بعد 25 عاماً من السيطرة على القطاع: هل تُقصى “ليبان بوست” عن مزايدة البريد؟


2022-11-11    |   

بعد 25 عاماً من السيطرة على القطاع: هل تُقصى “ليبان بوست” عن مزايدة البريد؟
صورة من الموقع الالكتروني الرسمي ل "ليبان بوست"

منذ العام 1998، لا تزال شركة “ليبان بوست” صامدة في مكانها. الأدقّ أنها تمددت بشكل يخالف العقد الموقّع معها. فبعدما لُزّمت الخدمات البريدية حصراً، تحوّلت إلى إدارة قطاع البريد بأكمله. محاولات إطلاق مزايدة جديدة لم تصل يوماً إلى خواتيمها، فكان البديل دائماً ابتكار المبررات لتمديد جديد للشركة نفسها. ذلك المسار بدأ منذ العام 2001 بالتلاعب بالعقد وتعديل مدته من 12 إلى 15 سنة، ثم استمرت مع التمديدات المتلاحقة، التي كانت دائماً مرتبطة بحجة التحضير لمزايدة جديدة. بالنتيجة، مُدد العقد سبع مرات، والتمديد الأخير أقره مجلس الوزراء الحالي قبل تحوّل الحكومة إلى تصريف الأعمال، ويستمر حتى 31/5/2023. في تلك الجلسة، أُقرّ دفتر شروط المزايدة الجديدة، التي عادت وأطلقتها وزارة الاتصالات في 18/10/2022 على أن تفضّ العروض في 24/1/2023. علماً أن قرار الحكومة يشير إلى أنه في حال نجاح عملية التلزيم يُمكن إجراء تسلّم وتسليم بين المديرية العامة للبريد وشركة ليبان بوست، ومن ثم تسليم القطاع إلى الجهة التي رست عليها المزايدة، من دون الحاجة إلى انتظار نهاية فترة التمديد. 

دفتر شروط موافق لملاحظات ديوان المحاسبة

على ما يؤكّد أكثر من مصدر مُتابع، فإنّ دفتر الشروط، الذي أعدّته مديرية البريد في وزارة الاتصالات، ووضعت إدارة المناقصات (قبل تحوّلها إلى هيئة الشراء العام) تعديلات عليه، جاء ليُراعي أغلب الملاحظات التي سبق أن عرضها ديوان المحاسبة في تقريره، الصادر في 8/6/2021، بشأن عقد تلزيم قطاع البريد إلى شركة “ليبان بوست” مع سائر تعديلاته وحصة الدولة من التلزيم، بدءاً من العام 2001 وحتى العام 2019، وبما يمنع تكرار التجربة السابقة. رئيس هيئة الشراء العام جان العلية يؤكد بدوره أن دفتر الشروط راعى عموما ملاحظات الديوان، وملاحظات الهيئة، وقبلها إدارة المناقصات. 

للتذكير، فإن أبرز توصيات الديوان شملت:

  • وجوب رفع النسبة المئوية التي تحصّلها الدولة من الإيرادات السنوية (كانت 5% واشترط للحصول عليها تحقيق إيرادات بقيمة 14.8 مليون دولار في السنة الأولى، ثم رفعت مؤخراً إلى 7.5% من دون أن تشمل هذه النسبة الخدمات غير البريدية، التي ذهبت أرباحها كاملة لصالح الشركة).
  • عدم الاكتفاء بأن تكون هذه الحصة مرتبطة بالخدمات البريدية حصراً، بل يجب أن تشمل الخدمات كافة.
  • إعادة النظر ببدلات الإيجار والمصاريف التشغيلية، والتي كانت مجحفة بحق الدولة، بحيث كانت تستفيد “ليبان بوست” من مراكز ملك الدولة بشكل شبه مجاني.
  • عدم جواز إجراء أي مقاصة مستقبلاً وتطبيق مبدأ سنوية التحاسب، إذ أن مسألة المقاصة هي واحدة من المشاكل التي لا تزال ماثلة حتى اليوم، فهي لم تنجز بعد، وإن أكّد المسؤول في الشركة شادي مغامس أن الأمر لن يتأخر وصار على مشارف الإنجاز. 

حصّة الدولة 10% على الأقل

تضمّن دفتر الشروط الجديد مخططاً لتقاسم الأرباح يُفترض أن يعيد التوازن المالي إلى العلاقة بين الدولة والملتزم، أولاً من خلال مشاركة الدولة في أرباح كل القطاع وليس فقط في الخدمات البريدية، وثانياً من خلال رفع نسبتها من الأرباح، بحيث لا تقلّ عن 10% في أي حال من الأحوال ويمكن أن تصل إلى 20% وربما أكثر. فقد اشترطت المزايدة أن يُحدّد العارض النسبة التي يدفعها سنوياً على أن لا تقلّ عن 10%، بحيث يتم تحديد السعر الأفضل وفق النسبة الأفضل بين العارضين المتأهلين فنياً. وهذه النسبة تُطبّق للعامين الأول والثاني بالنسبة لكل الخدمات المقدّمة (بريدية، غير بريدية مقدمة بصورة حصرية، غير بريدية غير مقدمة بصورة حصرية) على أن ترتفع في العامين الثالث والرابع، ثم في العامين الخامس والسادس، ثم عاماً فعام حتى العام التاسع والأخير، حيث تصل حصة الدولة إلى ضعف المبلغ المحدد في السنتين الأولى والثانية، أي في حال وضع العارض الحدّ الأدنى المسموح، فإن نسبة الدولة تصل إلى 20% على الخدمات البريدية و15% على الخدمات غير البريدية. 

كذلك تمّ تعديل شطور الإيرادات، إذ في العقد السابق لم يكن بالإمكان أن تحصل الدولة على أيّ نسبة إذا لم تتخطّ الإيرادات 14.8 مليون دولار (5%)، فيما يبدأ الشطر الأول في المزايدة الجديدة ب “أقلّ من 5 مليون دولار”، على أن يكون الشطر الثاني ما بين 5 و10 ملايين دولار وهكذا دواليك. 

تسعير الخدمات بالدولار

المشكلة المطروحة اليوم أن هذه الحسبة التي كانت واضحة عندما كان سعر الصرف ثابتاً طيلة فترة العقد السابق، لم تبقَ كذلك في ظل الأزمة الراهنة وتقلّب أسعار الصرف. ولذلك تشير مصادر وزارة الاتصالات إلى أن تسعير الخدمات سيتمّ بالدولار، من دون أن يُعرف بعد أيّ سعر صرف سيُعتمد. ويعتبر المصدر أن هذا الأمر ضروري لتحديد حصة الدولة، ولضمان تقدّم العارضين الأجانب. فالتسعير بالليرة، في ظل الوضع الراهن، لن يشجّع أحداً على التقدم للمزايدة. لا تتردّد مصادر مطّلعة في الإشارة إلى أنّ المتضرر الأول سيكون المواطن، لكنها تعيد التأكيد أنّها الطريقة الوحيدة المطروحة حالياً في ظل دولرة شبه كاملة للاقتصاد، خاصة أن هذه الخدمة لن تكون الوحيدة التي تسعّر بالدولار، إذ أن هذا التسعير سيطال أيضاً بعض الرسوم التي تحصّلها الدولة. 

“ليبان بوست” تشارك في المزايدة؟

بالرغم من أنه لا يزال هنالك أكثر من شهرين على فضّ العروض، إلا أن السؤال الأبرز المطروح حالياً هو: هل يحقّ لشركة “ليبان بوست” المشاركة في المزايدة؟ 

أكثر المتحمّسين لمشاركة الشركة هو وزارة الاتصالات، التي تعتبر أنه بعد إجراء المقاصة وتحصيل كامل حقوق الدولة التي حددها ديوان المحاسبة ووافقت عليها الشركة، لن يكون هنالك أي عائق أمام مشاركتها. لكن هذا الرأي ينقضه رأي آخر يؤكّد أنها لن تكون قادرة على الحصول على براءة ذمة، طالما أنه لا يزال هنالك قضية عالقة في مجلس شورى الدولة. فقد سبق ل “ليبان بوست” أن ادّعت على الدولة مطالبة بتعويضات، لكن عندما صدر تقرير الديوان ووافقت  الشركة على خلاصته، حاولت سحب الدعوى إلا أن هيئة القضايا في وزارة العدل أصرّت على المضي قدماً بها لتبيان أحقية الدولة في التعويض لا العكس. علماً أن مدير “ليبان بوست” إذ يرحب بإطلاق المزايدة، التي يعتبرها مطلباً أساسياً للشركة على مرّ السنين، فإنه يؤكد أنّ الشركة لم تحسم أمرها بعد من المشاركة أو عدمه، مشيراً في الوقت نفسه أن لا دعاوى عالقة بين الشركة والدولة، وهو ما تنفيه مصادر قضائية.

تختلف الآراء بين من يعتبر أن هذه الحالة تؤكد عدم جواز مشاركة الشركة في المزايدة إلى أن تثبت براءتها، وبين من يعتبر أن قانون الشراء العام ينص على عدم أهلية أي عارض عليه حكم قضائي للمشاركة، وبالتالي طالما أن لا حكم صادر بحق “ليبان بوست” فإن لا مانع من مشاركتها. أصحاب هذا الرأي يؤكّدون أن لا شيء اسمه “براءة ذمة من القضاء”، فإمّا تكون محكوماً أو لا، وهذا ما يفترض أن يتثبت منه المشرفون على المزايدة. ويُلحظ أنّ المادة السابعة من قانون الشراء العام، تنص على وجوب أن تتوافر بالعارضين عدداً من الشروط أبرزها ألّا يكون قد ثَبُتَت مخالفتهم للأخلاق الـمهنيّة الـمنصوص عليها في النصوص ذات الصلة، إن وُجدت؛ وألا يكون قد صَدَرَت بحقّهم أو بحقّ مديريهم أو مستخدميهم الـمعنيين بعملية الشراء أحكام نهائية ولو غير مبرمة تُدينهم بارتكاب أيّ جرم يتعلّق بسلوكهم الـمهني، أو بتقديم بيانات كاذبة أو ملفّقة بشأن أهليّتهم لإبرام عقد الشراء أو بإفساد مشروع شراء عام أو عملية تلزيم، وألّا تكون أهليّتهم قد أُسقِطَت على نحوٍ آخر بمقتضى إجراءات إيقاف أو حرمان إدارية.

مقاصّة بالليرة

تجدر الإشارة إلى أن ديوان المحاسبة كان أكد في تقريره وجود أخطاء باحتساب المقاصة التي سعت وزارة الاتصالات إلى إجرائها مع الشركة في العام 2018 (قرار عن مجلس الوزراء رقم 64 تاريخ 26/4/2018 قضى بتفويض وزير الاتصالات التفاوض مع شركة “ليبان بوست” بشأن احتساب الفارق بين مستحقّاتها من الوزارات والمؤسّسات العامّة والبلديات لقاء نقل بريدها، ومستحقات وزارة الاتصالات، وتنظيم مخالصة وإبراء بين الطرفين وعرضه على مجلس الوزراء). وبدلاً من دفع الدولة للشركة مبلغ 3.259 مليار ليرة الذي تطالب به، أكد الديوان أنّ الشركة مدينة للدولة بمبلغ 1.545 مليار ليرة، علماً أن هذا المبلغ كان يساوي قبل الأزمة مليون دولار، فهل يجوز أن تتم التسوية اليوم بالليرة؟

المقاصة التي لم تجرِ يوماً، منذ العام 2001 (عندما تخلت شركة “كندا بوست” عن إدارة القطاع)، لم تكن وحدها سبباً للشك. فقد كشف التقرير نفسه الكثير من الشوائب، التي فنّدتها، أيضاً، لجنة الاتصالات النيابية بشكل رسمي في جلسة عقدتها في 1/4/2021. بدا جلياً في تقرير الديوان أنّ كلّ التعديلات التي أجريَت على العقد الأساسي أتت لصالح الشركة وأضرّت بالمال العام، وأدت عملياً إلى تربّعها على عرش القطاع لمدة 25 عاماً. على سبيل المثال، شمل التعديل الثاني على العقد (آب 2000) تخفيض بدلات الإيجار لمركزيْ بيروت للفرز في المطار وفي مركز رياض الصلح من مليون و200 ألف دولار إلى 600 ألف دولار فقط. علماً أنّ الإدارة وضعت في تصرّف الشركة 34 مركزاً في مختلف المناطق من دون أي بدل (مكاتب بريدية في الأبنية الحكومية أو مكاتب بريدية تملكها الإدارة في أبنية مشتركة). ولذلك، ينصّ دفتر الشروط على تأجير مركزي المطار ورياض الصلح للملتزم بمبلغ 1.5 مليون دولار، على أن يحدد الملتزم لاحقاً المكاتب التي يحتاجها ويدفع إيجارها.  

هل يحتاج تلزيم البريد إلى قانون؟ 

هذا التعديل كان يهدف أساساً إلى مواجهة اعتراض الشركة من غياب الحصرية، بحيث كانت شركات عدّة توزّع البريد الداخلي. علماً أن هذه الحصرية كانت محلّ اعتراض سابقاً وساهمت في التعديل الأول للعقد (حزيران 1999). فبعد توقيع العقد في تموز 1998، طرأت إشكالية تتعلّق بطبيعته القانونية. رأيٌ اعتبر أنه يستند إلى المرسوم الاشتراعي رقم 126 للعام 59 الذي يجيز للإدارة تلزيم نقل المراسلات البريدية. وهو بالتالي لا يدرج ضمن أحكام المادة 89 من الدستور التي تشير إلى عدم جواز تلزيم المصالح ذات المنفعة العامّة أو أي احتكار إلّا بموجب قانون. ورأي آخر يعتبر أنّ تفويض مجلس النوّاب للإدارة يقتصر على تلزيم عملية نقل البريد حصراً، وبالتالي فإنّ البريد، بوصفه مرفقاً عامّاً يبقى ملكية الدولة. ولمّا كان المستشار القانوني لوزارة الاتصالات والبريد يتبنّى هذا الرأي، فقد تقرّر إعادة التفاوض مع الشركة لإعادة النظر في تحديد مضمون العقد وتعديل بعض الأحكام الواردة فيه، ولا سيما ما يتعلّق بالحصريّة. اللافت أنّ شريحة واسعة من المعنيين بالمزايدة تعتبر أن تلزيم القطاع البريدي بشكل حصريّ لا بدّ أن يندرج في إطار المادة 89 من الدستور، فهذا احتكار مصلحة ذات منفعة عامة. رغم ذلك، بدا لافتاً ان أحداً لم يتطرّق إلى هذه النقطة، بحجة السعي إلى عدم عرقلة المزايدة، التي يفترض أن تنهي مرحلة طويلة من هدر المال العام. 

يكفي للدلالة عليها ما ورد في تقرير الديوان عن أن 20 عاماً من تلزيم الخدمات البريدية لم تحصل الدولة خلالها سوى على 5 مليار ليرة، في حين حقق لها العام 1997 وحده، حين كانت تدير القطاع عبر المديرية العامة للبريد مباشرة، إيرادات قاربت 8 مليار ليرة. 

7 تمديدات لـ”ليبان بوست”

لم يحل غياب الإيرادات من تأكيد “ملكية” شركة “ليبان بوست” للقطاع البريدي في لبنان، بحيث بدا بديهياً للحكومات المتعاقبة الاستمرار في تمديد عقدها مقابل المماطلة في إجراء مزايدة جديدة، من دون أن تتضح الأسباب. وعملياً لولا التقرير الصادر عن ديوان المحاسبة، والذي يتضمن موبقات أكبر من أن تخفى، ربما لكان التمديد هو سيد الموقف مجدداً، خاصة أن ثمة من كان يحلم بالتمديد لها ل12 سنة جديدة، مكتفياً بتعديل العقد. وللتذكير، سبق أن مُدّد عقد “ليبان بوست” سبع مرات، هي كالتالي: 

  • كان يفترض بالعقد المُوقّع مع الشركة في العام 1998 أن ينتهي في العام 2010 (12 عاماً)، لكن في 20 آب 2001 تم تعديل فترة العقد من 12 إلى 15 سنة قابلة للتجديد 3 سنوات، ودخل حيّز التنفيذ في 16 حزيران 2000، وانتهى في العام 2015.
  • بعد انتهاء المدة الأساسية للعقد، مدّد وزير الاتصالات بطرس حرب، 19/8/2015، لثلاث سنوات كان ينص عليها العقد. 
  • بعد انتهاء فترة العقد مع فترة التمديد المنصوص عليها، مدد مجلس الوزراء، 5/9/2019، العقد لمدة ثمانية أشهر تنتهي بتاريخ 15/5/2020 (قدم حينها وزير الاتصالات محمد شقير اقتراحاً للتمديد للشركة لـ12 سنة جديدة مع تعديل في بنود العقد).
  • في 5/5/2020، مدد مجلس الوزراء العقد حتى نهاية 2020. 
  • بموجب موافقتين استثنائيتين موقّعتين من رئيسيْ الجمهورية والحكومة، مدّد العقد مجدداً حتى نهاية شهر حزيران 2021، ثم حتى نهاية 2021.
  • مدد مجلس الوزراء العقد من 1/1/2022 وحتى نهاية نيسان 2022، مع تكليف وزارة الاتصالات إطلاق المزايدة ضمن هذه الفترة، علماً أن الوزارة كانت قد أودعت دفتر الشروط في الأمانة العام لمجلس الوزراء التي حوّلتها بدورها إلى إدارة المناقصات، لإبداء ملاحظاتها.
  • عندما أقرّ مجلس الوزراء دفتر الشروط المناقصة في أيار 2022، وافق على التمديد للشركة حتى أيار 2023، فهل يكون هذا التمديد هو الأخير، وتكتفي شركة “ليبان بوست” بإدارة قطاع البريد ل25 سنة، أم أنها ستستمر ل 9 سنوات جديدة، في حال تقدّمها وفوزها بالمزايدة؟
انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني