التنظيم المؤقّت للسّلط أثناء “الحالة الاستثنائية”: من القوانين المدنية إلى “الأحكام العرفية”؟


2021-08-09    |   

التنظيم المؤقّت للسّلط أثناء “الحالة الاستثنائية”: من القوانين المدنية إلى “الأحكام العرفية”؟
من احتجاجات 2021 (تصوير ياسين قايدي)

بإعلان رئيس الجمهورية تفعيل الفصل 80 من الدستور واتخاذ التدابير التي تحتّمها الحالة الاستثنائية، دخلنا في مرحلة أحكام استثنائية مختلفة عن فترة “السّير العادي لدواليب الدولة”. ولذا فإن الأحكام القانونية والدّستورية التي تحكم هذه الفترة، التي قد تتمدد لما يزيد عن 30 يوما، يجب أن تكون واضحة معلومة مقروءة، ويمكن اللجوء والاحتكام إليها وخاصّة تحديد نتائجها وآثارها على منظومة الحكم وعلاقة السّلطات كما على الحقوق والحريّات. 

ويجدر التذكير هنا أن تونس عرفتْ في السنة الأولى للثورة تنظيميْن مؤقّتيْن للسّلط العمومية تمّ إطلاق تسمية “الدّستور الصغير” على كل منهما.

الأوّل صدر بموجب المرسوم عدد 14 لسنة 2011 مؤرخ في 23 مارس 2011، والذي جاء في تواصل مع النظام السياسي الذي وضعه دستور 1959: نظام رئاسي ولكنه [ونظرا لتعليق العمل بأحكام الدستور] جاء ليضبط أدوار كل السلطات بعد حلّ مجلس النواب ومجلس المستشارين والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الدستوري. وحدّد مهام رئيس الجمهورية ومهام الحكومة والوزير الأول آنذاك ودور السلطة القضائية والجماعات المحلية، كما أكّد على الصبغة المؤقتة له من ناحية وعلى عدم ترشّح الفاعلين السياسيين للانتخابات القادمة. 

الثاني صدر عن المجلس الوطني التأسيسي في شكل قانون تأسيسي عدد 6 مؤرخ في 16 ديسمبر 2011 يتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية والذي أنهى صراحة العمل بدستور الأوّل من جوان 1959 وعوّضه من حيث الشكل وخاصة من حيث المحتوى. وقد شكّل “الدستور الصغير” المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 ممهّدا لما سيأتي لاحقا في نصّ دستور جانفي 2014، حيث غيّر نظام الحكم الذي كان سائدا في ظل دستور 1959، ليخرج به تماما من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني [والذي يقترب من النظام المجلسي] ليجعل من المجلس الوطني التأسيسي هو أصل الحكم وتسيير الدولة من خلال التشريع والتأسيس. فكان تنظيم 16 ديسمبر 2011 مؤشرا هاما إلى تغيير نظام الحكم وتوازن السلطات ونشاطها .

اليوم، مع إعلان 25 جويلية وحديث رئيس الجمهورية صراحة عن وجود تنظيم مؤقت للسلط في هذه المرحلة، فإننا نتساءل إن كان تصريح الرئيس له دلالة شكلية فقط بمعنى أن التدابير الاستثنائية بموجب الفصل 80 هي فعلا أحكام انتقالية في الزمن تنتهي بانقضاء مدّتها والعودة إلى السير العادي لدواليب الدولة أو أن لذلك دلالة ماديّة أي أنّنا انطلقنا في 25 جويلية في فترة انتقالية غير معلنة ستغيّر تدريجيّا نظام الحكم وتنظيم السلط استعدادا لنصّ قادم “دستور” مثلا يغيّر ما هو قائم منذ 2011 وتحديد 2014 ويذهب إلى جمهورية ثالثة. 

وما يزيد البحث في هذا الأمر إلحاحا هو أن خطورة التدابير الاستثنائية تشتدّ كلما طالت وكلما غاب الوضوح عنها.

في وجود تنظيم مؤقت غير معلن: في تواصل النصوص الخفيّة 

يعتبر إعلان 25 جويلية 2021 بمثابة إعلان لتنظيم مؤقت للسلط العمومية كما يتصوّره رئيس الجمهورية، في قطيعة تامّة مع دستور 27 جانفي 2014 حيث قدّم الرئيس رؤيته لما يجب أن يكون عليه سير السلط: 

– نظام رئاسي “متشدّد”: في رئاسوية منظومة الحكم: بإعلانه تعليق كل أعمال مجلس نواب الشعب، ورئاسة السلطة التنفيذية بصلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئاسة النيابة العمومية، يكون رئيس الجمهورية قد قدّم رؤيته للحكم: رئيس قويّ يترأس الدولة ويترأس الإدارة وتكون الحكومة مسؤولة أمامه هو فقط.

– نظام تجميع السلط ومركزتها: في يد رئيس الجمهورية وهي مسألة من المؤكد أنها مؤقتة ولكنها قد تدوم في الزمن إلى حين العودة إلى السير العادي لدواليب الدولة ولكن على أي أساس وبأي شكل وإلى متى؟ 

ولكن سيكون لهذا التصوّر تأثيره الحتمي على التنظيم المقبل و”الدائم” للسلط العمومية والذي تغيب فيه أيّ رؤية أو وضوح من قبل الرئيس. 

– في تفعيل دور القضاء العسكري: إن تفعيل القضاء العسكري وما يخفيه من إقرار دور المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية، السياسية والعمومية يؤكد مركزية السلطة من ناحية واللجوء إلى القضاء الاستثنائي وهو ما كان دارجا في الفترة الفاصلة بين 1959 إلى 1987 بإحداث محكمة أمن الدولة أو باللجوء إلى القضاء العسكري في محاكمات الإسلاميين سنة 1992 وهو أسلوب في التعامل مع المدنيين مدان تماما وسيكون انعكاسه السلبيّ على الفترة الحالية مؤكدا وعلى المستقبل خطيراً جدّا.

هذه الإجراءات والتي تتبعها الأفعال سواء بمنع مجلس النواب من الانعقاد ورفع الحصانة وترأُس الحكومة وبداية التتبعات القضائية للنواب وتفعيل دور القضاء العسكري وترأس الحكومة والقيام بعزل وزراء وتسمية مكلّفين بتسييرها برتبة وزراء وعزل الولاة… تجعلنا نقترب من النظام السياسيّ الذي كان سائدا في ظلّ دستور 1959 وخاصة في صيغته الأصلية والتي تبنّت النظام الرئاسي الصرف وجعلت الحكومة جهازا تنفيذيا يترأسه رئيس الجمهورية، وهو مكوّن من كتاب دولة لا من وزراء ولا وجود لوزير أوّل أو لرئيس حكومة بل لكاتب دولة لدى رئيس الجمهورية … فهل أنه يتمّ تهيئة المناخ لنظام حكم مختلف تماما عمّا ضمّن في دستور 2014 والعودة إلى نظام قريب من دستور 1959؟ كل المؤشرات تؤكد ذلك. ولنا أن نتساءل عن الضوابط التي يجب أن تحيط بهذه الفترة “أو ما يسميه العديد الضمانات الواجبة لسلامة المرحلة وحمايتها للمبادئ وللحريّات؟”.

في غموض أسس ومحتوى هذا التنظيم المؤقت

لحدّ الساعة، لم يصدر أي نصّ عن رئيس الجمهورية لتوضيح ما هو محتوى هذه الأحكام المؤقتة باستثناء إعلان 25 جويلية والأوامر التي صدرت تباعا وخاصة الأمر المتعلق بإعفاء رئيس الحكومة [الأمر عدد 69 المؤرخ في 26 جويلية 2021] والأمر المتعلق بتعليق كل اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن كل أعضائه [الأمر عدد 80 المؤرخ في 29 جويلية 2021] وهي مسألة غريبة من ناحية وخطيرة من ناحية أخرى.

– غريبة أوّلا، لأنّه ينبغي على الأفكار القانونية وخاصة ذات القيمة الهامّة والآثار الخطيرة على النظام السياسيّ وعلى الحقوق والحريات، خاصة تلك التي تعوّض الأحكام الدستورية أن تكون واضحة ومقروءة وسهلة الولوج إليها. وهي مبادئ أساسية لا تهمّ شكل القاعدة القانونية بل تمسّ جوهريا من مضمونها فالأصل ألا يعذر الفرد بجهله للقانون، شرط أن يكون هذا القانون موجودا واضحا وسهل الوصول إليه. وعندها يمكن الاحتجاج به وتجاهه. إلا أن وجود هذه الأحكام والتراتيب الهامّة والخطيرة في ذهن رئيس الجمهورية فقط يمثل خطورة كبرى على السلامة القانونية وعلى مبدأ أساسي من مبادئ دولة القانون: الأمان القانوني.

– خطيرة ثانيا: لأن غياب النصوص الواضحة والمنشورة يفتح الباب أمام التأويل والقراءات الأحادية وما يحتويه ذلك من تعسّف في قراءة “النص” وتأويله وتطبيقه. ويكون ذلك أشدّ خطورة عندما نكون في فترة تجميع السّلط في يد واحدة وغياب أي رقابة على هذه السلطة أوهذه المؤسسة المحتكرة للسلطة. ونحن نعلم احتكار رئيس الجمهورية [ومنذ البداية] لصلاحية فهم الدستور وتأويله وإعطائه المعنى الذي يريد وما تطبيق الفصل 80 في 25 جويلية إلا المثال الأبرز على ذلك. 

فالخطر هو أن تكون هذه الأحكام الانتقالية “الشفوية أحيانا” والمكتوبة أحيانا أخرى والمضمّنة في الأوامر الرئاسية لا توجد إلا في ذهن رئيس الجمهورية ولا يعلمها إلا هو وهو ما يفتح الباب أمام التعسف والاعتباطيّة وهي عناصر تتنافى تماما مع مبادئ دولة القانون الحامية الحقوق والحريات من أي انتهاك.  

أي خطورة قادمة؟ 

الظرف صعب جدّاً: نحن خارج دستور 2014 ولا يربطنا به الآن إلا “غمامة شرعية” اصطناعية تتجلى في تفعيل للفصل 80 دونما تقيّد به. ولذا يكون من الحتميّ إصدار نصّ يوضّح أحكام ومبادئ هذه الفترة وتحديدا إعلان حماية الحقوق والحريات وبيان مصدرها مذكّرين رئيس الجمهوية الذي يؤكّد على بقائه ضمن دستور 2014 على أن هذا الدستور ينصّ صراحة في الفصل 49 منه على أنه “لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور”، وأنه “تتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك” [الفصل 49 أيضا].

هذه الهيئات القضائية المطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى باليقظة الدّائمة لحماية الحريات المهدّدة بالتدابير الاستثنائية ذلك أنه وكلّما طالت الحالة الاستثنائية إلا وكانت الحريّات مهدّدة، مذكّرين القضاة التونسيين بأنه صدر عنهم في فترة حرجة من تاريخنا الحديث وإبان إلغاء الدستور حكم هامّ جدّا أعلن أن “دستور 1959 يبقى نافذا في أحكامه الضامنة للحقوق والحريات الأساسية لكونها غير قابلة بطبيعتها للإلغاء”. (حكم صادر عن محكمة الاستئناف بتونس في 5 فيفري 2013).

 

مقالات ذات صلة: 

– وحيد الفرشيشي، استئناف تونس تعلن الحقوق والحريات غير قابلة للإلغاء، المفكرة القانونية في 2 أفريل 2013.

– وحيد الفرشيشي، إعلان 25 جويلية 2021: هل قبر دستور 27 جانفي 2014، المفكرة القانونية، 3 أوت 2021.  

     

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، أجهزة أمنية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، قرارات إدارية ، حرية التعبير ، محاكمة عادلة وتعذيب ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني