تكريمًا لذكرى حبيب دبس


2023-02-20    |   

تكريمًا لذكرى حبيب دبس
حبيب دبس بقلم جاد تابت‎‎

غادرنا حبيب دبس باكرًا، في العاشر من شباط، 2023.

منذ بداية التسعينيات دأب حبيب دبس على المشاركة في كل المعارك القائمة حول تحسين التخطيط والتصميم المديني ومعاييره وأساليبه وممارساته في لبنان (والخارج). كان حبيب داعمًا لقضايا حماية التراث الثقافي ومصمّمًا موهوبًا للمساحات العامة ورمزًا رائدًا في التصميم المديني. سوف يذكر العالم حبيب لعظمة موهبته وغزارة مساهماته وعمق إنسانيته ودوره كمواطن ناشط ناضل من أجل وطن أكثر عدالة وعلمانية.

نال حبيب دبس شهادتين جامعيّتين في الوقت نفسه، إحداهما بكالوريوس في الهندسة المدنية (من الجامعة الأميركية في بيروت في عام 1981) والأخرى بكالوريوس في الهندسة المعمارية (جامعة ألبا عام 1984). كان حبيب شغوفًا بالهندسة المعمارية لكنه لم يخلف الوعد الذي قطعة على والده بأن يدرس الهندسة المدنية، فكان يجتاز خطوط التماس يوميًا في طريقه إلى بيروت لمتابعة دراسته غير عابئ بالقنّاصين خلال أسوأ فترات الحرب الأهلية اللبنانية. بعد فترة وجيزة من نيله شهادة الهندسة المعمارية، سافر حبيب إلى فرنسا لاستكمال دراسة الماجستير في التخطيط المديني من المدرسة الوطنية للجسور والطرق  l’Ecole des Ponts et Chaussées  (1986) وهي جامعة كبرى مرموقة في البلاد، ثم عمل في مؤسسات التخطيط  المُدني العامة في فرنسا.

مشروع Plan Verts de Beyrouth من تنفيذ المصمّم حبيب دبس (2014)

عاد حبيب إلى مسقط رأسه بعد نهاية الحرب الأهلية مباشرةً وأسس شركته الخاصة، أوربي، عام 1991. حظيت مؤسسته بصيتٍ ذائع في لبنان ثم في المنطقة بفضل جودة العمل وصارت مقصدًا للمهندسين المعماريين والمصممين المدينيين الشباب الطامحين لتجربة أسلوبه الملهم في التصميم. ومع أنّ أوربي هي في الأصل شركة خاصة ربحية، إلّا أنّها كانت تخصّص جزءًا كبيرًا من جهودها في مشاريع غير ربحية تطوّعية وتتعاون مع الجامعات ومراكز البحوث والجماعات الحقوقية والمنظمات غير الربحية واضعةً خبراتها في خدمة المدن والبلدات اللبنانية. أما بالنسبة للمشاريع التطوعية والمهنية العديدة التي كان يمنحها الاهتمام والتفاني نفسه، فقد عمل حبيب على وضع الخطط الشاملة والاقتراحات الاستراتيجية والأطر التنظيمية البديلة كما اقترح تصاميم مفصّلة للمساحات العامة. ومن بينها الخطة الاستراتيجية لقضاء صور (لبنان) وخطة إحياء التراث الثقافي في مدينة طرابلس (لبنان) بالإضافة إلى الخطط الشاملة لبلدات قضائي جزين وجبل لبنان وخطة كبرى لإعادة إنماء مدينة صيدا. كما تشمل مشاريعه عدة خطط لإعادة إحياء مدن قديمة في دمشق (سوريا) وبنغازي (ليبيا) وجدة (المملكة العربية السعودية)، بالإضافة إلى مشاريع التخطيط لمدن جديدة كالقاهرة الجديدة ومنطقة الطندباوي في مكة (السعودية). يلاحظ المطلع على هذه المشاريع انشغال دبس الدائم بالحفاظ على التراث وحماية البيئة وشغفه بوضع الناس في صلب اهتمام المصمّم، قبل كل شيء. وتُعتبر المشاريع المنفّذة (كطرابلس وجزين وجبل لبنان) مشاريع ناجحة تحمي التراث الطبيعي والعمراني وتوازن ما بين الحاجات الملحّة والمتطلبات الطويلة الأمد.

في بيروت، كان لحبيب مشاركات واسعة في صون التراث وتعاون مع العديد من الزملاء والمؤسسات المدنية، كما ألّف العديد من الاقتراحات منذ التسعينيات. لم يقتصر فهمه للتراث على المباني. يُعدّ المشروع الأخضر لبيروت Plan Verts de Beyrouth من أبرز مشاريعه، وقد شملت الدراسة المؤلفة من ثلاثة أقسام جميع أحياء بيروت من دون استثناء ووثقت مناظرها الطبيعية وخصائص تراثها المعماري بالتفصيل ثم  قدّمت رؤية عظيمة لتحسين خصوصية الحي ضمن استراتيجية شاملة للمدينة. بعد ذلك، وضع دبس إثباتًا للمفهوم من خلال مشروع المشاة Liaison Douce النموذجي لتحويل طريق دمشق إلى طريق صديق للمشاة. أمضى حبيب  في سبيل ذلك شهورًا طويلة في منطقة رأس النبع حيث عرفه السكان بصفة المصمّم الذي سيعيد للحي قابلية العيش. بعد ذلك بفترة، تطوّع دبس لتطوير رابط جديد للمشاة أعاد من خلاله تصوّر مسار طريق فؤاد بطرس السريع ليكون منتزهًا للعامّة، فعمل على تصميمه بلا كلل على مدار الأشهر الماضية. وبموازاة ذلك، تطوّع حبيب لوضع خطة متكاملة لتحويل ساحل بيروت إلى مساحة عامة. وسواء كانت المهام تطوعية أم مدفوعة الأجر، لم يكن تركيز حبيب منصبًّا إلّا على الفرق الذي  قد تحدثه تلك المشاريع.

إلى جانب ممارساته المهنية ونشاطاته الحقوقية، كان حبيب أستاذًا متفانيًا وعطوفًا في مادة التصميم في جامعة ألبا والجامعة الأميركية في بيروت. وكان يحثّ طلاب صفوف الاستديو على قضاء وقت أكبر في المواقع للمراقبة والاستفادة ممّا يتعلمونه عن المستخدمين وللموازنة ما بين حدسهم الشخصي وسياقات المشاريع المستهدفة. أما بالنسبة إلى ملاحظاته وتعليقاته عن عمل طلابه فقد كانت ذكية وسخية وبنّاءة وكان يحرص ألّا تؤذي مشاعرهم.

والأهم من كل ما سبق أنّ حبيب دبس ترك آثارًا خالدة من خلال مشاريعه التي تعترف بأحلام سكان بيروت وتطلّعاتهم. وبينما كان الكثيرون يتحدثون عن الشواطئ العامّة والمسارات الخضراء والحدائق الواسعة والتراث المحمي، كان حبيب يرسم تصاميم قابلة للتنفيذ لتلك المشاريع. ساعدتنا مخططاته على تصوّر حياة ممكنة نعيشها معًا بشكل أفضل. لقد رأى في تلك التصاميم وسيلة للانخراط في محيطه ومقاومة ذكرى الحرب الأهلية والجشع الذي حفّز التغيير المديني في أعقابها. ابتكر حبيب أسلوبًا جديدًا في ممارسة التخطيط والتصميم المديني يراعي الناس والتاريخ  ويحترم الطبيعة والبيئة إلى أقصى الحدود ويبدي استعدادًا تامًا لتقبّل احتمالات التغيير. فهم حبيب أنّ التحدي الأكبر يتمثّل بالحوكمة فأمضى جلّ ساعاته في إقناع صنّاع القرار في مجال التخطيط والسياسات العامّة بتبنّي مخططاته.

وبعيدًا عن العمل، كان حبيب زوجًا وأبًا محبًّا يقدّر العائلة والأصدقاء ويخصّص لهم الوقت على الدوام. كما كان يجد المتعة والمعنى في المشي الاستكشافي لمسافات طويلة مع أحبّته في جبال لبنان وسهوله، وقد امتدت رحلاته من جبل حرمون إلى إهدن فعمّيق وجرود الضنيّة. كان يستمتع بقراءة الفلسفة وشغوفًا بالموسيقى الكلاسيكية والفنون. لم يزر أحدًا إلّا حاملاً باقة من الزهور. كان دائم الضحك، كريم الأخلاق واليد، لا يتوانى عن مشاركة أي شيء، فيما عدا حلوى الشوكولا.

سنذكر حبيب المصمّم ذا الموهبة الفذّة والإنسانية العميقة الذي ناضل من أجل أفكاره حتى في أحلك الظروف ولم يفقد إيمانه بكل احتمالات التغيير. غادرنا حبيب يوم الجمعة في 10 شباط بعد صراع طويل مع المرض، محاطًا بزوجته وأبنائه. قدّم آخر عروضه وهو على فراش المرض في وحدة العناية الفائقة حيث أخذ يشرح لأحد زبائنه أهمية المساحة العامة، وقناع الأوكسجين ما زال على وجهه، في اجتماع أجراه عن بعد عبر جهاز اللابتوب الموضوع على الطاولة المحاذية لسريره. ستحتفظ ذاكرتنا بهذه الصورة الأخيرة له: حبيب الإنسان الذي لم يحد عن مبادئه قيد أنملة حتى الرمق الأخير.


نشرت هذه التحية التكريمية لحبيب الدبس للمرة الأولى على موقع مختبر المدن، وترجمته زينة الحصّ عن النسخة الانكليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني