في قراره رقم 5/2014 الصادر في 6 حزيران المنصرم قرر المجلس الدستوري أن قانون الايجارات الذي أقره مجلس النواب وامتنع رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان بشكل يثير الاستغراب عن اصداره أو رده غير نافذ وغير موجود نظرا لنشره في الجريدة الرسمية في 8/5/2014 أي قبل يوم من انقضاء مهلة الشهر الدستورية التي تنص عليها المادة 57 من الدستور.
وقد اعتقد البعض للوهلة الأولى أن قرار المجلس الدستوري هو نهاية المطاف لكن بعد فترة وجيزة من الزمن أعيد نشر قانون الايجارات في ملحق العدد 27 للجريدة الرسمية (26/6/2014) مع تأكيد على أن القانون يعتبر نافذا بتاريخ 9/5/2014 عملا بقرار المجلس الدستوري المشار إليه أعلاه.
إن هذا اللغط الذي رافق المسار الدستوري لقانون الايجارات يسلط الضوء على خلل ليس فقط في التمييز بين الاصدار والنشر بل أيضا في طريقة عمل الجريدة الرسمية، هذه المصلحة التي تبدو وكأنها مجرد مؤسسة إدارية بسيطة رغم الدور السياسي الخطير الذي قامت وما زالت تقوم به حتى اليوم. ولتبيان هذا الدور لا بد من بعض الملاحضات التمهيدية الآتية:
تصدر القوانين في لبنان وفق صيغة متبعة منذ قيام الجمهورية سنة 1926 على الشكل التالي: "أقر مجلس النواب/وينشر رئيس الجمهورية القانون التالي نصه". كلمة " وينشر" هنا هي كلمة في غير محلها، لأن النشر (la publication) هو عملية مادية، أما صلاحية رئيس الجمهورية الحقيقية فهي الاصدار(la promulgation)، لذلك يجب استبدال كلمة "وينشر" بكلمة "ويصدر". والسبب في هذا الخطأ يعود الى نص المادة 51 من الدستور قبل تعديلها سنة 1990. فهذه المادة كانت تنص على أن " رئيس الجمهورية ينشر القوانين بعد أن يكون وافق عليها المجلس…"، فدرجت العادة أن يتم استخدام مصطلح "وينشر" نتيجة لهذا اللغط القانوني. وقد انتبه المجتمعون في الطائف لهذا الأمر فأصلحوه وأصبحت المادة 51 على الشكل التالي: " يصدر رئيس الجمهورية القوانين وفق المهل المحددة في الدستور بعد أن يكون وافق عليها المجلس، ويطلب نشرها…"، لكن بحكم الاستمرارية والتقليد، ظلت القوانين تصدر بالشكل نفسه الذي كانت تصدر عليه قبل الطائف.
ان النشر عملية مادية وإجراء إداري تقوم به مصلحة الجريدة الرسمية لكن الإصدار وطلب النشر هما صلاحيتان دستوريتان مرتبطتان برئيس الجمهورية. ومكمن الخطأ هو عدم التفريق بين النشر وطلب النشر. فرئيس الجمهرية بعد إصداره لقانون ما يطلب نشره أي انه يوجه أمرا إلى السلطات الادارية المعنية كي تذيع النص المذكور على الجمهور.
لكن المعضلة تكمن في الفقرة الأخيرة من المادة 57 من الدستور التي تنص على التالي: " وفي حال انقضاء المهلة(أي شهر)دون اصدار القانون أو إعادته يعتبر القانون نافذاً حكماً ووجب نشره"·فالسؤال الذي يطرح نفسه هو تحديد الجهة التي تتولى ليس فقط إصدار القانون بل أيضا طلب نشره في حال تمنع رئيس الجمهورية عن ذلك خلال المهلة الدستورية.
فالفقرة الأخيرة مثلا من المادة 36 من دستور الجمهورية الرابعة في فرنسا (1936) تنص صراحة على التالي: "A défaut de promulgation par le président de la République dans les délais fixés par la présente Constitution, il y sera pourvu par le président de l'Assemblée nationale".
"في حال لم يصدر رئيس الجمهورية القانون ضمن المهلة المحددة في هذا الدستور يقوم بذلك رئيس الجمعية الوطنية".
لكن الدستور اللبناني لم يحدد من هي الجهة التي تتولى إصدار القانون وبالتالي طلب نشره أيضا في حال تخلف رئيس الجمهورية عن ذلك. ودرجت العادة أن يتم إصدار تلك القوانين باعتماد صيغة المجهول على النحو التالي: "أقر مجلس النواب/ويُنشَر القانون التالي نصه". فالجهة التي تتولى الاصدار هي من المفترض التي تطلب النشر لكن بسبب عدم وجود جهة بديلة عن رئيس الجمهورية تتحول الجريدة الرسمية التابعة للمديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء إلى أداة سياسية خطيرة. فمدير عام رئاسة مجلس الوزراء هو حكما أمين عام مجلس الوزراء وهو يتبع إداريا وسياسيا إلى رئيس الحكومة (المرسوم رقم 2870 تاريخ 16/12/1959 تنظيم المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء) الذي يصبح قابضا بحكم الأمور على صلاحية طلب النشر العائدة إلى رئيس الدولة في المبدأ.
وقد تجلى هذا الواقع بشكل فاقع زمن الأزمة الحكومية التي اندلعت بين حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في نهاية عهد الرئيس اميل لحود بحيث قامت الحكومة بنشر كل المراسيم ومشاريع القوانين التي رفضها رئيس الجمهورية في الجريدة الرسمية بغية إعطائها الصفة التنفيذية ومن بينها مرسوم احالة مشروع قانون إلى مجلس النواب لابرام الاتفاق مع الأمم المتحدة من أجل انشاء المحكمة الخاصة للبنان والذي نشر في ملحق العدد 59 من الجريدة الرسمية تاريخ 14/12/2006. وقد تمكنت حكومة الرئيس السنيورة من خلال سيطرتها على مصلحة الجريدة الرسمية من تجاوز المادة 52 من الدستور التي تحصر حق المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وابرامها برئيس الجمهورية إضافة إلى مخالفة الفقرة السادسة من المادة 53 من الدستور التي تنص صراحة على أن رئيس الجمهورية "يحيل مشاريع القوانين التي ترفع إليه من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب".
إن المجلس الدستوري –الذي دأب في الآونة الأخيرة على اتحافنا بالمفاجأة تلو الأخرى- في قراره رقم 5/2014 لم يبطل قانون الايجارات، وبما أن القانون المذكور مضى على إحالته على الحكومة أكثر من شهر دون إصداره أو رده فهو يصبح نافذا حكما، لكن عدم وضوح الدستور لجهة من يتولى حينها إصداره هو الذي يولد هذا الاضطراب ويسمح بتحويل مصلحة الجريدة إلى أداة للتجاذب السياسي. فمن أعطى التوجيهات للجريدة الرسمية لنشر قانون الايجارات في المرة الأولى وفي المرة الثانية أيضا؟ بتعبير آخر من هي الجهة التي مارست الصلاحية الدستورية بطلب النشر؟ من هي الجهة التي تتولى كتابة الحيثيات التي تسبق القانون وتنشر قبله بغية تبرير نشره دون توقيع رئيس الجمهورية؟ من هي الجهة التي قرأت قرار المجلس الدستوري واستخلصت ضرورة إعادة النشر بغض النظر عن مدى دستورية هذا الأمر؟ كل هذه الأسئلة تحتاج إلى اجابات سريعة وحاسمة لا بل هي تتطلب إصلاح الخلل الدستوري أولا ومن ثم إصدار قانون ينظم عمل الجريدة الرسمية بشكل شفاف بعيد عن الاستغلال السياسي.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.