومجهودهم الذي سلِمَ من الهمّ المادي الذي ينخر فكر بعض زملائهم.

“أنا زلمي من الأساس مكتفي مادياً وهذا ساعدني لآخذ قرار (ترك القضاء) وللأسف زملائي ما عندهم ياه “[4]

كما يعطي عامل الثروة الشخصية والعائلية القضاة رفاهية الخيار بين البقاء في المهنة إذا أرادوا ذلك بما أنهم غير معتمدين على راتب القضاء الزهيد أصلا بالنسبة لمستوى معيشتهم، أو حرية المجازفة والاستقالة منه انتقالاً نحو أفق آخر هو في أغلب الأحيان خارج لبنان، من ضمن ما يرونه كمغامرة مثيرة تسمح لهم بمغادرة وحول القضاء المحبطة. ويمكن مقارنة هذه الرفاهية بوضع بعض زملائهم، وهم القضاة الآتين من أوساط تعيش أوضاع اجتماعية صعبة، إذ يجدون أنفسهم منذ 2020 عالقين بين مهنة لم تعد تؤمّن لهم أبسط ما يحتاجون إليه مع عائلاتهم، وخطر الاستقالة التي لم تعدْ مغامرة جميلة هنا، بل تصبح مصدر قلق وخوف كبيرين، إذ أنها تفتح أبواب المجهول المادي والمعنوي فيما هم بأمسّ الحاجة إلى استقرار ماديّ وتأمين مدخول شهري منتظم.

ويشكّل مكان السكن، وهو مرتبط في الكثير من الأحيان ارتباطا وثيقا بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها القاضي، عاملا اجتماعيا إضافيا يميّز بين القضاة، بحسب قربه أو بعده عن مركز المحكمة التي يعملون بها، وهو غالبا ما يكون في المدن الأساسية. يعتبر قضاة أن زميلة لهم محظوظة، لأنها تعيش في منزل في منطقة العدلية، يمكّنها من الذهاب سيراً على الأقدام إلى قصر العدل في بيروت، أو بالسيارة متى أرادت و”بمصروف لتر بنزين يومياً”، ما هو غير متاح لمعظم زملائها. علما أن مكان السكن يؤثّر على تواجد القضاة في محاكمهم في الأزمة، خاصة مع غلاء الوقود وسائر مصاريف صيانة السيارة. وهو ما منع بعضهم من الذهاب إلى عملهم بانتظام منذ 4 سنوات، خاصّة في الحالات القصوى عندما يبعد مكان سكن القاضي ساعات عن مركز عمله، كتلك القاضية “الرائعة يلي حطوها بالنبطية، وما عادت قادرة تروح عشغلها، هاجرت على كندا”[5]. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ عامل اللامساواة في السكن بين القضاة قد برز بحدّة أكبر في فترة المظاهرات وتسكير الطرقات في بداية الأزمة، إذ كانت إمكانية وصول القاضي إلى المحكمة تحدد بحسب موقع منزله ومكان عمله. وقد تساءل قضاة عدّة أمامنا فيما كان يتمّ إيلاء أيّ اعتبار لمكان إقامة القضاة عند القيام بالتشكيلات أو الانتدابات القضائية.

أوضاع عائلية متنوّعة ومؤثّرة

يشكّل الوضع العائلي للقاضي أبرز العوامل تأثيرًا وارتدادًا على تفاوت وضعيّات القضاة في مواجهة الأزمة: هل هو متزوج ولديه أولاد أم لا؟ وهل هو معيلٌ أساسيّ لأفراد عائلته من زوج وأولاد وآباء، أم أنه يتلقى دعمًا مادياً من فرد آخر في العائلة؟ بطبيعة الحال، أصبح وضع القضاة المسؤولين ماديا عن عائلاتهم، لا سيما متى ضمّت أولادًا عدّة وآباء مسنّين، أكثر صعوبة من وضع القضاة غير المتزوجين، أو الذين يتلقون دعما ماديا من فرد آخر في العائلة. يشتكي أمامنا أحد القضاة، وهو أب لأولاد عدة ومعيل أساسي لوالديه، أن راتبه لا يكفيه لنصف شهر. وهو يربط هذا الوضع بعدم قدرته على القيام بمهامه كما يتمنى أو كما كانت الحال قبل بداية الأزمة. وهذا لا يعني طبعا أن المدخول الحالي مريح لقاضٍ أعزب مثلا، لا مسؤوليات عائلية مادية على عاتقه، إنما ما نعنيه هو أن وضعه لا يعيق عمله القضائي بنفس الدرجة، ويسمح له بالتالي بابتكار معالجات موضعية نجح بفعلها في الاستمرار بكلفة أقل في السنوات الماضية. فالعديد من هؤلاء القضاة غير المتزوجين يتحدّرون من طبقات اجتماعية متواضعة تجعل القاضي، حتى متى عاش وحيدا أو مع والديه، في وضع مادي غير مريح. وقد عاينّا حالات قضاة غير متزوجين عدة لم يعد يكفيهم راتبهم لتأمين حاجاتهم الشخصية (وهو راتب يكون متواضعا في حالة القضاة الشباب). ونذكر مثلا حالة قاضٍ غير متزوّج، يقول أنه احتاج مساعدة من أشقائه في الخارج في أواخر سنة 2020، قبل أن يستقيل وينتقل الى الخارج، أو حالة قاضية غير متزوجة، كانت تقطن مع ذويها، وبقيت بحاجة لمساعدة شقيقها المادية.

“معاشي يكفي فقط للبنزين وهلق بطّل يكفي بنزين (بداية 2023)، وصلت لمرحلة صرت أنطر ال100 دولار من خيي، وأنا ما عندي مصاري قبل، وضعي كان كثير صعب، لو ما عندي دعم من عائلتي، ما بعيش. “[6]

لا تغيب هذه اللامساواة عن القضاة أنفسهم، إذ هم يعيشون منذ أربع سنوات في جوّ من المقارنات الدائمة، بعضها يطال سائر المهن أو الموظفين كما أظهرنا في أحد مقالاتنا السابقة، ولكن بعضها مقارنات بين القضاة أنفسهم وأحوالهم المادية والشخصية، بشكل أصبح يؤثر يوميا على نظراتهم إلى بعضهم البعض، وبالتالي إلى أنفسهم وإلى مهنتهم. وقد قال لنا عدة قضاة قابلناهم أنهم “يشفقون على زملائهم اللي عندهم أولاد”[7]، فيما الرواتب والمساعدات المختلفة هي ذاتها للجميع. يعيش بعض القضاة قلقا دائما إذ لا يتمتّعون بدعم أي من أقاربهم، ما يؤدي إلى تخفيف وتيرة عملهم رغما عنهم، أو على الأقل وتيرة ذهابهم إلى المحكمة، فيما يرون زميلا لهم يذهب الى العدلية كل يوم لأن أحد أفراد عائلته يمدّه بالمال بشكل منتظم. قضاة آخرون يعبّرون لنا عن امتعاضهم من تصرّف زملاء غير متزوجين، صرّحوا للإعلام أن راتبهم “يكفيهم”، غير آخذين بعين الاعتبار أنه ليس لديهم أولاد “ليعتنوا بهم ويؤمنوا لهم المأكل والمشرب واللباس والعلم والطبابة”. وهم يعتبرون أن هذه التصاريح غير مسؤولة لأنها تعطي الجمهور انطباعا بأن القضاة المعترضين على أوضاعهم المادية في الأزمة هم قضاة مدللون أو كسولون، بما أن الراتب يكفي بعض زملائهم، “إلا أن لا أحد ينتبه أنّ الفرق شاسع بين القاضية العزباء والقاضية التي لديها عدة أولاد وأهل كبار في العمر”[8]. كما يشير القضاة إلى اوضاع القضاة الشباب، لاسيما الذين كانوا متدرجين في المعهد في السنوات الأخيرة، وهم كانوا يعيشون أوضاعا تعدّ مأساوية، وبخاصّة الذين لا يتحدّرون من عائلات ميسورة ماديا، باعتراف زملائهم العاجزين أمام صعوبات الجيل القضائي الشابّ.

وحتى القضاة الذين يتمتعون بدعم مادّي من العائلة سهّل تأقلمهم مع الأزمة، فقد تبخّر استقلالهم المادي في السنوات الأخيرة، بشكل مؤثر جدا على الصّعيد المعنوي. فهم يشعرون بأنّ الجهود التي بذلوها ليصبحوا قضاة أولا، ومن ثم أفرادا مستقلّين في المجتمع ومتمتّعين باستقرار معنوي ومادّي تؤمنه لهم مهنة “نبيلة” تعبوا من أجل الوصول إليها، قد تبدّدت وذهبت سدى. وعبّر لنا أكثر من قاضي، يعتبره زملاؤه محظوظا لأنه يحصل على دعم من عائلته، كيف أن هذه التبعية المالية الجديدة التي خلقتها الأزمة تحرجه، إذ هي لا تأتلف مع ما يعتبره مكانة القاضي المعنوية والاجتماعية، وتفقده جزءا من استقلاليته وحتى كرامته، ومعها الشعور بالأمان. أمضوا سنوات يطالبون باستقلاليتهم تجاه السلطة السياسية، فها هم يفقدونها في قلب مساحتهم الخاصة، عندما ينتظرون كل آخر الشهر أن يمدّهم والد أو شقيق بمبلغ من المال. حتى القضاة المحظوظون في نظر زملائهم، هم قضاة يخجلون من أوضاعهم الحالية في عالم اللامساواة القضائية.

“عندي … أولاد ومنّي مستقل مادياً. ما عندي إخوة، أهلي عم يساعدوني، بيي رجال كبير بعده بيساعدني، بدل ما أنا أوقف حده، حيصيروا 20 سنة بالقضاء وبعده بيساعدني، بتعزّ عليك لأن شو المفروض الإنسان يعمل ليستقلّ ماديا؟ أنا بعدني مش مستقلّ مادياً وصار عمري فوق ال40”[9]

“أنا امرأة مستقلة من وقت اللي دخلت القضاء، أنا اللي بساعد أهلي، صرت أنا بحاجة إلهم. والاستقلالية المادية تعطيك الأمان.”[10]

وتجدر هنا الإشارة إلى أنّ هذا الدعم العائلي للقضاة تحوّل في أحيان كثيرة إلى دعمٍ للعدلية أيضا. وهذا ما عبّرت عنه لنا إحدى القاضيات: “أنا بجيب الحبر لأن خيي بيعطيني، القاضي اللي ما عنده حدا يساعده بيطلع القرارات كتابةً”. من هذه الزاوية، تنعكس لا مساواة الثروة الشخصية أو الدعم المادي العائلي لامساواة لوجستية وعملية في العدلية، بعد تقاعس السلطات عن تأمين لوازم العمل للجميع لفترات طويلة. ولا بد من التنبه إلى أنّ بعض القضاة يعتبرون أنه من الأولى إنفاق المال الذي يحصلون عليه من عائلتهم على معيشتهم الخاصة، بدلا من أن ينفقونه “على العدلية” (مثل تكاليف الانتقال إلى مقرّ المحكمة أو تأمين مستلزماتها)، أي على مهنة باتت السبب في قهرهم.

قضاة وقاضيات: الأزمة ليست ذاتها

فيما قد بدأنا دراسة الأبعاد الجندرية للوظيفة القضائية في لبنان في أماكن أخرى[11]، تجدر الإشارة إلى أن الأزمة اللبنانية ضخّمت هذه الأبعاد وأعطتها أهمية جديدة. ولا بدّ هنا من التذكير بأمر بديهيّ قد تتجاهله المقاربات التقليديّة للقضاء والتي تصورهم على أنهم يمارسون مهامّهم في تطبيق القانون من دون أيّ فوارق بينهم، وهو أن القضاة في لبنان يخضعون للعوامل الجندرية والأدوار الاجتماعية التي تفرضها، تماما كسائر أعضاء المجتمع اللبناني، الأمر الذي ينتج فروقات مهمة بينهم وبخاصة بين الذكور والإناث، فيما يخصّ تعاملهم مع الأزمة الاقتصادية، وهو ما أكدته مقابلاتنا ومشاهداتنا القضائية.

 “القاضية المرأة الوضع عليها أهون شوي من القاضي الرجل.”[12]

ويعتبر القضاة أنفسهم أن الأزمة تفرّق بين القاضي الرجل والقاضية المرأة، حيث تكون الضغوطات على القاضي مختلفة، تبعاً لما يتوقع المجتمع اللبناني منه لناحية تأمين مستوى معيشة لائق لعائلته. تخبرنا مثلا قاضية متزوجة أن الوضع المادي السيّئ لن يدفعها إلى الاستقالة والبحث عن عمل آخر “بوجود زوجها (المحامي)”، لأنها ليست المعيل الأساسي لعائلتها فلا ضغط كبير عليها، وبالرغم من أنها لم تعد مستقلة مادياً للمرة الأولى منذ دخولها إلى القضاء. وبالإضافة إلى كلام القضاة والقاضيات أنفسهم، لقد شاهدنا نحن في سنوات الأزمة كيف أن العديد من القضاة الرجال اضطرّوا تحت الضغط المعيشيّ أن يمارسوا أعمالًا موازية للعمل القضائي بوتيرة أعلى من السابق، مثل التعليم الجامعي وغيره، بهدف تأمين مداخيل أخرى تكمّل المدخول القضائي الذي أصبح متواضعا، وهي ظاهرة لم نلمسها عند القاضيات بنفس الحجم، وإن كانت هذه الخلاصة تحتاج لدراسة ميدانية إضافية.  كما لاحظنا ذلك أيضا في موضوع استقالات القضاة أو طلب استيداعهم لممارسة مهام أخرى خارج القضاء تؤمّن لهم مدخولًا أفضل، وهي ظاهرة، على محدوديتها، بقيتْ تعني القضاة الرجال فقط أو بدرجة كبيرة، على حدّ علمنا.

ولا بدّ هنا من أن نعير اهتماما خاصا لهذه العوامل الجندرية التي تميّز بين القضاة في سلك قضائي بات أكثر من نصف أعضائه من النساء، في أزمة تضغط على القضاة الذكور الذين لم يهجروا المهنة بعد بشكل مختلف، وفي مجتمع لبناني ذكوري غالبا ما يفرض على الرجل مسؤوليات مادية عدة، مع ما ينتج ذلك من ضغوطات ومشاكل نفسية عند الرجال ومن تهميش للنساء وتمييز ضدّهن على أكثر من صعيد. وكل هذا لا يعني طبعا أن جميع القاضيات في وضع مادي مريح اليوم، ولا أن كل القاضيات يعتمدن على أزواجهن، كما وثّقنا بعض الحالات حيث يعتمد القاضي على زوجته غير القاضية من أجل تأمين المعيشة، إلا أن الأدوار الاجتماعية المرتبطة بالجنس تطغى بشكل كبير على التوقعات والممارسات الاجتماعية والقضائية. لكن الخلاصة الأساسية لهذه الظاهرة في أزمتنا الحالية، وفي ظل هذا المجتمع اللبناني، هي أن قدرة القضاء على استقطاب طلاب الحقوق الذكور في المستقبل القريب والمتوسط قد تضعف أكثر فأكثر في ظلّ تدهور مدخول القضاة وظروف عملهم، وهي ظاهرة كانت قد بدأت تتطور منذ عقدين أو ثلاثة مع تأنيت تدريجي للقضاء في لبنان، بدأ يثير قلق (رعب ؟) بعض القضاة الرجال منذ التسعينيات. فطالما أن المجتمع اللبناني ينتظر من الشاب أن يتحمّل مسؤولية عائلته ماديا (حتى متى كانت الشريكة تؤمّن فعليا وبشكل متزايد جزءا مهما من حاجات العائلة المادية)، ستبقى جاذبية المهنة القضائية محدودة بالنسبة للعديد من الشباب الذكور والذين سيفضّلون الذهاب نحو مهن تؤمّن لهم مداخيل أكبر، إن كان في عالم القانون كالمحاماة على الصعيد الدولي أو في المكاتب التجارية الكبيرة، أو حتى عبر هجر المهن القانونية بحدّ ذاتها نحو مجالات أخرى مالية أو تجارية تزداد جاذبيتها كل يوم في ظلّ ازدهار الرأسمالية النيوليبرالية في العالم والمنطقة. من هذا المنظار، نتجه في العقود القادمة نحو قضاء أكثر تأنيثا من أي وقت مضى، مع ما يستتبع ذلك من تحوّلات ممكنة في ممارسة الوظيفة القضائية وفي نظرة الناس إليها، وهي تحولات قد يكون معظمها إيجابيا على أكثر من صعيد : فهل يكون لأزمة لبنان الطاحنة بعض العواقب الإيجابية؟

مركز القاضي وعلاقاته، مصدر آخر من مصادر التمييز

برزت علاقات القضاة الشخصية خلال الأزمة بشكل واضح، حيث تمّ توظيفها بطرق عدة، غالبا لتأمين سير العمل، أو لتسهيل معاملات قضائية أصبحت صعبة جدا في السنوات الأولى للأزمة. ويمكن هنا إبداء ملاحظتين أولويتين في هذا الخصوص. أولا، إن شبكة العلاقات الشخصية والمهنية هذه تختلف كثيرا بين قاضٍ وآخر، إن كان بفعل المسارات الشخصية المختلفة أو بفعل المراكز المختلفة التي يشغلونها. ففي حين يضع بعضها (كالنيابات العامة على سبيل المثال) القاضي في علاقات يومية مع العديد من الفاعلين الأمنيين والإداريين أو حتى السياسيين، تسهم مراكز أخرى في عزل القاضي لتبقيه أسير محكمته أو مكتبه. ثانيا، تنتج هذه اللامساواة في العلاقات تفاوتا كبيرا بين القضاة في قدرتهم على ابتكار وإيجاد حلول عملية للقيام بعملهم منذ 2020، في حين كانت وما تزال أحيانا معظم وسائل العمل معطلة أو متوفرة بشكل محدود جدا.

 وثقنا مثلا استثمار علاقة معرفة مهنية بين قاضية وقائد منطقة في القوى الأمنية، ما أتاح لها إمداد خط كهرباء من مركز المحافظة إلى مكتبها، وهي تعتبر أنها تتمتع بسلطة “يمكن غير قضاة ما عندهم ياها”[13]. وما عزز طبعا هذه الحلول الفردية المعتمدة على علاقات القاضي الشخصية، هو غياب الحلول الرسمية المركزية الموحدة من قبل الحكومة، الوزارة أو حتى مجلس القضاء الأعلى، ما دفع كل محكمة أو قاضٍ للتحرّي عن سبل تدبير شؤونهم. وقد أدت هذه اللامركزية القسرية مع ما ترشح عنه من لامساواة إلى حلول مختلفة تمّ اعتمادها في مختلف المحاكم لمشاكل مشابهة، ما ترك سير عمل المحاكم رهينة علاقات ونفوذ قضاتها.

وإلى جانب هذه المحاولات المتعددة لإيجاد بعض الحلول المختلفة لمشاكل القضاة المادية واللوجستية، وثقنا لامساواة مهمة بين القضاة على صعيد خيار الاستقالة أو البقاء في القضاء، حيث لعبت هنا أيضا العوامل والشبكات الشخصية والمهنية بشكل أساسي. وقد أذنت قدرة بعض القضاة، عبر شبكة علاقاتهم، في إيجاد فرص عمل مغريّة بما فيه الكفاية خارج القضاء، بتقديمهم لاستقالتهم أو الانفصال مؤقتا عن السلك القضائي، أو على الأقل ترك هكذا خيار بمتناول اليد متى احتاجوا إليه، مع ما ينتجه ذلك من راحة نفسية. وقد تأتي هذه الأفضلية لبعض القضاة من مصادر عدّة، أولا كنتيجة لمؤهّلات يتمتع بها القاضي، مثل أن يكون حائزا على شهادات دراسات عليا من جامعات مهمة، وهي بدورها مرتبطة غالبا بانتمائه لطبقة اجتماعية أتاحت له هذه الفرص التعليمية. وهي ثانيا نتيجة علاقات واتصالات يتمتع بها القاضي أحيانا بفعل مركزه، أو تتمتع بها عائلته أو أقرباؤه، وتسمح له باستشراف مخارج مقبولة من القضاء، وهو ما ليس متاحا للعديد من زملائه.

“لو ما حضّرت حالي (في سنوات ما قبل الأزمة) وقادر هلق أعمل consultancies (استشارات) ما كنت عم بحكي هالحكي هلق، كنت هلق قاعد بلبنان عم خبط رأسي وعم قلّك عم بصبر لأن في رسالة”[14]

إضافة لكل هذه الأمور، اتسعت في الأزمة، أو هكذا يرى بعض القضاة، الهوة التي كانت تفصل بين القضاة المستقلّين والنزهاء وبعض زملائهم الذين طوروا في سنوات ما قبل الأزمة علاقات مع الطبقة السياسية والمالية، سمحت لهم بعبور الأزمة بشكل أفضل بكثير من زملائهم. وهنا يتساءل قضاة كيف لبعض زملائهم ألا يشتكون ويعترضون على أوضاع القضاة الحالية، لا وبل ينتقدون ويحاربون اعتراض زملائهم المعتكفين. ويطرح ذلك علامات استفهام لدى بعض القضاة حول نزاهة زملائهم : “فبأي طريقة هم قادرون على تأمين معيشتهم بحوالي مئة دولار بالشهر فقط (أي راتب القاضي في منتصف الأزمة) ؟”، و”كيف يقومون بذلك وبأي مداخيل؟”[15].

“قال لي مدير البنك عندي قضاة ما بيجوا بيقبضوا معاشاتهم، صرت بدّي فسّر له أن مش الكل هيك”[16]

” أنا قلت مرارا أن على مجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي أن يسائلوا كل القضاة الذين لم يعترضوا على أوضاع القضاء المادية في السنوات الأخيرة والذين لم يشاركوا في الاعتكافات المتعددة التي أقاموها زملاؤهم، إذ لا يمكن أن يتمكن القاضي مع عائلته أن يعيشوا مع المبالغ التي كنا نتقاضاها في سنوات الأزمة الأولى، هؤلاء علامات استفهام عديدة حولهم”[17].

على الضفة المقابلة، يتحسّر قضاة على أن بعض زملائهم النزهاء قد استقالوا، معتبرين ان ذلك يشكّل “خسارة للعدلية، واللي ما بدنا ياهن بعدهم قاعدين على قلبنا”[18]. ويفسرون ذلك بأن القاضي المنتفع الذي لديه مصادر دخل أخرى غير مشروعة لن يشتكي من أوضاع العدلية ويعترض على إهمال القضاء، ولن يستقيل للتو من القضاء، بل سيساهم بإيهام الرأي العام أن الوضع على ما يرام، فيضرب مصداقية زملائه المعترضين، بينما يدفع الوضع الصعب النزهاء منهم إلى الإحباط، او الاستقالة للمحظوظين منهم المتمتعين برأس مال اجتماعي مهم. إن اللامساواة تولد أيضا ارتيابا وشكوكا بين القضاة.

“الشباب والصبايا اللي اشتغلنا عليهن عم نشوفهن عم يفلّوا وفي منهم ممتازين، والخطر أن الآدمي ما قادر يتحمّل، مش عم قول اللي بقيوا مش أوادم، بس اعتمدنا عأهلنا”[19].

فيما تعزّز الأزمة اللامساواة في المجتمع اللبناني بشكل كبير كل يوم، ها نحن نرى اللامساواة نفسها تنهش جسم القضاء منذ أربع سنوات، وتضرب أحيانا تضامن القضاة بين بعضهم البعض وقدرتهم الجماعية على الصمود. ويقف القضاة أمام اللامساواة مبعثرين مشتتين، لكل قاض وضعه، ولكل قاض أزمته.


[1]  فيما ما يزال تطبيق ما يعرف بقانون التقاعد، الذي أقرّ نهاية 2023، موضع تساؤلات وشكوك عديدة.

[2] مقابلة مع قاضي، شباط 2023.

[3] المصدر نفسه.

[4] مقابلة مع قاضي آخر، شباط 2023.

[5] مقابلة مع قاضي، نيسان 2023.

[6] مقابلة مع قاضية، شباط 2023.

[7] مقابلة مع قاضية، 2023.

[8] المصدر السابق.

[9] مقابلة مع قاضي، شباط 2023.

[10] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.

[11] أنظر مثلا :  عزّه الحاج سليمان وعزّه شرارة بيضون، 2023، نساء لبنان في سلك القضاء: تعزيز السائد وإهمال الهوامش، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات ؛ سامر غمرون، 2015، من يخاف من أكثرية نسائية في القضاء اللبناني؟، المفكرة القانونية (آذار 2015).

[12] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.

[13] مقابلة مع قاضية، شباط 2023.

[14] مقابلة مع قاضي، شباط 2023.

[15] مقابلة مع قاضي، آذار 2023.

[16] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.

[17] مقابلة مع قاضي، آذار 2023.

[18] مقابلة مع قاضي، شباط 2023.

[19] مقابلة مع قاضي، شباط 2023.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، لبنان ، مقالات ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني