طرحت الوسائل الإعلامية مؤخراً ظاهرة زواج القاصرات الذي بقي مباحاً في عدد من القوانين الطائفية. وفي إطار مساهمتها في النقاش، أجرت المفكرة القانونية عدداً من المقابلات مع أربعة قضاة ينتمون مناصفة الى المحكمة الشرعية السنية والمحكمة الجعفرية. خلاصة اللقاءات كانت واضحة: شرعنة لزواج القاصرات تحت عنوان “الزواج المبكر” في سياق يعيد ترسيم حدود الطفولة ضمن إطار شرعي ضيق (المحرر).
القضاء الشرعي يعيد صياغة إشكالية زواج القاصرات: العبرة في البلوغ
بمجرد طرح إشكالية زواج القاصرات أمام قضاة المحاكم الشرعية (السنية والجعفرية)، يحرص هؤلاء على إعادة صياغتها وفق تعريفاتهم ومقاييسهم الدينية والفقهية. في هذا السياق، يسارع أحد القضاة الجعفريين الذين قابلناهم الى تصحيح السؤال المطروح ليصبح كالآتي: “هل يجوز تزويج الصغيرة؟”. والصغر وفقاً له، مرتبط بغياب مؤشرات البلوغ الجسدية المتمثلة “بالحيض ونبات الشعر” في أنحاء معينة من جسد الفتاة. كذلك وفي الاتجاه نفسه، يشير قاضي من الحكمة الشرعية السنية الى أن الجدل حول زواج القاصرات ينحصر في المرحلة العمرية التي تسبق بلوغ التسع سنوات. ومن هذا المنطلق، يستأنس القضاء الشرعي لمبدأ قوامه أن البلوغ الظاهري المتمثل بالنمو الجسدي، كفيل بمحو معالم الطفولة، وهو يفرض تهيئة لولادة (قيصرية) لمرحلة “الرشد”. إعادة الصياغة هذه من شأنها أن تؤدي، بشكل أو بآخر، الى إلغاء الحدود الفاصلة بين الطفولة والرشد كما رُسمت بموجب اتفاقية حقوق الطفل للعام 1989 حيث حسم النقاش لجهة تحديد هوية الطفل بأنه كل شخص لم يتجاوز 18 سنة، وكذلك فعل القانون اللبناني. كما أنها تطرح جدلاً غير مألوف، إذ نحن بصدد السؤال عن تزويج صغيرة، أي تزويج طفلة ما دون التسع سنوات، ما ينبّه الى وجود فرضيات فقهية من شأنها أن تضاعف مشاعر القلق بالنسبة الى ما تثيره اليوم مسألة زواج القاصرات في النقاش العام.
تبعاً لذلك، تغيب أي حماية خاصة للقاصرات (بالمعنى القانوني) أمام المحاكم الشرعية، حيث تصبح القاصرة بفعل الزواج، راشدة تطبّق عليها جميع الأحكام الشرعية المترتبة على الزواج (واجباتها الزوجية والطلاق الخ..).
أما مسألة البتّ ببلوغ الفتاة، فهي تخضع لتقدير القاضي بشكل أو بآخر. فالأخير يحدد قابلية الفتاة للزواج، كخطوة أولى، بتفحص بنيتها ومظهرها وطولها بحثاً عما يثبت توافر عوالم “أنثوية”. وبعد هذا الفحص النظري، يتم تحويل الفتاة الى طبيبة مُحلَّفة من قبل المحكمة لإخضاعها لفحص نسائي يؤكد أن عملية البلوغ قد تمت وأنه باستطاعة الفتاة أن تتزوج وأن تتحمل العملية الجنسية وفق تعبير قاض من المحكمة الشرعية السنية.
هذه الاستنسابية معززة بعدم وجود نص شرعي واضح يحدد سن الزواج أمام المحاكم الجعفرية، وهي تطرح تساؤلات في ظل قانون ملتبس يطبّق أمام المحاكم الشرعية السنية. فقانون حقوق العائلة[1] ينص في مادته الخامسة على أنه يشترط في أهلية النكاح أن يكون سن المخطوبة 17 سنة فأكثر. إلا أن المواد التي تلي، تذلل هذا الشرط لتعطي القاضي الحق بتزويج “المراهقة التي لم تتم 17 من عمرها إذا ادّعت البلوغ وكانت هيئتها تحتمل ذلك” (المادة 7 من قانون حقوق العائلة). وهي تنتهي في هذا الإطار الى ذكر سن أدنى للزواج هي تسع سنوات. يضاف الى هذه المعادلة العرف المعمول به أمام المحكمة، حيث يعتمد مثلاً جميع القضاة الذين قابلناهم الاستثناء كقاعدة أساسية، باستثناء أحد قضاة المحكمة الشرعية السنية الذي يرفض إبرام عقد زواج فتاة لم تبلغ 17 سنة، تقيّداً بالشرط المنصوص عليه في المادة 7 من قانون العائلة. والى ذلك، يسجل القضاة عدم وجود حالات فتيات تحت 13 أو 14 سنة أمام المحاكم، ويعود ذلك بتقديرهم الى تطوّر المجتمع والتعليم.
أهلية الفتاة للزواج: القاضي يمتحن قدرتها على “تدبّر أمورها”
إن البحث في أهلية الزواج عند الفتاة يتلازم مع مدى إدراكها للخطوة التي تُقدم عليها (بالرضى أو الإلزام). فبحسب أحد قضاة المحكمة الشرعية الجعفرية، تقتصر مسألة قياس رشد الفتاة المراد تزويجها على “اختبار أو امتحان”. وقوام هذا الاختبار الذي يأسف القاضي المذكور لعدم تقيّد القضاة بإجرائه، بمحادثة بين القاضي والفتاة بهدف التأكد مما “إذا كانت تُميز؟ هل تعرف أن تشتري وتبيع؟ هل تستطيع أن تدبر أمورها؟”. وإن دل هذا الاختبار على شيء، فإنه يدل على تغليب دور الفتاة كربّة منزل مع إغفال شبه كامل لقدرة الفتاة على تحمل فكرة الزواج من الناحية النفسية. وتأكيداً على ذلك، يشير قاض من المحكمة الشرعية السنية الى ورود دعاوى تفريق أمامها تنتج من عدم قدرة فتيات، تزوَّجن أو زُوِّجن بأعمار 15 و16، على تحمل نتائج هذا الزواج. وتالياً، يتبين من أهداف هذا الامتحان، أن مسألة البتّ بأهلية الفتاة للزواج مكفولة ومحصّلة سلفاً بمجرد التحقق من البلوغ الجسدي ومن قدرتها على الشراء والبيع. وهنا لا يعتد القضاة بأي نوع من الاختبارات لامتحان الإدراك (هل تعرف الى أين تذهب؟ ماذا سيحصل؟ هل لديها فكرة عن أول ليلة بعد الزواج؟) لكن يبقى الإدراك عندهم مرهوناً “بالوعي” الاجتماعي، مثل قيام الأم بتنوير ابنتها. هكذا، مثلاً، روى لنا أحد القضاة قضية فتاة زُوجت بعمر يناهز الخامسة عشرة، ولم تكن تعرف أي شيء عن الزواج… اللوم وقع على الأم التي لم توعّ ابنتها:
“الفتاة كانت تبلغ 15 سنة، طويلة وجسيمة ولا يمكن للقاضي حتى أن يعرف أن عمرها فقط 15 سنة. في ليلة عرسها، لم تكن تعرف أين تذهب وماذا سيحصل. خافت، وأصيبت بانهيار ولم تدع زوجها يقترب منها. أمها كانت في الخارج، كما جرت العادات والتقاليد، بانتظار التأكد “إذا مشي الحال أم لا”. دخلت الأم الى الغرفة وحاولت تهدئتها، من دون جدوى. البنت وصلت الى حد الطلب من أهلها أن يربطوها ليتمكن زوجها من الاقتراب منها. لم تحصل أي علاقة بين الزوجين في الليلة الأولى. حاول معها مرات عدة، ولم ينجح، فأرسلها الى منزل أبيها الذي كان يضربها ويتوسط لإعادتها الى زوجها. الفتاة أضحت تعاني من فوبيا، والشاب لم يكن يعرف ماذا يفعل. بعد 4 أشهر، جاء الزوجان “مبسوطين، مشي الحال”. ومرد تحسن العلاقة (بحسب القاضي) الى أن “الشاب كان صبوراً والفتاة أصبحت أوعى”.
حول التحقق من إرادة الفتاة
يجمع قضاة الشرع الذين جرت مقابلتهم على أن شرط موافقة الفتاة على إبرام عقد الزواج أساسي وجوهري، بحيث إن الزواج لا يتم إلا بموافقة الأخيرة. إلا أن فرضية أن تأتي الفتاة أمام القاضي الشرعي وتجاهر برفض الزواج في حديث جانبي أو في العلن، بينما عيون وآذان عائلتين مسلطة عليها، تبقى نظرية. ويؤكد القضاة عدم حدوث أي حالة مشابهة خلال عملهم داخل المحاكم[2]. ولا يخفي القضاة ولا يستبعدون إمكانية وقوع حالات إكراه على الزواج (إكراه عائلي المنشأ ويسبق الذهاب أمام القاضي الشرعي)، إلا أن ما هو “ظاهر” للقاضي من خلال الموافقة اللفظية للفتاة على الزواج، “يغلّبه على أمره (أي القاضي[3])” ويكبحه عن التحقق من صحة إرادة الفتاة. ويشير أحد الشيوخ الذين قابلناهم الى أن “هناك مشكلة في التأكد من صحة إرادة الفتاة”. ويردف “أن الكثير من المتزوجات أحياناً يوافقن على الزواج في ظل أجواء عائلية صعبة، قد يشك القاضي بأن الفتاة ليس لها مصلحة بالزواج، ولكن لا يمكنه إجراء تحقيق دقيق في هذا الأمر”. ويقيس القاضي المذكور هذا النموذج على ما يحصل أمام كاتب العدل “حيث إن الأخير لا يتدخل في معرض إبرام عقد بيع بمدى صحة السعر المتفق عليه”.
إجرائياً، يؤكد أحد قضاة المحكمة الشرعية السنية أن جميع قضاة المحكمة يسعون بقدر الإمكان للتثبت من أن قرار الزواج ينبع من إرادة الفتاة الكاملة وأنها ليست مكرهة، وذلك من خلال الانفراد بالفتاة في المحكمة من دون وجود الأهل. “هذه خطوة أولى” وفق قاض آخر من المحكمة، “ولكن شو مارسوا عليها إرهاب في البيت لا يمكن أن نعرف! ممكن أن نتلمس إذا كان يبدو عليها التوتر، قد نؤجل الموضوع ولا نعقد الزواج مباشرة، ولكن في المقابل إذا كانت مستقرة وواعية وتقر “أنا بدي هيك!”، في موضوع التثبت من إرادة الفتاة لا يمكن القيام بأكثر من ذلك”. يبدو الأمر وكأن القاضي الشرعي يخضع لإرادة الفتاة، وما بيده حيلة، لكن واقعياً هو يرضخ، بطريقة غير مباشرة، للإكراه أو الإرهاب الممارس على الفتاة من قبل ولي أمرها. ولو سلّمنا جدلاً بأن فتاة بعمر 14 سنة “تعرف جيداً ما تريد”[4] وأن أهلها رضخوا لرغبتها الأكيدة بالزواج، فإن “استسلام” القاضي الشرعي لإصرار الفتاة على الزواج جدلي ويطرح تساؤلات. فكأن هذا الرضوخ هو بمثابة رفع للمسؤولية، على قاعدة “أمري لله، ليس باليد حيلة”. إزاء هذه المعضلة، يخلص هذا القاضي الى أن “القاضي ليس مؤسسة اجتماعية ليسأل ويدقق بأوضاع عائلة الفتاة”. وفي ظل تسليم القضاة بمحدودية قدرتهم وربما صلاحيتهم في التحقيق، يثور تساؤل مشروع حول جدية القول بشيوع حالات “إصرار البنت نفسها على الزواج المبكر” تبريراً لحدوث زيجات قاصرات في المحاكم الشرعية؟
القضاء الشرعي في مواجهة سلطة الشيوخ
يتبرأ القضاء الشرعي من حالات زواج القاصرات التي عرَّج عليها الإعلام مؤخراً، لتبرز إشكالية تكمن في وجود “سلطة شيوخ” خارجة عن سيطرة المحاكم الشرعية. ويحرص القضاة على تحميل هذه السلطة الرديفة مسؤولية التجاوزات الحاصلة، والمتمثلة بإقدام رجل دين (من خارج المحكمة الشرعية) على إبرام عقد زواج فتاة قاصر بدون موافقة ولي أمرها. إلا أنه في هذه الحالات، لا ينقض القاضي بالكامل شرعية عقد الزواج من الوجهة الدينية، أقله في حال حصول “حمل وفض بكارة”، وذلك من باب إعلاء “مصلحة” الفتاة واعتبارات الستر: فحتى في ظل رفض والدها، قد يثبت الزواج، على قاعدة أن “الواقعة قد وقعت”.
إزاء ممارسات هذه الفئة من رجال الدين، يؤكد القضاة أن محاسبتهم تخرج عن صلاحية المحاكم الشرعية نظراً لكونهم ليسوا موظفين في ملاكها، وتالياً فإن محاسبتهم تعود الى النيابات العامة. والحل وفق أحد قضاة المحكمة الشرعية السنية يكمن بحصر إبرام عقود الزواج ضمن المحاكم الشرعية والسلطات الرسمية واعتبار إجراء العقود خارج هذه المحاكم بمثابة جنحة. علماً أن حلاً كهذا يندرج في إطار ضبط الممارسات الخارجة عن هذه المحاكم أكثر من كونه مدخلاً لمعالجة القضية الأساس المتمثلة بوضع حد لزواج القاصرات.
للإطلاع على النسخة الإنكليزية من المقال، إنقر هنا
نشر في العدد السادس عشر من مجلة المفكرة القانونية
[1]ﻗﺎﻨﻭﻥ ﺤﻘﻭﻕ ﺍﻟﻌﺎﺌﻠﺔ هو ﻗﺎﻨﻭﻥ ﻋﺜﻤﺎﻨﻲ ﺼﺎﺩﺭﻓﻲ 1917/10/25، معمول به امام المحاكم الشرعية السنية وهو يرعى جميع الأحكام المتعلقة بالمسائل الداخلة ضمن اختصاص هذه المحكمة.
[2]العبارة وردت على لسان قاضيين أحدهما سني والآخر جعفري.
[3]وردت هذه العبارة في احدى المقابلات.
[4]وردت هذه العبارة في احدى المقابلات.