السوريون والعقاب الجماعي (1): “فجأة بتنا خارج القانون”


2024-06-08    |   

السوريون والعقاب الجماعي (1): “فجأة بتنا خارج القانون”
مخيّم للاجئين السوريين تمّ هدمه في البقاع في نيسان الماضي

بداية شهر أيّار الماضي أعلنت المديريّة العامة للأمن العام مباشرتها إجراءات جديدة بهدف “ضبط وتنظيم ملف السوريين الموجودين على الأراضي اللبنانية”. تضمّنت الإجراءات إلغاء العمل بفئات من الإقامات والطلب من السوريين المخالفين لنظام الدخول والإقامة التوجّه مباشرة إلى الدوائر والمراكز الحدودية لمنحهم التسهيلات اللازمة لتسوية أوضاعهم ومغادرة الأراضي اللبنانية تحت طائلة اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة بحق غير المغادرين.

يحوّل هذا القرار بجزء منه قسمًا من السوريين من حاملي فئات الإقامات التي توقف العمل بها (الإقامات بناء للكفالة الشخصية وعقد الإيجار) بشكل مفاجئ ومن دون سابق إنذار، إلى أشخاص غير مقيمين بشكل قانوني ويطلب بجزء آخر منه من كلّ المخالفين مغادرة لبنان فورًا من دون مراعاة أنّ بين المخالفين أشخاصًا تحول دون عودتهم هواجس أمنيّة وترحيلهم يتعارض مع احترام مبدأ عدم الإعادة القسرية وفقًا لالتزامات لبنان القانونية الدولية. كما أنّ الأمن العام لم يعلن لغاية اليوم عن الآلية التي يعتمدها من أجل ضمان عدم ترحيل أي مواطن سوري خلافًا لهذه الالتزامات. وكلّ هذه الإجراءات تأتي بينما توقّف الأمن العام عن قبول طلبات الحصول على إقامة جديدة ما يعني عدم إمكانيّة هؤلاء تسوية أوضاعهم.

بحسب المفوضية فإنّ نسبة الأفراد السوريين فوق 15 عامًا ممن لديهم إقامة قانونية كانت تبلغ 20% في العام 2023 في ارتفاع بسيط عن 17% في العام 2022، وأنّ 70% من الأسر السورية في لبنان لديها أفراد من دون إقامة، و9% فقط  من الأسر يحمل جميع أفرادها إقامة قانونية.

ولم يأخذ قرار الأمن العام بترحيل كلّ المخالفين في الاعتبار أيضًا أنّ من بين المخالفين من كانت مخالفتهم اضطرارية نتيجة لقرارات سابقة صدرت عنه، لا سيما في العام 2015، والتي جعلت الحصول على الإقامة بمثابة حلم لهم، فبعضهم لم يكن ضمن الفئات المتاحة أو أنّه لم يستطع تأمين الأوراق المطلوبة لفئات الإقامة الأخرى المتاحة من قبل الأمن العام. ولم يراع القرار أيضًا أنّ القرارات السابقة لم تسهم في تقليل أعداد السوريين في لبنان بل جلّ ما فعلته هو أنّها زادت أعداد المخالفين لنظام الإقامة منهم. وهذا ما وصفته “المفكّرة القانونية” سابقًا بنهج صناعة الهشاشة الذي يستند إلى تجريد السوريين من الإقامة القانونية تمهيدًا لتجريدهم من حقوقهم وكرامتهم، وترحيلهم قسرًا كحل للأزمة. 

وتشرح مسؤولة قسم التقاضي الاستراتيجي في “المفكرّة” غيدة فرنجيّة أنّ الأمن العام كان فرض بشكل مفاجئ أيضًا في بداية العام 2015 شروطًا قاسية لدخول السوريين إلى لبنان وللإقامة فيه إنفاذًا لسياسة الحكومة بـ “تقليص” أعداد السوريين في لبنان، وابتكر فئات جديدة للإقامة من دون مراعاة حالة اللجوء الاضطراري بشكل كافٍ، كما استمرّ في تعديل هذه الشروط طيلة السنوات الماضية بشكل مفاجئ، مما أدّى إلى تعقيد إمكانية الحصول على إقامة قانونية وإلى تزايد أعداد السوريين المخالفين لنظام الإقامة، من ضمنهم اللاجئين الذين لم يتمكنوا من العودة إلى سوريا. ومن أبرز فئات الإقامة التي ابتكرها الأمن العام منذ العام 2015: الإقامة بموجب كفالة عمل التي تشترط العمل لدى مؤسسة مسجلة أصولًا (تعهّد مسؤولية – عمل)، والإقامات التي تشترط عدم العمل في لبنان، كالإقامة بموجب عقد الإيجار التي تشترط وجود عقد ايجار مسجّل لدى البلدية وإثبات وجود دخل من خارج لبنان (مستأجر عقار)، والإقامة بموجب الكفالة الشخصية التي تشترط وجود علاقة قرابة من الدرجة الثانية بين المواطن السوري والكفيل اللبناني (تعهّد مسؤولية – شخصي)، وإقامة لحاملي شهادة تسجيل صادرة عن مفوّضية الأمم المتحدّة لشؤون اللاجئين التي تشترط عدم حيازة إقامة أخرى سابقًا وتنحصر بالمسجّلين لدى المفوّضية قبل العام 2015 تبعًا لطلب الحكومة من المفوّضية وقف تسجيل طالبي اللجوء حينها (إقامة “نازح”). ورغم أنّ مجلس شورى الدولة أصدر قرارًا بإبطال قرار العام 2015 لعدم صلاحية الأمن العام بتعديل شروط الدخول إلى لبنان والإقامة فيه، استمرّ الأمن العام بتطبيق هذا القرار رغم عدم قانونيته، في ظلّ تقاعس الحكومات حتى اليوم في تبنّي سياسات واضحة وناجعة لتنظيم وجود السوريين في لبنان وللتمييز بين اللاجئ وغير اللاجئ منهم.

وفي ظلّ هذا الوضع الهشّ للسوريين، سبقت قرار الأمن العام في أيّار 2024 ، سلسلة تعاميم لسلطات محليّة تطلب من السوريين الذين لا يحملون إقامات رسمية إخلاء منازلهم وتطلب من اللبنانيين مساعدتها في التبليغ عن السوريين وعدم تشغيل أو تأجير أيّ سوري لا يملك إقامة، ما أدّى إلى توترات في بعض المناطق فضلًا عن انتهاكات في حقّ عائلات وأشخاص سوريين. واستندت التعاميم إلى كتاب وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي في 2 أيار الى المحافظين والبلديات والمخاتير لإطلاق حملة مسح وطنية لتعداد وتسجيل النازحين السوريين، والطلب عدم تنظيم أي معاملة أو إفادة لأي نازح سوري قبل تقديم ما يُثبت تسجيله، والتشديد بعدم تأجيرهم أي عقار قبل التثبّت من تسجيله لدى البلدية وحيازته على إقامة شرعية.

 وكانت وتيرة هذه التعاميم ارتفعت بعد مقتل مسؤول القوات اللبنانية باسكال سليمان وبعد الإعلان عن إجراءات الأمن العام الجديدة. ترافقت جميع هذه الإجراءات مع مداهمات لكلّ من الجيش اللبناني والأمن العام نتج منها ترحيل مئات السوريين بينهم من كان مسجّلًا في المفوضيّة كما أكّد مصدر مطّلع لـ “المفكرة” أو من كانت عودته تشكّل خطرًا على حياته. وهذا الأمر وثّقته “المفكرة القانونيّة” في هذا التحقيق الذي سيُنشر في قسمين يركّز الأوّل على صناعة الهشاشة في ملف الوجود السوري في لبنان وتأثير القرارات المتعلّقة بالإقامة على حياة السوريين من دون أن تحقق الهدف المرجوّ منها أي تنظيم أوضاعهم، بينما يركّز القسم الثاني على الإجراءات القسرية التي اتخذت في حقّ السوريين كالترحيل والإخلاء من المساكن. ونُشير هنا إلى أنّ “المفكرة” راسلت الأمن العام خطيًّا لاستيضاحه حول قراره الصادر في 8 أيّار إلّا أنّه لم يصلها أيّ رد لحين تاريخ النشر، كما نُشير إلى أنّنا اعتمدنا أسماء مستعارة نزولًا عند طلب الأشخاص الذين قابلناهم.

“فجأة بتنا خارج القانون” 

عيسى مواطن سوري مقيم في لبنان منذ العام 2014 متزوّج من سيدة فلسطينيّة والدتها لبنانية، ولديها إقامة دائمة في لبنان، وإقامته على كفالة حماته اللبنانيّة. 

قبل حوالي شهرين فوجئ عيسى برفض الأمن العام تجديد إقامته من دون أيّ تبرير وبعد أقلّ من شهر فهم عيسى السبب الحقيقي وراء الرفض وتحديدًا حين أعلن الأمن العام فجأة عن وقف العمل بفئة الإقامة بناء على الكفالة الشخصيّة (“تعهّد مسؤولية – شخصي”). وقد تغيّرت شروط هذه الفئة من الإقامة التي ابتكرها الأمن العام في العام 2015 عبر السنين، من كفالة أي مواطن لبناني لمواطن سوري من معارفه، إلى كفالة مواطن لبناني يرتبط بقرابة بالمواطن السوري لغاية الدرجة الثانية.

وبات عيسى ومن دون سابق إنذار أو وقت كاف لتنظيم أموره، مقيمًا بشكل غير قانوني في لبنان، ومضطرًا إلى مغادرة لبنان من دون وجهة ممكنة. “أنا عليّي عسكريّة، وزوجتي مقيمة في لبنان، وإذا قرّرنا الهجرة الأمر يأخذ وقتًا، أنا حاليًا لا أتحرّك، أخاف من أن يتمّ ترحيلي” يقول.

يتحدّث عيسى لـ “المفكرة” أنّه حصل على الإقامة بعد سنوات من المحاولة، فهو عندما أتى إلى لبنان في العام 2015  استحصل على إقامة دراسة، ولكنّ الأمن العام رفض تجديد إقامته بعد عام وبعدها لم يستطع التسجيل بالجامعة التي اشترطت بدورها إقامة، وبقي بلا إقامة حتى العام الماضي لأنّه لم يكن ضمن الفئات التي حدّدها الأمن العام. وبعد زواجه، لم يتمكّن من الحصول على إقامة بموجب هذا الزواج لأنّ الأمن العام يرفض منح أزواج الفلسطينيات-اللبنانيات (أي المولودات لأب فلسطيني وأم لبنانية) إقامة بموجب الزواج أسوة بأزواج اللبنانيات، فاضطّر إلى الحصول على إقامة بناء على كفالة حماته اللبنانية. وبعد أن استطاع تسوية وضعه بعد زواجه جاءت هذه القرارات لتُعيده إلى نقطة الصفر وتهدّد وحدة عائلته. 

اليوم يبحث عيسى عن مؤسّسة تكفله ولكنّه يتساءل إن كان الأمر سيكون مقنعًا للأمن العام ولاسيّما أنّ كفالته السابقة كانت تشترط عدم عمله في لبنان، كما أنّه يخاف أن يطلب منه من أجل تغيير نوع الإقامة تسجيل مغادرة لبنان فلا يتمكّن من العودة، وزوجته في لبنان.

كما عيسى يلتزم حسام منزله حاليًا، فإقامته تنتهي بعد شهرين ولا يستطيع تجديدها بعد إلغاء الأمن العام فئة الكفالة الشخصية. “أنا مطلوب للخدمة العسكرية في سوريا وقد أكون مطلوبًا أمنيًا، سبق واختطفت في سوريا، دفعت رشاوى في سوريا كي أغادر بطريقة قانونيّة، والآن عليّ مغادرة لبنان” يقول.

يُخبر حسام “المفكرة” أنّه لطالما حاول أن يكون لديه إقامة قانونية في لبنان. بعد دخوله في العام 2017 عبر حجز فندقي، حاول أن يحصل على إقامة دراسيّة ولم ينجح الأمر عن طريق الجامعة اللبنانية لأنّه حينها لم تكن التسوية متاحة للأشخاص الداخلين عبر حجز فندقي ولم يغادروا لدى انتهاء مهلة تأشيرة الدخول. لم يستسلم، كما يقول، وبعد انعدام الخيارات وجد نفسه في العام 2019 مضطرًّا للعمل على إقامة وهميّة عبر إحدى الجامعات التي كانت تسهّل الحصول على الإقامة مقابل تسجيل وهمي تدفع السورية مقابله 1500 دولار. استفاد حسام من الأمر حتى العام 2021 “إلى أن لم يعد الأمن العام يسجّل الإقامة عبر هذه الجامعة” يقول. 

بعد توقف إقامته الدراسيّة عمل حسام على إصدار إقامة على كفالة شخصية: “لم يكن الأمر سهلًا لكنني تمكّنت في العام 2022 من إصدار إقامة على كفالة شقيقتي التي باتت لبنانيّة”.

يتحسّر حسام على تحوّله بين ليلة وضحاها إلى غير قانوني هو الذي حرص دائمًا على ألّا يكون كذلك، كما أنّه يتساءل عن الخيارات المتاحة أمامه، فهو حاليًا لا يستطيع العودة إلى سوريا حيث تنتظره الخدمة العسكرية والهواجس الأمنيّة، ولا يملك جواز سفر للتوجّه إلى بلد آخر، كما أنّ عودته إلى سوريا في حال تخطّى الخدمة والمخاوف الأمنية، قد تحرمه من الهجرة الكنسيّة التي يعمل عليها إلى كندا. “قدّمت هجرة كنسية إلى كندا لا تفرض جواز سفر، فإذا نزلت إلى سوريا أخسر فرصة الهجرة لأنّ الطلب مقدّم على أساس وضعي في سوريا”، يقول لـ “المفكرة”.

“كيف تتغيّر القوانين فجأة ونحن رتّبنا حياتنا على أساسها”

لا يختلف وضع حسام كثيرًا عن وضع مازن الذي حاول أيضًا طوال فترة تواجده في لبنان أن يكون قانونيًا ليأتي قرار مفاجئ ويحوّله إلى غير قانوني. يروي مازن لـ “المفكرة” أنّه أتى إلى لبنان في العام 2014 بعدما خسر منزله، لم يتسجّل في المفوضيّة وقدّم على الإقامة على أساس كفالة من أحد أصدقائه على أساس أنّه يعمل لديه، وبعد إلغاء هذا النوع من الكفالات حاول أن يكون على كفالة شركة ولكن لم يتمكّن من إيجاد شركة، فبقي 3 سنوات يحاول خلالها أن يحصل على إقامة من دون جدوى حتى تمّ استحداث إقامة بموجب عقد إيجار. 

إقامة مازن تنتهي بعد 9 أشهر ولكنّه مع ذلك توقّف عن التنقل فهو يخاف الترحيل المباشر. “بعيدًا من الأسباب الأمنيّة، لوجستيًا كيف يمكن أن يرحّل أحد فورًا، ألّا يجب أن يُعطى الوقت الكافي لترتيب أموره، لنقل أغراضه الشخصيّة، لترتيب منزل إن كان لديه أصلًا، كيف يمكن أن تتغيّر القوانين فجأة ونحن نكون قد رتّبنا حياتنا على أساسها” يقول.

يبحث مازن حاليًا عن آلية للحصول على إقامة، يفكّر في ما يسمّيه “إقامة وديعة” حيث يودع مبلغًا من المال لدى الأمن العام مقابل إقامة لمدّة محدّدة، أي الإقامة بموجب “كفالة مصرفية” التي عدّل الأمن العام شروطها وقيمة المبلغ المطلوب إيداعه، في قراره الأخير، ولكنّه لا يشعر بالراحة لهذه الفكرة. فلطالما تغيّرت الشروط فجأة، الأمر الذي يجعله قلقًا بشكل دائم، ولكن لا حلّ أمامه “بيتي بالشام راح، ولا أريد أن أبدأ حياتي من الصفر في أوروبا، أنا حياتي هنا، لا أكلّف الاقتصاد اللبناني، بل على العكس تصلني تحويلات من الخارج، أدفع إيجار بيتي، وأصرف مالي هنا، ولست متزوجًا كي أمسّ بديمغرافية لبنان” يقول. ويضيف: “أشعر أنّ هذه الإجراءات ظلمتني حقًا، وجودي ليس المشكلة، وترحيلي لن يحلّ أزمة السوريين في لبنان”.

أجبرنا أن نكون خارج القانون وعودتنا تعني موتنا

“لا أستطيع العودة إلى سوريا، إذا عُدت سأموت حتمًا، أسعى إلى كفالة وهميّة” يقول محمود شارحًا لـ “المفكرة” بأنّه خرج  إلى لبنان هاربًا من المعارك التي كانت دائرة في بلدته في منطقة إدلب العام 2013 وكان لم يبلغ عامه الـ 18 وعندما بلغ السنّ الذي يحتاج معه إقامة لم يستطع تسوية وضعه القانوني عبر الحصول على إقامة بناء لتسجيله كلاجئ لدى المفوضيّة (ما يصفه الأمن العام بإقامة “نازح”) لأنّه كان يعمل وإقامة المفوضيّة تشترط عدم العمل.

حاول تسوية أوضاعه من خلال الحصول على كفالة شخصيّة عن طريق أحد أقاربه لكنّ الأمن العام رفض الأمر. “أتاني الرفض 3 مرّات من الأمن العام، ومن دون أي سبب منطقي، فبقيت بلا إقامة طوال فترة وجودي في لبنان” يقول محمود.

يروي محمود أنّ منطقته في سوريا ليست آمنة بعد فهي على خط التماس، هذا عدا عن أنّه مطلوب للجيش ومطلوب أمنيًا. لذلك يعتبر أنّ عودته إلى سوريا تعني موته. يلازم محمود حاليًا منزله ولا يخرج منه خوفًا من ترحيله ويعمل حاليًا على الحصول على كفالة عبر إحدى الشركات ستكلّفه 1000 دولار. 

تظاهرة في طرابلس ضدّ ترحيل السوريين الشهر الماضي

الأطفال الذين كبروا في لبنان يخشون الخدمة العسكرية

ومن الأشخاص الذين باتوا معرّضين للترحيل هي فئة السوريين الذين كانوا على إقامة ذويهم المسجلّين في المفوضيّة وبلغوا 18 عامًا في لبنان. وفي هذا الإطار تروي مهى أنّ أخوتها الذين بلغوا 18 عامًا في لبنان لا يستطيعون الحصول على إقامة لأنّهم لا يملكون بطاقة هويّة والحصول على جواز سفر كلفته مرتفعة جدًا عدا عن أنّه يحتاج إلى أشهر. “حتّى إذا أردنا تسوية أمورنا لا وقت لدينا فالترحيل فوري، رحّلوا أصدقاء أخي فورًا” تقول. ويكلّف جواز السفر عن طريق السفارة السورية 350 دولارًا وفقًا للإجراءات العادية التي تطول لأشهر عدّة أو 850 دولارًا وفقًا للاجراءات المستعجلة، بالإضافة إلى 100 دولار في حال فقدان أو تلف الجواز السابق.

جاءت مهى إلى لبنان في العام 2013 هاربة من المعارك وبعد أن اختطف والدها، جاءت مع والدتها وأخوتها الـ 5  وكان أكبرهم لا يتجاوز 12 عامًا، ولأنّها لا تستطيع العودة إلى سوريا بخاصة بعدما عرفت عائلتها منذ أشهر أنّ والدها قُتل، ولأنّ 2 من أخوتها باتا مطلوبين للخدمة العسكريّة، راجعت مهى الأمن العام فكان الجواب بأنّه لا حلّ إلّا بتأمين بطاقة هويّة أو جواز سفر للحصول على إقامة لأخويها وإلّا سيكونان مضطرّين للعودة إلى سوريا.

تتحدّث مهى بأنّ حياتها انقلبت رأسًا على عقب منذ إعلان الأمن العام القرارات الأخيرة “نحن نقيم في مجدل عنجر منذ سنوات، كنت أنا واثنان من أخوتي معيلي العائلة، بعد الإجراءات الأخيرة والمداهمات التي رُحّل على إثرها الكثير من معارفنا، يُلازم أخواي الاثنان المنزل، بقيت أنا المعيلة الوحيدة ولكنّ الأمر لم يدم كثيرًا فصاحب العمل طلب منيّ ألّا آتي حاليًا إلى العمل حتى لو كان معي إقامة، منعًا لحدوث أي مشاكل” تقول. 

صناعة الهشاشة والمعاقبة عليها

ما يتحدّث عنه الأشخاص الذين التقيناهم تلخّصه مسؤولة قسم التقاضي الاستراتيجي في “المفكرّة” غيدة فرنجيّة بقولها “صنعت الدولة اللبنانية هشاشة السوريين على مدى سنوات، وها هي اليوم تعاقبهم على سوء إدارتها لهذا الملف”. وتوضح أنّ سياسات الدولة في مجال تنظيم الإقامات “لا تجرّد السوريين من حقوقهم فحسب بل تجرّد الدولة أيضًا من وسيلة لبسط سلطتها على أراضيها، فهي أرغمت عددًا كبيرًا من السوريين على الخروج عن القانون وعزلتهم في الاقتصاد غير الرسمي، وتاليًا لم يعد لديها إحصاء رسميًا لكي تتمكن من وضع سياسات مبنيّة على الواقع الحقيقي”. 

بالإضافة إلى تعقيد شروط الإقامة، تُعيب فرنجية على سياسة الإقامات المتبعّة من قبل الأمن العام مسألتين: الأولى، أنّها “لم تميّز بين اللاجئ وغير اللاجئ أي بين القادر على العودة إلى سوريا وغير القادر على العودة لأسباب مبرّرة كخطر الاعتقال والتعذيب والتجنيد الإلزامي والقتل على يد النظام أو المجموعات المسيطرة في مختلف المناطق السورية”. وترى أنّ هذا التمييز أساسي “لضمان احترام الدستور والقوانين اللبنانية التي تمنع ترحيل الأجنبي إلى بلاد قد يتعرّض فيها للخطر”، مضيفةً أنّ “طلب الحكومة من المفوّضية وقف تسجيل طلبات اللجوء في العام 2015 كان مخالفًا للدستور الذي يكرّس حقّ أي أجنبي يهرب من الاضطهاد والحرب في أن يطلب اللجوء في لبنان من دون أن يكون لبنان ملزمًا بالتجنيس أو التوطين”. 

وتُشير فرنجية إلى أنّ “السوريين غير القادرين على العودة إلى سوريا هم أكثر من تعرّض لخطر فقدان الإقامة الرسمية بسبب انعدام الخيارات القانونية أمامهم، بخاصّة الذين دخلوا إلى لبنان بشكل غير قانوني بعد نيسان 2019 كون الأمن العام منع هذه الفئة من تسوية أوضاعها القانونية”. وترى أنّ قرار الأمن العام بمطالبة جميع المخالفين لنظام الإقامة بمغادرة لبنان فورًا “من دون التمييز بين اللاجئ وغير اللاجئ، وبعد أن حرم اللاجئين من الإقامة الرسمية، يزيد من المخاطر على اللاجئين منهم ويُخالف موجب لبنان بحمايتهم من الترحيل القسري”. 

أما المسألة الثانية التي أشارت إليها فرنجية، فترتبط بانعدام الوضوح والاستقرار في القواعد القانونية التي يفرضها الأمن العام والتي فرضت على السوريين أن يصبحوا خارجين عن القانون بين ليلة وضحاها، “الأمن العام يعدّل شروط الإقامة بشكل دوري وبشكل مفاجئ ومن دون أن يعلن عنها مسبقًا أو أن يضع مهلة زمنية قبل أن يبدأ بتطبيقها. وهذا ما فعله في العام 2015 وكرّره اليوم في قراره في أيّار 2024 بالنسبة للسوريين، وهو النهج نفسه الذي اتبعه مع اللبنانيين فيما يتعلّق بشروط الحصول على جوازات السفر في العام 2022″. وتشرح أن “هذا النهج العشوائي يقترب من نهج الأنظمة الشمولية ويخالف مبادئ وضوح القواعد القانونية واستقراراها، ويفقد اللبنانيين والسوريين ثقتهم في مؤسسات الدولة التي لا تتيح لهم إمكانية تنظيم أوضاعهم القانونية وكلّ ما يرتبط بها كالسكن والعمل والتعليم”. وتعطي أمثلة على النهج المعتمد في دول أخرى حيث تُعلن الدولة عن تعديل قوانين الإقامة قبل عدّة سنوات وتمنح الأجانب مهلة قبل أن تُباشر بتطبيقها لكي يتسنّى لهم الفرصة لتأمين الشروط الجديدة أو المغادرة. 

تعتبر مؤسّسة “سينابس” Synaps البحثية التي تُعنى بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية، أنّ إجراءات الأمن العام الجديدة ستؤثّر حتمًا على حياة الأشخاص الذين ألغيت فئات إقامتهم عبر تحويلهم فجأة إلى أشخاص غير قانونيين، وعبر تضييق الخيارات أمامهم والتي قد تكون معدومة. لكنّها في الوقت نفسه تُشير إلى أنّ الإقامات بناء للفئات التي تمّ إلغاؤها كانت الأقل إصدارًا بسبب صعوبة استيفاء شروطها. وتشرح “سينابس” في تصريح لـ “المفكرة” أنّ أول أنواع الإقامات التي ألغيت كان الكفالة الشخصية التي أُدرجت بعد العام 2015، وكان الأمن العام غالبًا ما يرفض إقامات الكفالة الشخصية، كما أنّ اشتراط الكفيل حوّل الأمر إلى تجارة فبات السوريون مضطرين إلى دفع مبالغ كبيرة وبالتالي لم تشمل هذه الفئة نسبة كبيرة منهم. وتعتبر”سينابس” أنّ الطريق الثاني لفئة الإقامة التي ألغيت أي عقود الإيجار كانت صعبة جدًا، فأصحاب البيوت في لبنان يميلون إلى عدم تسجيل عقود الإيجار لدى البدليات تهرّبًا من دفع الضرائب. وعلى الرغم من الضرر الذي ستلحقه هذه الإجراءات بحاملي الإقامات الملغاة ترى “سينابس” أنّ المشكلة الأكبر تكمن في الطلب من جميع السوريين المخالفين لشروط الإقامة التوجّه إلى مراكز الأمن العام مما قد يؤدي إلى ترحيلهم في وقت أنّ عددًا كبيرًا من المخالفين لم يختاروا أن يخالفوا بل فُرض الأمر عليهم إمّا لعدم انتمائهم إلى الفئات المتاحة أو بسبب الشروط التعجيزيّة.

وفي هذا الإطار تُشير “سينابس” إلى أنّه من الضروري الأخذ بعين الاعتبار الطبيعة الممتدة للصراع السوري وطول فترة لجوء الآلاف من السوريين. فئة كبيرة ستتضرّر من هذا القرار وهي فئة من بلغوا 18 عامًا في لبنان لآباء مسجلين في المفوضيّة قبل العام 2015 والآن يحتاجون إلى إقامة ليكونوا قانونيين وهم لا يملكون بطاقة هوية أو جواز سفر المطلوبة لإنجاز الإقامة. وتوضح أنّه لا يمكن حصول هؤلاء على هوية من دون زيارة سوريا وقد تصل تكلفة الحصول على جواز سفر عبر السفارة السورية إلى 800 دولار وتستغرق عدة أشهر. كما تُشير “سينابس” إلى فئة أخرى ذات وضع خطر أكثر باتت معرّضة للترحيل وهي فئة من دخلوا خلسة إلى لبنان. فعددًا كبيرًا من الأشخاص المطلوبين والملاحقين أمنيًا هربوا من سوريا إلى لبنان عبر المعابر غير الشرعية لتفادي المرور عبر الأجهزة الأمنية السورية وبالتالي الاعتقال. من ضمن هؤلاء المنشقين عن الجيش السوري والناشطين السياسيين. وتضيف أنّ الإجراءات الحالية اللبنانية تؤدي إلى ترحيل كل من دخل بطريقة غير شرعية وبالتالي سيشمل هؤلاء وترحيلهم سيعرّض حياتهم للخطر. 

وفي الإطار نفسه، يرى محمد حسن المدير التنفيذي لمركز وصول لحقوق الإنسان (ACHR)  أنّه نظرًا لكون المشكلة في سوريا سياسية بالدرجة الأولى وما زالت تعتبر غير آمنة للغالبية العظمى من اللاجئين السوريين، يرفض أغلبهم العودة رغم الظروف الصعبة التي يعيشونها في لبنان بعد الانهيار الاقتصادي. ويشير إلى أنّه  في ظل منع السوريين من الحصول على تراخيص عمل وتخفيض قيمة المساعدات المالية وفصل آلاف العائلات من مختلف برامج المفوضية للمساعدة، سيؤدي الإصرار على فرض هذه الشروط التعجيزية إلى ارتفاع ظاهرة محاولة الخروج من لبنان عبر الطرق البحرية غير النظامية وإلى ارتفاع أعداد الضحايا ممّن يتمّ سجنهم وتعذيبهم في السجون فور دخولهم الأراضي السورية بعد الترحيل القسري العشوائي الذي يطال المطلوبين للنظام السوري. وأشارت تقارير إلى وصول أكثر من 2600 لاجئ بقوارب من لبنان إلى قبرص خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، وعبور 300 لاجئ دفعة واحدة إلى الأراضي القبرصية في نيسان الماضي. 

أطفال يلعبون أمام خيمتهم في مخيم غزة للاجئين السوريين في البقاع الغربي. (داليا خميسي)

استراتيجية “الارتجال”

صناعة الهشاشة التي تحدّثنا عنها والتي كانت واضحة من خلال الشهادات، ترافقت أيضًا مع ما يصفه الصحافي حسين أيوب “افتقاد لبنان لأي مقاربة جدية أو استراتيجية واضحة للتعامل مع ملف السوريين المتواجدين في لبنان ما عدا محاولات تسوّل توالت على القيام بها كل الحكومات المتعاقبة”. وفي هذا السياق يُشير أيّوب في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ التعامل مع أزمة النزوح في لبنان كان من زاوية رغبات كلّ طرف في لبنان وليس الوقائع أو المصالح اللبنانية، فلم تكن هناك إجراءات لبنانية واضحة طوال المرحلة الممتدة من 2011 حتى 2024. 

يعتبر أيّوب أنّ “تعامل لبنان مع ملف النازحين اتّسم بالارتجال بدليل أنّ لا أحد لديه أرقامًا واضحة حول عدد اللاجئين السوريين، سواء المسجّلين أو غير المسجّلين. أي أنّنا لا نملك “داتا” تساعدنا في مقاربة الملف”، لافتًا إلى أنّه لو كانت هناك جدّية لبنانية لأمكن تكليف فرع المعلومات ومخابرات الجيش والأمن العام، وعندها ستتوفّر الأرقام المطلوبة خلال 48 ساعة، لكنّ الأساس هو توفّر القرار السياسي وحتى الآن لا قرار سياسيًا موحّدًا في التعامل مع قضية النازحين أبعد من التوصيات التي صدرت مؤخرًا عن مجلس النوّاب.

ويرى أيوب أنّ إجراءات الأمن العام الجديدة قد تكون مفيدة لكنّها لا تحلّ الأزمة، ولاسيّما أنّه لا يمرّ يوم من دون دخول المئات من السوريين وربما الآلاف عبر المعابر غير الشرعية وأحيانًا عبر المعابر الشرعية بناء على تدخلات سياسية (وبخاصّة عندما يكون العبور لأصحاب النفوذ والمال)، وبالتالي إعادة مئة أو مئتين من هنا وهناك لا تقدّم ولا تؤخّر في المشهدية العامة.

وكان مجلس النواب أقرّ في منتصف أيّار الماضي وفي الجلسة التي خصصت لمناقشة الهبة الأوروبية البالغة مليار يورو وقضية النازحين السوريين توصية بتشكيل لجنة وزارية برئاسة رئيس الحكومة والوزراء المختصين وقيادة الجيش والأمن العام والأمن الداخلي وأمن الدولة، للتواصل والمتابعة المباشرة والحثيثة مع الجهات الدولية والإقليمية والهيئات المختلفة، لا سيما مع الحكومة السورية. وذلك لوضع برنامج زمني وتفصيلي لإعادة النازحين، باستثناء الحالات الخاصة المحمية بالقوانين اللبنانية والتي تحددها اللجنة. 

وأكدت التوصية التي تضمنت 9 نقاط أنّ لبنان لم يعد يحتمل عبء بقاء النازحين، ولا يستطيع أن يكون شرطيًا حدوديًا لأي دولة وأن المطلوب تعاون كل الدول لحل هذه المعضلة وتحويل الدعم نحو تعزيز انتقال النازحين وتأمين استقرارهم في بلدهم مع ما يتطلب ذلك من تأمين مقومات حياتهم. وطلب مجلس النوّاب من الحكومة تقديم تقرير كل ثلاثة أشهر للمجلس النيابي حول مراحل تنفيذ هذه التوصيات.

لقراءة الجزء الثاني من المقال

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، البرلمان ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، سوريا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني