من فشل إلى فشل تنتقل مزايدة إدارة قطاع البريد في لبنان، من دون أن تقوم وزارة الاتصالات بأي جهد فعلي لإنجاحها. في المرة الأولى، بشّر وزير الاتصالات بمفاجأة لناحية عدد المشاركين في المزايدة، قبل أن يتبيّن عدم تقديم أي عرض. وفي المرة الثانية، قُدّم عرض وحيد سرعان ما تمسّك به الوزير وأعلن فوز مقدّمه بالصفقة، قبل أن يتراجع تحت وطأة تأكيد هيئة الشراء العام أن العرض غير مطابق لدفتر الشروط ويمكن أن يضرّ بالمال العام. وفي المرة الثالثة، تكرر الأمر نفسه، حيث تبيّن في جلسة التلزيم، التي عُقدت أمس، أنه لم يتقدّم إلى المزايدة سوى عارض وحيد، لم يكن سوى مقدم العرض السابق، أي ائتلاف شركة “Merit Invest” اللبنانية المملوكة من شركة CMA CGM وشركة Colis privé france المملوكة من الشركة نفسها. لكن هذه المرة تريّث وزير الاتصالات ليومين في إعلانها فائزاً مؤقتاً بالصفقة، معلناً التزام العارض بكل الشروط والمعايير المطلوبة. لكن المشكلة الأساس أن وزارة الاتصالات تخلّت عن أبرز عنصر من عناصر المزايدة أي المنافسة، فغيّبتها تماماً، من خلال اقتصار مهلة تقديم العروض على 5 أسابيع فقط، وهو ما يعني حكماً حرمان أيّ عارض جدي أو جديد من تحضير ملفه. وهذا ما أكدت عليه الاعتراضات التي تلقتها المديرية العامة للبريد في وزارة الاتصالات وتعاملت معها بخفة، توحي أنها متحمسة لإنجاز الصفقة بعارض وحيد أكثر من حماستها للإنجاز مزايدة تساهم في الحصول على أفضل العروض والأسعار.
وفيما تبين أن 4 شركات اشترت دفتر الشروط، فإن اثنتين منها (شركة “غانا بوست” المحدودة وشركة “تراست تريدينغ” المتحالفة مع شركة “دي أتش أل”) قدّمتا اعتراضاً للمديرية تطلبان فيه تمديد مهلة تقديم العروض، علماً أن شركة “بريد مصر” التي كانت أبدت اهتمامها أيضاً بالمشاركة، تواصلت مع المديرية طالبة تمديد المهلة أيضاً، من دون نتيجة.
وبذلك، تخلّت المديرية طوعاً عن فرصة مشاركة 4 عارضين على الأقل، اثنين منهم يضمّان شركة بريد وطنية، مع احتمال تقديم عرض خامس من “سي كوم” التي اشترت دفتر الشروط وكانت تسعى للتحالف مع شركة بريد أيضاً. لكن كل ذلك لم يجد فيه مديرالبريد ما يستدعي التأجيل. وأكثر من ذلك، لم يتردّد يوسف نفسه في التعامل باستهتار مع اعتراض شركة “تراست تريدينغ”، فجاء في ردّه على كتابها: “إننا لا نرى أيّ لزوم لإعطاء مهلة إضافية وذلك حفاظاً على مصداقية الدولة – وزارة الاتصالات كون جميع النقاط المثارة في كتابكم سطحية ولا تمتّ إلى جوهر المزايدة بشيء”. علماً أن الشركة كانت أوردت عدداً من الملاحظات والاستفسارات الجدية التي كان يفترض بالإدارة الإجابة عليها بجدية أيضاً، إذا كانت فعلاً حريصة على مصداقية الدولة. فعلى سبيل المثال، أشارت الشركة إلى عدم تضمّن جدول معايير التقييم أي معيار ذي صلة بالكفاءة والخبرة البريدية، وبالتالي لا يمكن تقييم الكفاءة الفنية وصلاحية الخطة التشغيلية وجاذبية ومصداقية خطة العمل لمشارك لا يتمتع بالخبرة. كما لم يتضمّن الجدول المذكور أيّ معايير تعطي أفضلية لصاحب الخبرة البريدية. أضف إلى أن الشركة كانت اعترضتْ على عدم ملاءمة المهلة الممنوحة من قبل الجهة الشارية للمتطلّبات الموضوعة في دفتر الشروط، حيث حددت المهلة 5 أسابيع من الإعلان لتقديم العروض، في حين أن الشروط المدرجة تحتاج مدة 3 أشهر على الأقل لتجهيز الوثائق والمستندات واستكمال العرض بصيغته النهائية. علماً أن هيئة الشراء كانت راسلت مديرية البريد بدورها وأكدت على الملاحظات التي سبق أن عرضتها من دون الأخذ بها، كما أكدت على أحقية عدد من الملاحظات والاستفسارات المقدمة من الشركة، ولا سيما ضرورة إعطاء مهلة كافية للعارضين لتقديم عروضهم.
بالنتيجة، لم تكترث الوزارة لا لتعزيز المنافسة ولا للحصول على عروض من شركات بريدية، بل سارت باتجاه واحد هو تعزيز حظوظ شركة “ميريت إنفست” التي تحيط شكوك جدية بها لناحية اعتبارها وجهاً آخر لشركة “ليبان بوست” التي فضلت عدم المشاركة في المزايدة (ثمة دعوى عالقة بينها وبين الدولة)، ربطاً بتملّك بنك سرادار، مالك أسهم “ليبان بوست”، أسهماً في شركة “ميريت”. وهو ما تحقق فعلاً إذ أن عرض الشركة بدا هذه المرة أكثر متانة ومراعاة لدفتر الشروط المعدّل، على ما جاء في التقرير الذي أعدته لجنة التلزيم برئاسة المدير العام للبريد محمد يوسف، وعضوية 4 موظفين من الوزارة، وحضور المراقب المنتدب من هيئة الشراء العام عمر البراج، القاضية في مجلس شورى الدولة ميراي داود، الخبير المالي ريمون ضو، بالإضافة إلى 4 ممثلين عن الائتلاف مُقدّم العرض.
وبعد التدقيق بالعرض الإداري ثم العرض الفني، حيث تبيّن للجنة أنهما يراعيان كل المعايير المطلوبة، فُضّ العرض المالي، فتبين أن الشركة تعطي نسبة مشاركة للدولة في الإيرادات تبلغ 12% (الحد الأدنى المطلوب في دفتر الشروط 10%) للسنوات الثلاث الأولى، على أن يرتفع إلى 12.5 في السنوات بين الرابعة والسادسة، وإلى 13% للسنوات الثلاث الأخيرة.
وكان لافتاً عند فضّ العرض الفني إرفاق خطة العمل بمذكرة تفاهم بين شركة “ميريت” وشركة LA Poste (شركة فرنسية تعمل في مجال توفير الخدمات البريدية وخدمات البريد السريع والطرود) حيث تضمنت المذكرة ما يفيد بأنه إذا تمّت ترسية العقد على الائتلاف فإنّ شركة LA Poste مستعدة لدعمه. وهذا الأمر بالرغم من أنه لزوم ما لا يلزم، إذ أن التقييم يتم على أساس خبرة الشركات المؤلفة للائتلاف فقط، فإنه يؤكد سعي الشركة إلى “إغراء” اللجنة بالإعلان عن مذكرة تفاهم غير ملزمة مع شركة خدمات بريدية. كما يشكل اعترافاً من الائتلاف بأنه لا يملك الخبرة في الخدمات البريدية، وهو ما يفترض أن يكون محور الصفقة. علماً أن هذه النقطة كانت محل اعتراض من هيئة الشراء العام، التي رفضت توسيع الوزارة لدفتر الشروط. فبينما تعتبر الهيئة أنه من البديهي أن ترتبط خبرة الشركات المتقدمة بموضوع المزايدة، أي “تلزيم الخدمات البريدية”، ما يعني تلقائياً وجوب أن تكون الشركات المتقدمة شركات بريد، أي تدير قطاع البريد في دول أو مقاطعات، إلا أن الوزارة لم تر الأمر بهذا الشكل، فخففت من شروط المشاركة من خلال ابتداعها لشرط لا معنى له إذا كان المتقدم شركة بريد وطنية هو شرط امتلاك العارض ترخيصا لنقل مواد البريد أو المراسلات أو الطرود أو الرزم الصغيرة. هكذا لم يعد مطلوبا استقطاب شركات بريد كبرى بل يمكن لشركة لا خبرة لها في إدارة المرفق البريدي، كائتلاف “ميريت” و”كوليه بريفيه”، أن تشارك في المزايدة أيضاً، مستفيدة من عدم تمييز الوزارة في التقييم بين شركة بريد وطنية وشركة توصيل البضائع التي يتم شراؤها عبر المواقع الإلكترونية، بالرغم من الفارق الشاسع بين عمل كل منهما. وهو ما بدا تعبيداً للطريق أمام “ميريت” إلى المزايدة الثالثة.
يبقى الحسم في يد هيئة الشراء العام مجدداً. وفيما يتوقع أن تطلب الملف لدرسه، ينتظر من موقفها أن يحسم وجهة المزايدة، فالوزارة قد أخلّت بأهم عنصر من عناصر أي صفقة، أي المنافسة وتساوي الفرص بين العارضين. فهي في مهلة الخمسة أسابيع لم تعط فرصة لأي شركة جديدة لتحضير ملفها، فيما كانت المهلة كافية لتحالف “ميريت” – “كوليه بريفيه” لإجراء تعديلات على العرض الذي سبق أن قدمته. أضف إلى أن الحرص على مصلحة الدولة يفرض التمهل في فض العروض، طالما وصلت للإدارة طلبات من شركات بريد دولية لتمديد المهلة، بما يعزز المنافسة ويسمح بإجراء مزايدة فعلية لا شكلية مفصّلة على قياس تحالف سبق أن فشل في تلبية شروط الصفقة، وهو كان سيفشل مجدداً لولا أن الوزارة تخلّت عن شرط وجود شركة تملك خبرة في موضوع المزايدة أي الخدمات البريدية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.