صحّة عقود البيع في “المناطق المتضرّرة”: قراءة أوّلية في 38 قراراً قضائياً


2021-07-23    |   

صحّة عقود البيع في “المناطق المتضرّرة”: قراءة أوّلية في 38 قراراً قضائياً

في حين منع القانون رقم 194/2020 الرّامي إلى حماية “المناطق المتضررة” بنتيجة تفجير مرفأ بيروت التصرّفات العقاريّة فيها لمدّة سنتين، وضع في الوقت نفسه آليّة قضائيّة لمراجعة التصرّفات العقارية الحاصلة في المنطقة نفسها بين 5 آب 2020 وتاريخ نفاذه أي 22/10/2020. وقد برّر القانون تلك القيود بضرورة التدخّل لمنع استغلال مفاعيل الكارثة في هذه المناطق بما يلحق الغبن بأصحاب الملك فيها ويهدّد طابعها التراثي. بعد أيام من نشر القانون، فعّلت وزيرة العدل ماري كلود نجم هذه الآلية من خلال إنشاء اللجنة المتخصّصة للنظر في صحّة التصرّفات العقارية المجمّدة والتحقّق من خلوّها من عيوب الرضا. وقد تكوّنت هذه اللجنة من 3 قضاة (هم سامر يونس رئيساً ونتالي الهبر وندين مشموشي)، ومهندس (فادي عيّاد) وخبير للتخمين العقاري (بطرس مناساً).

وقد حصلت “المفكّرة القانونية” على جميع القرارات الصادرة عن هذه اللجنة حتى تاريخه (18 تموز 2021) والبالغ عددها 38 قراراً. وقبل المضي في تفنيد تلك القرارات التي يرجّح أن يكون تمّ استئناف قسم منها أمام محكمة استئناف بيروت، يُسجّل أنّها اتّصلت في قسم منها (17 قراراً) بالعقود الحاصلة خلال الفترة المشبوهة (5 آب – 22 تشرين الأوّل) فيما أنّ القسم الأكبر منها (21 قراراً) اتّصل باستدعاءات لإبرام عقود خلال فترة منع البيوعات أي ما بعد 22 تشرين الأوّل 2020.

القرارات المتّصلة بالعقود الحاصلة خلال “الفترة المشبوهة”

تعود عبارة “الفترة المشبوهة” للجنة وقد استمدّتها قياساً من القانون التجاري وتحديداً من أحكام الإفلاس، وهي تشمل الفترة الممتدّة من 5 آب إلى 22 تشرين الأوّل 2020. وإذ أبدَت اللجنة تساهلاً حيال البيوعات بين أفراد العائلة الواحدة على أساس “أنّه لا يمسّ أو يهدّد أيّة مصلحة عامّة أو خاصّة يتوخّى القانون 194/2020 صونها وحمايتها والدفاع عنها كما لا يخالف الانتظام العام الذي يحرص القانون عينه على حمايته والذود عنه”، فإنّها أخضعت سائر العقود لتدقيقها لاعتبارات عدة استمدّتها من الأسباب الموجّبة للقانون. ومن أهم هذه الاعتبارات، اثنين:

  • الاعتبار الأوّل، خلوّ العقود من الغبن المالي. والملفت أنّ اللجنة لم تكتفِ هنا بمراقبة مدى عدالة الثّمن المحدّد في العقد ومدى التفاوت بين ثمن العقارات المباعة وقيمتها الحقيقية، بل وسّعت تدقيقها ليشمل آليّة تسديده وتحديداً مدى وضوح آليّة تسديد الثمن. وعليه، ذهبت اللجنة في أحد قراراتها إلى ردّ الاستدعاء لـ”خلوّ الملف مما يثبت تسديد كامل ثمن البيع نقداً”، معتبرة أنّ هذه الواقعة تخلّ بالتوازن في الموجبات التعاقدية وتمسّ باقتصاديات العقد، مما يبرّر تدخّلها. كما ذهبتً في قرار ثانٍ إلى ردّ الاستدعاء بعدما ثبت لها خلوّ العقد من أيّ دليل على تسديد القسم المتبقّي من ثمن المبيع نقداً. وبالمحصّلة، ردّت اللجنة 5 استدعاءات لاحتمال وجود غبن في عقود البيع المتّصلة بها، في حين تثبّتت من غياب الغبن في حالتين فقط.

كما أنّها ردّت استدعاء بتسجيل عقد بيع عقار لقاء ثمنٍ يعادل دخل مدى الحياة. وقد برّرت موقفها في هذا الصدد بأنّ عقداً مماثلاً (وهو عقد غرر) يحول دون تعيين ثمن المبيع أو جعْلِه حتّى قابلاً للتعيين ولو تقريبياً إذ هو مربوط بأجل يستحيل تحديده أو معرفة موعده بشكل مسبق، الأمر الذي يمنعها من إعمال رقابتها على عنصر الثمن وعلى مدى تلاؤمه وقيمة المبيع. وبذلك، تكون اللجنة حادتْ عن قانون الموجبات والعقود في التثبّت من حصول الغبن الذي يستثني عقود الغرر صراحة من أحكامه.

كما يلحظ أنّها ردّت استدعاء آخر على خلفية عدم ثبوت أهلية البائع الذي صادق الكاتب العدل على وكالة له لشخص آخر وهو في سن السادسة والثمانين من دون التثبّت من تمتّعه بالأهليّة من الناحية الطبية.

  • أما الاعتبار الثاني الذي توقفت عنده اللجنة، فقد تمثّل في عدم تعريض الطابع التراثي للمدينة للمزيد من التشويه. وقد برز اهتمام اللجنة بهذا الاعتبار بشكل خاصّ في البيوعات التي تناولت عقاراً يقوم عليه مبنيان تراثيان متداعيان. وقد جاء حرفيّاً في القرار، الآتي: “وحيث إنّ موجب الحفاظ على ما يحتويه هذا العقار من بناءين ينتميان إلى نمط الأبنية التراثية ذات البهو الوسطي والقناطر الثلاث … خصوصاً بعد تعرّضهما إلى أعمال فك وهدم، ما أدى إلى تهديم أحدهما بشكل شبه كامل في حين بقي الآخر… محتفظاً بشكله الهندسي التقليدي وبالعديد من عناصره المعمارية التقليدية إنّما يحتّم على هذه اللجنة حماية ذلك العقار من أي عمل تصرّفي يهدّد باستكمال هدم البناء القائم على الجهة الجنوبية منه كما وبمتابعة تخريب وتشويه وتهديم وتغيير معالم البناء الآخر الكائن في جهته الشمالية، وذلك حفاظاً على ما تبقّى من وجه بيروت التراثي والأثري وما بقي صامداً من معالمها التاريخية التي تشكل جزءاً أصيلاً من ذاكرة الوطن الجماعية حسبما جاء في الأسباب الموجبة للقانون. فيعلو هنا موجب الدفاع عن المصلحة العامّة المتمثّلة في ضرورة الحفاظ على ذلك الطابع التراثي والأثري والتاريخي ويسمو على أيّ اعتبار خاص أو على أيّة مصلحة خاصّة أو شخصية”. وقد عزّزت اللجنة حججها بواقعة مفادها أنّ وزارة الثقافة هي في صدد إدخال أحدهما (أحد المبنييْن) لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية نظراً لأهميته التراثية كما ولضرورة الحفاظ عليه. ولم تكتفِ اللجنة هنا بردّ الطلب بل أبلغتْ علاوة على ذلك بلدية بيروت والمحافظ أنّ المبنى تراثي لكنّه متصدّع لاتخاذ تدابير حمائية.

القرارات المتّصلة بالعقود الموقّعة في فترة المنع

من الملفت عند مراجعة القرارات، أن غالبيتها (21 قراراً) اتّصلت بعقود موقّعة أقلّه بشكلها الرسميّ بعد نشر القانون، وتالياً خلال فترة المنع المطلق. فرغم وضوح المنع، وردّتْ استدعاءات عدّة إلى اللجنة سعى مقدّموها من خلالها إلى الاستفادة من استثناء يجيز لهم تجاوزه، وهو الأمر الذي رفضته اللجنة بصورة قاطعة. وبالإمكان تصنيف هذه الاستدعاءات ضمن أربع فئات أساسية:

  • استدعاءات لترخيص بيوعات بين أعضاء العائلة الواحدة (7 قرارات).
  • استدعاءات لترخيص بيوعات لأشخاص مسيحيّين أو غير غرباء (قرارين). وقد بُنيَت هذه الاستدعاءات على فكرة أنّ القانون تدخّل ليمنع البيوعات الحاصلة لأشخاص غير مسيحيّين أو من خارج المنطقة، وهي فكرة تنهل من خطاب العديد من القوى السياسية التي عمدتْ إلى الربط بين تجميد البيوع في المنطقة والمحافظة على لونها الطائفي. ولم تكتفِ اللجنة هنا بردّ الاستدعاءات على أساس أنّ المنع ورد في القانون بصورة مطلقة (وهي حجّة كافية)، بل أصرّت على إدانة هذا الخطاب وتقويضه بصورة مبدئية. وعليه، جاء حرفيّاً في قرارها المذكور: “حيث أنّ القانون ذا الرقم 194/2020 إذ يهدف إلى الحماية من الغبن والاستغلال كما ومن أيّ عيب قد يشوب الإرادة أو يعطّلها، جرّاء الانهيار النفسي والاقتصادي والوطني الذي أحدثه انفجار الرّابع من آب 2020 إنّما ينبذ في المقابل أي فرز أو تقسيم أو تجزئة أو تفريق بين اللبنانيين على أساس سياسي أو ديني أو طائفي أو مذهبي وهو ما يخالف أصلاً طبيعة كلّ قانون وغاية كلّ تشريع يرمي إلى البناء لا إلى الهدم، الأمر الذي حرص الدستور اللبناني على تكريسه في مقدّمته إذ تنصّ هذه الأخيرة في فقرتها ‘ج’ على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل ولتكمل فقرتها ‘ط’ بأنّ ‘أرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين. فلكلّ لبناني الحقّ في الإقامة على أيّ جزء منها والتمتّع به في ظلّ سيادة القانون فلا فرز للشعب على أساس أيّ انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين'”. وتكتسي هذه الحيثية أهميّة بالغة تتمثّل ليس فقط في عقلنة الإرادة التشريعية ولكن أيضاً في التصدّي لإحدى أخطر ممارسات التمييز الطائفي والمتمثلة في منع البيوعات بين أشخاص من طوائف مختلفة في مناطق معيّنة.
  • استدعاءات للترخيص ببيوعات على خلفية وجود وكالات أو اتفاقيات سابقة (6 قرارات). وقد تصدّت اللجنة لهذه الاستدعاءات أيضاً رافضة الأخذ بأيّ اتفاقية غير رسمية منعاً للتحايل على القانون.
  • استدعاءات للاستفادة من الاستثناء الوارد في القانون على المنع بما يتّصل بالأبنية المخصّصة للبيع من الغير. وقد ردّت اللجنة 4 استدعاءات من هذا القبيل بعدما بيّنت اختلاف وقائع البيوعات المطلوب استثناؤها عن الشروط المحدّدة قانوناً.

يلحظ أخيراً أنّ اللجنة أبلغت وزارة العدل ثلاث مرّات بشبهة مخالفات ارتكبها الكتّاب العدل لأحكام القانون، حتى تأخذ الوزارة الإجراء المقتضى في كل حالة.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، بيئة ومدينة ، البرلمان ، قرارات قضائية ، ملكية خاصة ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني