انتظار جلاء المفقودين يخيّم على ذكرى قارب الموت في طرابلس


2021-09-11    |   

انتظار جلاء المفقودين يخيّم على ذكرى قارب الموت في طرابلس

عام مضى على مأساة قارب الموت الذي غادر عاصمة الشمال طرابلس في 14 أيلول 2020 متجهاً إلى قبرص حاملاً بعض فقراء البلاد الهاربين من جحيم أزمة السلطة، ليحلموا بتأمين ظروف أفضل في بلاد عزّت فيها الحياة الكريمة. يومها غرق الزورق في عرض البحر وذهب ضحيّته 7 أشخاص بينهم طفلَيْن، فيما لا يزال أربعة شبّان مفقودين، وثلاثة من الذين ادّعت عليهم القاضية سمرندا نصّار في قرارها الظنّي فارّين من وجه العدالة. والأهمّ أنّ “تجّار الموت” ما زالوا يعدّون العدّة لإطلاق مراكب أخرى حيث تدور المعطيات من بيت إلى بيت حول مراوحة كلفة المغادرة إلى قبرص من 1500 إلى 2000 دولار. يحصل هذا مع ازدياد موجة الهجرة الشرعية وغير الشرعية منها ومع اشتداد الأزمة وافتقاد أساسيات الحياة في لبنان من كهرباء ووقود بنزين ومازوت وغاز، وحتّى المياه في بعض المناطق، عدا عن وصول معدّلات البطالة إلى درجة غير مسبوقة وانهيار رواتب العاملين في القطاعات النظامية.

وتحلّ الذكرى الأولى للمأساة الطرابلسية والوطنية تحت مظلّة الانتظار: عائلات المفقودين تنتظر جلاء مصيرهم، أهالي الضحايا يترقّبون القبض على المدّعى عليهم بتهمة “التسبّب بالقتل العمد والاستيلاء على أموال الفقراء بالطرق الاحتيالية”، كما ورد في القرار الظنّي للقاضية نصّار، طلب “إحالتهم على محكمة الجنايات”. وفي مقابل المفقودين والآملين بإحقاق العدالة، هناك من ينتظر جهوزيّة قوارب جديدة رغم مخاطرها التي يبدو أنّها أسهل عليهم من تحمّل الأمور التي وصلوا إليها في وطنهم اليوم.

وكانت القاضية سمرندا نصّار قد أصدرت في كانون الأوّل 2020، قرارها الظنّي في قضيّة القارب “إميل” للهجرة غير الشرعية الذي عثرت عليه اليونيفيل إثر مهمّة دقيقة في عرض البحر في تاريخ 14 أيلول 2020.  وعلى متنه 37 شخصاً بينهم امرأة متوفّاة. وادّعت نصّار على برهان القطريب، أحمد علي صوفان، ربيع أحمد صوفان، بشّار حسين الخير، وسمير أحمد صوفان”، بالتسبّب بالقتل عمداً والاستيلاء على أموال الفقراء بالطرق الاحتيالية، وطالبت بإحالتهم إلى محكمة الجنايات لمحاكمتهم.

واعتبرت القاضية نصّار في قرارها أنّ المدّعى عليهم كانوا “يعلمون بأنّ المسافرين هم عرضة للموت من دون وجود كمّيّة الوقود الكافية ومن دون طعام ولا ماء، ويدركون أنّهم سيلقون حتفهم لا محالة”. وقد توفّي فعلاً عدد من الركاب من ضمنهم الطفلان محمّد وسفيان المحمّد، والمواطنون محمّد الحصني وشادي رمضان ومحمّد شادي عسّاف، إضافة إلى سيّدة مسنّة وشابَّيْن من الجنسيّة البنغلادشية، فيما فُقد كلّ من مصطفى الضنّاوي وابن خالته عبد اللطيف حيّاني ومحمّد خلدون محمّد وهشام صوفان.

وعشيّة ذكرى مرور عام على مأساتهم، عاد الأهالي إلى الشارع حيث اعتصموا في ساحة القبّة للمطالبة بـ”الكشف عن مصير أبنائهم المفقودين”، وللتذكير بأنّ أمهات وآباء يعيشون على أمل عودتهم.

العودة حتمية

على شرفة منزلهما المطلّة على نهر أبو علي في طرابلس، يجلس الحاجّ فوّاز وزوجته منى صامتَيْن ومتأمّلَيْن في الأفق، عسى أن يعبر ولدهما مصطفى الضنّاوي الجسر الذي يعلو النهر عائداً بعد عام من الانتظار.

لم تعد الأمّ منى تقوى على تخيّل الأوضاع التي يمكن أن يكون عليها ابنها فهو “أمرٌ مرهق نفسياً”، فيما تختصر عيون الأب فوّاز الحسرة والألم على الذي خرج مع مَن خرجوا على أمل “الحياة الجديدة”. غادر مطصفى، الشابّ العشريني، لبنان برفقة ابن خالته عبد اللطيف حيّاني، بعد أن بلغا مرحلة اليأس من تغيير الواقع.

يتحدّث الأهل عن محاولة محاربة ابنهما مع رفاقه ما يسمّيانه الموت السريري للبلاد، فقد كان ناشطاً وفاعلاً في انتفاضة 17 تشرين ليطالب بحياة أفضل، وبتأمين الحقوق الأساسية، “لكنّ الممارسات القمعية، والتضييق المستمرّ، والتوقيفات المتكرّرة، دفعته إلى التخطيط مع مجموعة من معارفه وغيرهم لشدّ الرحال نحو قبرص”، كما تقول العائلة. تستذكر أمّ مصطفى الاتّصال الأخير معه عندما كان على متن القارب، و”بعدها انقطع الاتّصال بالمهاجرين نهائياً”.

يضع الوالدان احتمالَيْن لمصير ابنهما لا ثالث لهما: “إمّا وصل إلى قبرص أو إلى الأراضي الفلسطينية المحتلّة”، لأنّه لو أصابه مكروه “لا سمح الله، لكان لفظه البحر”. تتحدّث والدته عن جهود بذلتها من أجل عودته، قامت بكلّ ما في وسعها من تواصل وبلاغات إلى الأمن العامّ اللبناني، اليونيفيل، والصليب الأحمر، في إطار تقديم العائلات كلّ ما لديها من بيانات، معلومات، ومعها عيّنات الحمض النووي. ولم يبقَ لديها سوى الانتظار.

ومع فقدان مصطفى، توقّفت عقارب الحياة. تعيش العائلة في القلق، الأعصاب متوتّرة داخل المنزل بشكل دائم، فيما تترافق “الدمعة الحارقة” مع “حالة من الشرود”، لأنّ “الضنى غالي” و”الفراق صعب وشديد الوطأة”. فحسب الأب “لا تفارق صورة مصطفى وبسمته مخيّلة العائلة، وهو حاضر في كلّ لحظة وموقف، فقد كان خفيف الظلّ وكثير المزاح”. ولا تكفّ العائلة عن البحث في ألبوم الصور على ضحكات الشابّ العشريني، وكذلك مشاهدة الفيديو الأخير الذي يوثّق انطلاق القارب المزدحم باليائسين من الواقع، الساعين إلى حياة جديدة عبر قبرص كمحطّة انطلاق نحو الغرب، وسرعان ما انقطع الاتّصال بهم بالمطلق.

لم يمرّ غياب مصطفى على أمّه منى ألماً وقلقاً فقط، إذ أصابتها جلطة في الطرف الأيسر، وهي تتماثل حالياً للشفاء. وعلى الرغم من التسليم بالقضاء والقدر، تُحمِّل العائلة جزءاً كبيراً من المسؤوليّة لأهل السلطة في فقدان أولادهم، لأنّهم حرموا الشعب اللبناني كلّ مقوّمات الحياة، ودفعوا شبّانه دفعاً نحو الهروب والهجرة. وتلفت الوالدة إلى أنّها تلقّت “في 29 حزيران الماضي، اتّصالاً من مخفر القبّة، ظنّت في بدايته أنّ لديهم معطيات جديدة عن ابنها، لتتفاجأ بإبلاغها بوجود مخالفة “ضبط” بمليون ليرة بحقّه بسبب مشاركته في أعمال “الشغب مع الثوّار”، مطالبةً بالبحث عنه “كما يتمّ البحث عن المخالفة ومال الضبط”. وتتحدّث منى، أمّ مصطفى، عن شقيقتها سميرة الشامي، والدة عبد اللطيف حيّاني، التي أتعبها غياب ابنها لعام كامل و”لا شيء جديد في الملفّ”، وهي “مثلي تنتظر اتّصالاً يحمل أخباراً إيجابية”.

الانتظار المرّ

“لا تملك عائلات المفقودين سوى الانتظار والأمل”، يقول خلدون محمّد، والد المفقود محمّد المحمّد، مشيراً إلى أنّ الأمور “لم تتطوّر إلى سوى توقيف شخصَيْن ’ب. ق.‘، و’ب.خ.‘. ويكشف أنّ “الأهالي يخطّطون للتظاهر أمام بوّابة فاطمة عند الحدود الجنوبية للضغط على الاحتلال للإعلان عن أيّ معطيات قد تكون لديه بشأن المفقودين”. ويلفت إلى أنّ الصليب الأحمر اللبناني اتّصل بالأهالي من أجل الحصول على البيانات والأوراق الثبوتية للشبّان في شهر أيّار الماضي. كما تلقّوا وعداً من مدير عامّ الأمن العامّ عباس إبراهيم في متابعة الملفّ في أعقاب زيارتهم له.

يختصر والد المفقود محمّد المحمّد حال الأهالي بعبارة “أصعب شي يمكن أن يعيشه الإنسان هو الانتظار واستمرار العيش على أمل”، فبيوت هؤلاء “غارقة في جوّ من الحزن، وتحديداً الأمّهات”، و”نحن نعيش فقط على الأمل”. ويختم خلدون المحمّد حديثه بتوجيه نداء إلى كلّ الشبّان “كأب أطالب كلّ الشباب بعدم الهجرة في البحر، لأنّه طريق هجرة غير شرعية ويشكّل بيئة للنصب والاحتيال، ولأنّ مَن يهاجر عبره كأنّه يسير إلى الموت برجلَيْه على يد العصابات التي تتاجر بأرواح البشر”.

إعادة الروابط العائلية

يعمل الصليب الأحمر اللبناني على متابعة ملفّ المفقودين في قوارب الهجرة غير الشرعية، وتؤكّد مصادره لـ المفكّرة القانونية أنّه “يتمّ متابعة كلّ إبلاغ عن فقدان شخص جرّاء كارثة أو حدث أمني”. ويعمل الصليب الأحمر اللبناني على إنشاء ملفّ خاصّ بأيّ مفقود، انطلاقاً من مهمّة “إعادة الروابط العائلية” لأيّ شخص فُقِد داخل لبنان أو خارجه، موضحاً أنّه “يتمّ التنسيق مع المنظّمات غير الحكومية والجمعيّات الوطنية للصليب الأحمر أو الهلال الأحمر في البلدان التي توجّهت إليها قوافل الهجرة غير الشرعية في قبرص، اليونان، وتركيا”.

يتحفّظ الصليب الأحمر اللبناني عن الخوض في الأسماء وأعداد الحالات التي تمّ توثيقها انطلاقاً من خصوصيّة الأفراد والعائلات. في المقابل، يدعو أهالي المهاجرين غير الشرعيين للتواصل الفوري مع الصليب الأحمر اللبناني في حال فقدان الاتّصال مع الركّاب، و”تقديم طلب بحث تبقى معلوماته سرّية، ويتطلّب موافقة الأهل للبدء بعمليّة البحث مع الجهات الرسمية، المحلّية والدولية”. ولا تخضع عمليّة البحث إلى هامش زمني، وتستمرّ إلى حين “طلب الأهل إقفال الملفّ”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني