نظام المقامات في لبنان


2018-12-10    |   

نظام المقامات في لبنان

برز مؤخرا شعار: “ضد القمع” وذلك احتجاجا على الاستدعاءات المتكررة لناشطين على خلفية ما صرّحوا به على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد استدعي هؤلاء عموما بناء على إشارة النيابة العامة، للتحقيق في مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية.

في موازاة ذلك، صدر عدد من البيانات عن منظمات حقوقية تضمن لائحة لعدد الأشخاص الذين تمّت ملاحقتهم على خلفية تصريحات مماثلة. وقد أرسى هذا الأمر انطباعا مفاده أن القمع يستهدف بشكل خاص ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي، مع ما استتبع ذلك من تركيز على الأساليب “القمعية” للمكتب المذكور. ومن دون التقليل من أهمية هذا المعطى، فإن التدقيق في مآل هذه الاستدعاءات يظهر أنها لا تعدو كونها وسيلة إضافية لتمكين “النظام السائد” من تدعيم دعائمه (ربما ترميمها)، وهي وسيلة يفرضها التطور التقني الذي مكّن العامة (الأشخاص العاديين) من التعبير عن الرأي، بعدما كانت ممارسة هذه الحرية محصورة فعليا من قبل في وسائل الإعلام التقليدي. ففيما يسهل إخضاع القيّمين على وسائل الإعلام التقليدي (وهم قلة) لمقتضيات النظام السياسي وخطوطه الحمراء، أوجب إيجاد سبل فعالة لردع مستخدمي الوسائل التقنية الجديدة عن خرق هذه المقتضيات.

وما نريده في هذا المقال هو إجراء مراجعة شاملة لمجمل الميادين التي ترشح عن مسّ بحرية التعبير، بهدف استكمال الصورة وتظهيرها على حقيقتها. ونسارع إلى القول أن المحدّد الأساسي في قضايا حرية التعبير يبقى نظام المقامات، وما يرتبط به من مقدّسات وحساسيّات. وهو نظام يلقي ظلالا كثيفة ليس فقط على المسائل المتصلة به وحسب، إنما أيضا على مجمل المسائل بفعل الممارسات التي تنتج عنه وتصبح لازمة في أي ملاحقة تتصل بحرية التعبير.

نظام المقامات كمحدّد أساسي لكيفية مقاربة حرية التعبير

ما نقصده من نظام المقامات هو النظام الذي يكون فيه الاعتبار الأول للمقام المطلوب احترامه وقد يكون سياسيا أو دينيا. وعليه، يعتبر أيّ تعرّض لأيّ من هذه المقامات عملا مدانا، يصعب تبريره. وهو عمل غالبا ما يفسر على أنه تعبير عن “حملة” سياسية ضدّ هذا المقام للنيل منه أو من دوره الوطني، أو لإحداث فتنة بين مختلف مكونات الوطن. علاوة على ذلك، غالبا ما يُعتبر أيّ تعرّض مماثل بمثابة استفزاز لعصبيّة أتباعه، يستدعي معالجة فورية إثباتا لأهمية المقام وتحسّبا لأيّ تكرار مستقبلا. بالطبع، وبالنظر إلى خطورة تقييد الحرية على هذا الوجه، يتم صون المقامات من التعرض لها ليس فقط بطريقة لاحقة بل أيضا في حالات كثيرة بشكل استباقي. وهذا ما سنحاول تبيانه أدناه.

الرقابة المسبقة، حفظ المقامات بشكل استباقي

تبقى الرقابة المسبقة في مجالي السينما والمسرح مركزية في هذا الصدد. وخير مؤشّر على ذلك هو التعهد الذي يُطلب من مُنتجي الأفلام توقيعه تمهيدا للترخيص لهم بإنتاجها وهو التعهد بعدم المس بأي حساسية دينية أو سياسية أو اجتماعية”، وعمليا بأي رمز أو مقام[1]. وعليه، يصبح الدور الأساسي للرقيب هو ضمان التزام مجمل الأعمال الفنية باحترام المقامات كشرط للإنتاج والعرض. وهذا ما ينطبق على الأفلام التي قد تتناول أحداث الحرب أو أفعال الفساد أو أي عمل انخرط فيه أي من المقامات.

لفهم ذلك، يكفي مقارنة موقف الرقيب بقبول عرض فيلم “قضية رقم 23” بموقفه السلبي من فيلم “لي قبور في هذه الأرض”، على الرغم من أن الفيلمين تناولا إحدى أبشع مجازر الحرب: مجزرة الدامور. وأهمية المقارنة تعود إلى أن الفيلم الأول تجنب التعرّض لأي من الحساسيات السياسية أو الاجتماعية اللبنانية، فحمّل مسؤولية المجزرة للفلسطينيين وحدهم في مجزرة الدامور من دون الإشارة إلى أي شريك لبناني، فيما أن الفيلم الثاني كان أكثر أمانة في مقاربة الأحداث التاريخية، فحمل مسؤولية المجزرة لعدد من هذه المقامات المتخاصمة. فاقتضى إذ ذاك منعه. وما يزال الطعن (إعادة المحاكمة) في قرار المنع قيد النظر في مجلس شورى الدولة، الذي كان عمد إلى رده سابقا، على خلفية أنه يثير النعرات الطائفية[2].

كما أنه تفرّعت عن هذه الصلاحية ممارسات من شأنها إشراك مراجع طائفية (دار الإفتاء والمركز الكاثوليكي للإعلام) في أعمال الرقابة. فرغم أن قانون الرقابة على عرض الأفلام لم يذكر قطّ أيا من هذه المراجع وأن بعضها لا يشكل جزءا من تنظيمات الدولة، درج الرقيب الأمني على استشارتها بشكل منتظم. بل في بعض الحالات، تجاوز الرقيب التنسيق معها في المطبخ الداخلي للرقابة، ليدعو طالبي رخصة العرض إلى الاستحصال على موافقة هذه المراجع كشرط لمنحهم إياها.

كما يسجل توسع مجلس شورى الدولة في تكريس الرقابة المسبقة على تصوير الأفلام رغم أن القانون 1947 اقتصر على تنظيم الرقابة على عرض الأفلام حصرا. ففيما تمّ الإدلاء بأن المبدأ هو حرية التعبير التي لا يمكن تقييدها إلا بقانون وفق المادة 13 من الدستور، وأنه يقتضي اعتبار ممارسة الرقابة على السيناريو غير قانونية لعدم وجود أيّ نصّ ناظم لها، رأى المجلس أن لمن له صلاحية الرقابة على العرض صلاحية ضمنية بالرقابة على السيناريو والتصوير، ليعيد بالنتيجة إحياء صلاحية قديمة كان يتولاها المفوض السامي الفرنسي، بعد اعتبارها منقولة حكما ولو بغياب أي نص صريح، لمن انتقلت إليه الرقابة على عرض الأفلام (الأمن العام)[3].

وقد تفرعت هذه الممارسة الحاصلة من دون نص، عن توسيع لهامش تدخل المقامات في هذه المرحلة، وذلك من خلال تعليق الحصول على ترخيص بالتصوير على الحصول على إذن مسبق من مجمل الجهات النافذة في مناطق التصوير. وقد بيّنا في مكان آخر أن عدد هذه الجهات بلغ في العديد من الحالات ما يقارب العشرة[4].

وما لا يقل خطورة، هي القوانين التي تمنع موظفي الدولة من الإدلاء بآرائهم إلا بعد الحصول على ترخيص لهم من رؤسائهم التسلسليين. وخطورة هذا المنع تكمن في أنه يقيّد حرية الفئة العارفة العالمة بالممارسات السائدة داخل الإدارة أي من يعرف، من الكلام، وتاليا في أنه يؤدي عمليا إلى إحاطة عمل الإدارات العامة (وعمليا الوزراء والمقامات السياسية التي يرتبطون بها) بحجاب من السرية. ومؤدى ذلك هو ضمان بيئة صديقة للفساد ولسوء الإدارة ولممارسة الهرمية، ومعادية للمساءلة والمحاسبة. ومن أهم الأمثلة على ذلك، الهجمة التي حصلت في سنتي 2017 و2018 ضدّ رئيس إدارة المناقصات جان علية على خلفية إدلائه بمعلومات بشأن عدد من المناقصات[5]. وعليه، وبدل ملاحقة الشّخص الذي تفضحه المعلومات، يصبح الموظف الذي أفصح بهذه المعلومات، موضع اتهام مباشر.

وقد نبّه وزير العدل في تعميمين صادرين عنه[6] إلى أن هذا المنع يسري على القضاة أيضا، ضمانا لبيئة صديقة لاستمرار ممارسات التدخّل وسوء الإدارة في القضاء (ومنها ممارسات الوزير)، من دون أي احتجاج[7]. واللافت أنه في حين كان الناشطون يحتجّون بشكل جدّ صاخب على قرار النائب العام بإغلاق صفحة “فايسبوك” أحد الناشطين على خلفية تعرّضه لشعائر دينية، بقي هذا التعميم على هامش النقاش العام بل تم التعامل معه وكأنه أمر طبيعي لا يستدعي أي استهجان أو احتجاج. وعليه، ظهر كأنما استدعاء ناشط لمساءلته عن قول معين أخطر من الناحية الاجتماعية من إخراس جميع القضاة. في الاتجاه نفسه، يذهب التعميم الصادر عن مجلس القضاء الأعلى بإنكار حق القضاة بالتجمع، وهو موقف ربما تستند إليه وزارة الداخلية لتبرير تأخرها في تسليم القضاة مؤسسي “نادي قضاة لبنان” العلم والخبر بتأسيس هذه الجمعية. وما يزيد قابلية الأمر للانتقاد هو أن حرية التعبير والتجمع  للقضاة تشكل ضمانة لاستقلاليتهم وفق مواثيق الأمم المتحدة[8].

وفيما من شأن إقرار قانوني حق الوصول إلى المعلومات وحماية كاشفي الفساد أن يخفف من هذه المحظورات، فإن هذا المفعول المرتقب ما يزال معدوما. فالحماية لا تُعطى لأي موظف يكشف عن الفساد، إنما فقط للموظف الذي يكشف عنه للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (وهي هيئة ما تزال غير موجودة).

من الاجراءات الاستباقية أيضا، القوانين الناظمة لإنشاء وسيلة إعلامية تقليدية. وهذا الأمر يتحصل أولا من الاستمرار في نظام الترخيص لإنشاء هذه المؤسسات، فيما أن العديد من الدول (تونس مثلا) جعلت هذا النظام نظام تصريح وليس نظام ترخيص. كما يتحصل ثانيا من سواد نظام الامتياز: وهذا ما نتبينه في مجال المطبوعات السياسية اليومية أو الموقوتة التي لا يمكن منح أي رخصة جديدة، إلى حين انخفاض الرخص الممنوحة إلى ما دون 15 مطبوعة يومية سياسية و13 مطبوعة سياسية موقوتة صادرة باللغة العربية. وما زاد من هذه القاعدة قابلية للنقد هو أن منع إصدار مطبوعات جديدة ما يزال ساريا على الرغم من انخفاض عدد المطبوعات فعليا دون هذا المستوى، وذلك بنتيجة امتناع وزارة الإعلام عن إلغاء التراخيص التي توقف استثمارها.

وعليه، بات على الراغب بإصدار مطبوعة سياسية أن يلجأ إلى شراء أو استئجار امتياز، مع ما يستتبع ذلك من أكلاف مالية فائقة. وفيما تمّ تبرير هذا النظام بمحدودية سوق الإعلان في لبنان، فإن هذه الحجّة تجد ما يدحضها تماما في عدم تطبيقها على المطبوعات غير السياسية. وهذا الأمر إنما يعني أن هذه الحجة ما هي إلا ستار لتقييد حرية إنتاج مطبوعات سياسية. ويلحظ أن نقابة الصحافة عادت ووقفت سدّا منيعا أمام إلغاء هذا الامتياز، في معرض النقاش الدائر حول اقتراح القانون الجديد الناظم لمختلف وسائل الإعلام.

الأمر نفسه يتصل بقنوات التلفزة وفق شروط الترخيص المنصوص عليها في قانون رقم 383/1994، والذي أدى عمليا إلى ما يشبه المحاصصة بين زعماء الطوائف.

الحساسية ردّا على التعرّض للمقامات

هنا نبلغ جانبا لا يقلّ خطورة من نظام المقامات، وقوامه أن التعرض لأيّ منها يستوجب التصدي له بقوة تماما كما نتصدى للمسّ بما نعدّه مقدسا (غضب شديد، استهجان… الخ). فالتعرض لأي من المقامات إنما يشكل في عمقه تشكيكا بقدسية هذا المقام أو قوته أو مشروعيته، ويكون على مناصري هذا المقام التصدي بقوة لهذا التعرض، بهدف إغلاق الباب أمام أي تشكيك مستقبلي مماثل. وبالطبع، يؤدي تدعيم نظام المقامات وترسخه إلى التوسع في تعريف الأفعال التي تشكل تعرضا لها. فهي لا تشمل فقط أشخاصا أو رموزا بعينهم، بل أيضا الأشخاص الذين يرتبطون بهم بدرجة أو بأخرى، وفق قوة المقام المذكور.

ومن هذا المنطلق، شهدنا مؤخرا بروز عبارة “العهد” التي باتت تشمل ليس فقط رئيس الجمهورية إنما بات بإمكان كل من يرتبط به من وزراء ونواب وقضاة ورؤساء بلديات ونقباء الخ… أو يود ربط نفسه به الإدلاء بها بغية كسب حصانة معينة أو حماية أكبر. وعليه، تصبح صفقة الباخرة التركية مشمولة بما يفترضه العهد من حماية، على خلفية أن الوزارة المعنية بها هي من الوزارات المرتبطة به. كما يصبح أي موقف للقضاة احتجاجا على تسييس التشكيلات القضائية أو رفضا لوضع اليد على صندوقهم التعاضدي بمثابة اعتداء ضدّ العهد ..الخ لارتباط وزارة العدل به.

الأمر نفسه نستشعره بخصوص الرموز الدينية: فالتعرض لا ينحصر إذ ذاك بالمس بمعتقد ديني، إنما أيضا بأي من القديسين أو الأولياء، أو حتى برجال الدين. فتصبح أبسط طرفة (طرفة شربل خوري) بحق مار شربل (أحد أهم القديسين لأتباع الطائفة المارونية) بمثابة اعتداء خطير على الطائفة المارونية برمتها. كما يصبح إظهار إحدى شخصيات فيلم (رجل دين وهمي تابع للطائفة الدرزية) في مظهر غير مثالي اعتداء على الطائفة  (تظاهرة منتمين إلى الطائفة الدرزية أمام قناة “الجديد” لمنع عرض فيلم “طيارة من ورق” للمخرجة الراحلة رندة الشهال على خلفية ظهور رجل دين درزي في مظهر غير لائق)[9].

وينطبق هذا الأمر سواء كان التعرض محقا أو غير محق. بل يرجح أن تكون ردّة الفعل أكثر عنفا حين يكون التعرّض محقا، كما يكون كذلك بقدر ما يكون مفعول التشكيك قويا. وفيما يفترض أن يكون التعبير عن هذه الحساسية عفويا، فإن التنافس الشديد بين المقامات يفرض في أحيان كثيرة المبادرة إلى افتعال ردود الفعل أو تنظيمها. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك، الاحتجاجات “الشعبية” ضد التعرض لمقام رئيس مجلس النواب نبيه بري من قبل مؤيدي هذا الأخير ضد ناشطي حراك صيف 2015 أو ضد وزير الخارجية جبران باسيل الذي ذهب حدّ وصفه بالبلطجي أو ضد محطة “الجديد” على خلفية بثّ أخبار اعتبرها مناصرو الرئيس بري مسيئة له. ومنها أيضا التهجم الكبير الحاصل ضد الناشطين شربل خوري وجوي سليم على خلفية “نكتة” مار شربل. وقد وصلت ردود الأفعال حد التهديد بالقتل والاغتصاب والاعتداء عليه فعليا في مكان عمله، قبل طرده منه.

ولا بأس في هذه الحالة أن يقترن التعبير عن الحساسية بأشكال مختلفة من اللغو والدراماتيكية بحيث يصوّر التعرّض لمقام معين على أنه فتيل لإشعال فتنة (ربما حرب) طائفية جديدة وتاليا أحد المخاطر الكبرى التي تحدق بالوطن التعددي. وقد بات هذا التوجه رائجا عند تقديم شكاوى القدح والذم، بحيث يعتبَر أي تعرض لزعيم طائفي بمثابة إثارة للنعرات الطائفية. بل وصل الأمر إلى درجة اعتبار المسّ بمؤسسات عامة محسوبة على هذه الطائفة أو تلك على أنه إثارة لهذه النعرات. كما من أشكال الدراماتيكية الرائجة، ارتكاب اعتداءات وجرائم جزائية ضدّ الغير (قطع الطرقات، الاعتداء على مجموعات أخرى… ألخ)، تظهيرا لما يشبه الانقلاب الكبير الحاصل على صعيد السلم والاستقرار، بنتيجة هذا التعرض.

ويظهر الدور الاجتماعي للمقام (وأتباعه) في التصدي للتعرض له من هذه الزاوية مشابها للدور الذي يتعين على الرجل (وعصبته) أداءه للتصدي لأي انتقاص من رجوليته أو تهديد لشرف العائلة، حيث يصوّر الغضب والاعتداء “الجرمي” الذي قد يتبعه كنتائج حتمية ومشروعة بدرجة أو بأخرى للتعرض. ويلحظ أن النيابات العامة تنكفئ في الكثير من الأحيان عن ملاحقة هذه الاعتداءات الجرمية، إذ لم يسجل أي ملاحقة لأي من هذه الأفعال، على الرغم من خطورتها الاجتماعية الفائقة.

وهذا ما حمل “المفكرة القانونية” إلى تسمية هذه الفئة الجديدة من الجرائم على أنها جرائم شرف حديثة. فهي جرائم شرف تبقى على غرار ما كانت عليه جرائم الشرف العائلي، بمنأى عن الملاحقة. وهكذا، أمكن ملاحقة الناشط صلاح نور الدين على خلفية القدح والذم بحق رئيس المجلس النيابي فيما بقيت شكواه بتعرضه للضرب من قبل أنصار هذا الرئيس من دون أي ملاحقة[10].

المعالجة الفورية

لعلّ أهم انعكاسات نظام المقامات، هو السعي إلى توسيع مجالات المعالجة أو حتى العقوبة الفورية، طالما أن خطورة المسألة هي في مكان لا يسمح بالتروي. فأي تأخير في المعالجة سيمكّن المعتدي من مناقشة أحقية اعتدائه وتاليا من مواصلة تشكيكه في مكانة المقام المعتدى عليه، مع ما قد يستتبع ذلك من استفزاز وحساسية. ومن هذا المنطلق، تصبح مراعاة “الحساسية” (اتخاذ اجراءات فورية) أكثر إلحاحا وسموا من اعتبارات حرية التعبير أو المحاكمة العادلة.

انطلاقا من ذلك، يؤدي ترسخ نظام المقامات وتدعيمه إلى فرض توجهات مناقضة للتوجه الحاصل سابقا، وبشكل خاص قبل حرب لبنان 1975-1990. ففيما اتجهت التشريعات اللبنانية قبل هذه الفترة إلى إعادة النظر في الطابع الجزائي للملاحقات (قوانين عفو متتالية ومناقشات نيابية بشأن إلغاء الطابع الجزائي للملاحقة) وإلى إلغاء أي عقوبة فورية قد تسبق المحاكمة (توقيف احتياطي أو توقيف للمطبوعة)، فإن التشريعات والممارسات السائدة خلال العقدين الأخيرين أعادت تظهير بعض المعالجات الفورية.

ومن أبرز مظاهر هذا التوجه المعاكس، التدابير الآتية:

  • التساهل مع التحرك الآيل إلى استيفاء الحق عنوة. وقد يأخذ هذا التساهل أشكالا مختلفة، منها الاعتداء الجسدي أو معاقبة وسائل إعلامية مسيئة من خلال حرمانها من إيرادات الإعلان التجاري.
  • تطبيق التوقيف الاحتياطي على الجرائم المرتكبة بواسطة “فايسبوك” أو غيره من وسائل التواصل والتي لا تشكل مواقع إخبارية منتظمة، على أساس أن الجرائم المرتكبة على هذه المواقع تختلف في جوهرها عن جرائم المطبوعات،
  • قانون المعاملات الإلكترونية الصادر مؤخرا حيث أعطيت النيابة العامة صلاحية واسعة لوقف المواقع الإلكترونية لفترة شهر قابلة للتجديد لمرة واحدة. كما أعطي قضاة التحقيق صلاحية مشابهة في عدد من الجرائم. وعليه، تصبح جميع المواقع الإلكترونية مهددة بالإغلاق بقرار من المدعي العام قبل أي محاكمة[11].
  • الاستدعاءات المتكررة لاستجواب الناشطين بشأن status أو like أو share للتحقيق لدى الأجهزة الأمنية (بما فيها الأجهزة العاملة في مجال الإرهاب كمخابرات الجيش أو الأمن العام)، والطقوس التي اقترنت بها ومنها إطالة أمد الانتظار قبل التحقيق وبعده، والأهم فرض اجراءات فورية من قبيل إلزام االمدعى عليه بمحو التصريح أو إغلاق الصفحة أو التعهد بعدم تكرار الإساءة أو التعرض للمقام المعتدى عليه، كشرط لتركه[12]. وقد ترافق هذا الأمر أحيانا مع توقيف عدد من الأشخاص لأيام أو لأسابيع عدة، وإن بقي هذا الأمر استثنائيا.
  • ظاهرة اللجوء إلى القضاء المستعجل: وقد تفاقمت هذه الظاهرة بعد صدور قرار قاضي الأمور المستعجلة في بيروت “أوفريرا”، حيث عمد عدد من القضاة إلى التدخّل بشكل استباقي لحذف مادة إعلامية معينة أو منع أي نشر قد يسيئ لسمعة أحد الأشخاص. ورغم أن عددا من القضاة تشدد في قبول هذه الطلبات بحيث أخضعوها لموازنة بين اعتبارات حرية التعبير واعتبارات الحق الشخصي بالشرف، فإن عددا آخر واصل قبول هذه الطلبات فور ثبوت احتمال المس بسمعة أحدهم، مغلّبا إياها بشكل عام على اعتبارات حرية التعبير.

وما زاد الأمر سوءاً هو أن أصول المحاكمات تسمح لطالبي اجراء مماثل باختيار القاضي الناظر في الطلب في الدوائر القضائية الكبرى التي يعمل فيها أكثر من قاضٍ. وقد وصلت بعض هذه القرارات حدّ “منع التداول” باسم أحد القيمين على خدمة عامة (مستشار وزير)[13] مع ما يستتبع ذلك من تحصين لهذا الشخص إزاء أي انتقاد، مهما كان محقا. كما يسجل أن الدولة (قضية سكر الدكانة/ مجلس الجنوب)[14] وبعض المؤسسات العامة (أوجيرو/ الأخبار)[15] تقدموا بطلبات مماثلة لإزالة تقارير أو لمنع انتقادات بالفساد، مع ما تخلل اللجوء إلى القضاء من قبل هذه الإدارات من تشويه للحقائق وخروج عن مبدأ الخصم الشريف.

أصول استثنائية

أمر آخر أساسي لفهم نظام المقامات هو النظر إلى أصول المحاكمة الاستثنائية المتبعة في هذا المجال. وهنا، تجدر الإشارة إلى أمرين أساسيين:

أولا، لجوء مقامات عدة إلى النيابة العامة التمييزية طلبا لحزمها وتشددها في التعامل مع التعرض لها، على أمل ثني المعتدي عن تكرار اعتدائه أو إقناعه بالرجوع عنه. وقد وثقت “المفكرة” العديد من شكاوى القدح والذم المقدمة من زعماء وأشخاص نافذين إلى هذا المرجع. وفيما يستند هذا التوجه إلى الصلاحية الشاملة الممنوحة للنيابة العامة التمييزية للتحقيق في الجرائم، فإنه يؤدي عمليا إلى إغراق هذه الأخيرة بالتحقيق في جنح بسيطة كما هي حال جنح القدح والذم، لا خطورة لها سوى أنها تمس بمقامات وزعامات. وهذا ما حملنا إلى القول بأن النيابة العامة التمييزية تحولت بفعل هذه القضايا من تمييزية إلى امتيازية (نسبة إلى الامتياز المتمثل في التحقيق في شكاوى هؤلاء).

ثانيا، يناط النظر في جرائم المطبوعات وما يوازيها من جرائم مرتكبة بواسطة وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمواقع الإلكترونية الإخبارية، بمحاكم خاصة هي محاكم المطبوعات. وتتمثل محكمة المطبوعات في إحدى غرف الاستئناف في كل محافظة، علما أن أهمها إطلاقا هي محكمة مطبوعات بيروت، بالنظر إلى العدد الكبير للدعاوى المقدمة إليها.

وفيما تم تبرير هذا الأمر بوجوب أن تكون المحكمة متخصصة، فإنه غالبا ما تم تعيين أعضاءها من القضاة الذين لا تتوفر لديهم أي معرفة خاصة بجرائم المطبوعات. وقد أدى غياب التخصّص لدى المحكمة إلى تجريدها من الغاية من وجودها وإلى جعلها أقرب إلى محكمة استثنائية منها إلى محكمة متخصصة.

وقد تمثل هذا الأمر في عدد من الأحكام والتوجهات، والتي يستشفّ منها تحوّل المحكمة إلى محكمة لتكريس المقامات وحمايتها إزاء أيّ اعتداء أو قلة أدب، بمعزل عن المبادئ التي ترعى حرية التعبير وأهمها مبدأي الضرورة والتناسب. وغالبا ما انتهت محاكم المطبوعات إلى معاقبة “الذم” بمعزل عن مسبباته أو الظروف المحيطة به، وبشكل خاص بمعزل عن مدى توفر حسن النية أو سوئها.

نظام المقامات ينعكس سلبا على الإطار العام لمقاربة قضايا التعبير عن الرأي

من البيّن أن نظام المقامات يُرسي عادات وأعرافا وممارسات د\خل القضاء والأجهزة الأمنية، من المرجح أن تنطبق على مجمل قضايا التعبير عن الرأي، بما فيها القضايا التي لا تتصل بالمقامات.

وهذا ما نتبينه بوضوح في عدد من القضايا التي باشرتها شركات تجارية أو أشخاص متفاوتو النفوذ. من الأمثلة على ذلك، حصول شركة كشركة “إيدن باي” التي شيدت مبنى على شاطئ الرملة البيضا خلافا للقانون، على قرار يمنع قناة LBC من نشر أي مادة مسيئة لها، أو أيضا الضغط على ناشط انتقد هذه الشركة على خلفية عملها هذا وفتحها فندقا من دون ترخيص للتوقيع على تعهد بعدم التعرض للشركة مجددا. ومثل هذه القضية، عشرات القضايا التي انتهت إلى منع التداول بأمور خطيرة اجتماعيا بقرار قضاء مستعجل أو بما لا يقل سوءا إلى تعهدات بالامتناع عن التداول بأمور مماثلة.

  • نشر هذا المقال في العدد | 57 |  تشرين الثاني 2018، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

القمع ليس حيث تنظر: نظام المقامات

  • للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك/ي الضغط هنا

[1]  نزار صاغية، رنى صاغية، نائلة جعجع. أعمال الرقابة قانونا: تحرك من أجل اعادة النظر في قوانين الرقابة في لبنان. بيروت، 2010

[2]  حكم تاريخي بتكريس حق المعرفة لذوي المفقودين والمخفيين قسرا في لبنان. المفكرة القانونية، 12 آذار 2014

[3]  أعمال الرقابة قانونا، المرجع المذكور أعلاه

[4]  المرجع أعلاه

[5]  الهام برجس. المفكرة تنشر مقابلة مع مدير عام المناقصات جون علية: “مكافحة الفساد” خدعة من دون استقلال الهيئات المخوّلة ذلك. المفكرة القانونية، 19 أيار 2018

[6]  تعميم لجريصاتي عن تصريحات القضاة ومغادرتهم الأراضي اللبنانية. الوكالة الوطنية للاعلام، 17 تموز 2018

[7]  نزار صاغية. استقالة قاضٍ مشتبه به بالإرتشاء (1): الوزير يقمع حرية القضاة تكريسا لروايته. المفكرة القانونية، 27 تموز 2018

[8]  المفكرة تنشر ورقتها البحثية ال 7- 8 حول إصلاح القضاء في لبنان: حرية القضاة في التعبير والتجمع وتأسيس جمعيات. المفكرة القانونية، 2017

[9]  رضا حريري. شماعة النظام العامّ والآداب وإيقاظ النعرات الدينية لمنع النقد في السينما والمسرح. المفكرة القانونية، العدد 57، تشرين الثاني 2018

[10]  الهام برجس. المرافعة في قضية صلاح نور الدين: كرامة رئيس مجلس النواب مقابل كرامة الشعب. المفكرة القانونية، 12 كانون الأول 2016

[11]  ميريم مهنا. المشرّع و”جرائم التعبير” اليوم. المفكرة القانونية، العدد 57، تشرين الثاني 2018

[12]  جويل بطرس. التحقيقات في مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية. المفكرة القانونية، العدد 57، تشرين الثاني 2018

[13]  ايلي الفرزلي. القضاء يحمي «مصلحة غير مشروعة»: «الأخبار» تطعن بقرار يمنع الإعلام من النقد. جريدة الأخبار، 1 أيلول 2018

[14]  من يدافع عن الدولة، وكيف؟ حكم قضائي يكرس دور الناس في مكافحة الفساد ويفضح دور هيئة القضايا في منعها. المفكرة القانونية، 24 نيسان 2018

[15]  ايلي الفرزلي. القضاء ينتصر لـ«الأخبار»: شبهات حول «أوجيرو». جريدة الأخبار، 1 أيلول 2018

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني