تحولات إيجابية في اجتهاد محكمة المطبوعات في بيروت (1): من واجبنا تعزيز دور الإعلام في الكشف عن الفساد


2020-05-20    |   

تحولات إيجابية في اجتهاد محكمة المطبوعات في بيروت (1): من واجبنا تعزيز دور الإعلام في الكشف عن الفساد

أصدرت محكمة مطبوعات بيروت مؤخّراً أحكاماً عدّة، أتتْ بمثابة تحوّل إيجابيّ بالغ الأهمية في مقاربتها لحريّة التعبير. وقد حصل هذا الأمر في ظلّ القوانين ذاتها، إنّما بعدما شهدت المحكمة  تغيّراً في هوية أعضائها. وقد تألّفت الهيئة الحاكمة من القاضيات هبة عبدالله وناديا جدايل وأماني مرعشلي. وهذا الأمر إنّما يشكّل دليلاً هامّاً على أنّ للهيئات القضائية قدرة هائلة على التأثير على مدى حرية التعبير توسيعاً وتضييقاً حتى في ظلّ القوانين الحالية، وأنّ التوجّه في هذا المضمار يتوقّف تالياً وبدرجة كبيرة على هوية القضاة الناظرين في هذه الدعاوى بما لديهم من قناعات أو ارتباطات أو مواقف مسبقة. وما كان لهذا التحوّل أن يحصل لولا التغيير في أعضاء هيئة الحكم، بعدما طبع رئيسا الهيئة الأسبقان وهما سمير عالية (2002-2009) وروكز رزق (2009-2017) محكمة المطبوعات بمواقفهما المحافظة والمقيّدة لحرية التعبير. ويبقى طبعاً في المقابل هذا التحوّل مهدَّداً في حال انتهى التجاذب حول مشروع التشكيلات القضائية إلى تعيين رئيس معروف بتوجّهات مماثلة، وهو أمر محتمل جداً بالنظر إلى الأسماء المرشحة لهذا المنصب في المشروع المذكور.

نخصّص هنا عدداً من المقالات لهذه القرارات الصادرة عن هذه المحكمة على أمل تحوّلها إلى اجتهادات راسخة وتالياً إلى واقع جديد للعلاقة بين وسائل الإعلام والسلطة السياسيّة. ننشر هنا الحلقة الأولى التي نتناول فيها قرارين صدرا مؤخراً وهدفا إلى تشجيع الإعلاميين على كشف الفساد (المحرّر).

في تاريخ 7 نيسان 2020، أصدرت محكمة مطبوعات بيروت قرارين بتبرئة إعلاميين من التهم الموجهة إليهم على خلفية حريتهم في الكشف عن الفساد. صدر هذان الحكمان في إطار دعويْين كان تقدم بهما كلّ من رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة ورئيس بلدية بيروت الأسبق بلال حمد ضد جريدة الأخبار وكاتبي المقالين المدعى بهما، وهما تباعاً الصحافيان محمد زبيب ورلى إبراهيم. الدعوى الأولى اتّصلت بمقالة حرّرها زبيب وعزا للسنيورة مخالفة في إطار “التيكو تاك” فوّتت على الدولة إيرادات بحوالى 5 مليارات ليرة لبنانية (أي ما كان يزيد آنذاك على 3.3 ملايين دولار) فيما الدعوى الثانية اتصلت بمقالة حرّرتها رلى إبراهيم وعزا لحمَد مخالفة في إطار المناقصة الحاصلة لتركيب كاميرات في بيروت بقيمة 40 مليون دولار.

وبعدما اطّلعت المحكمة على القرارات الصادرة عن ديوان المحاسبة والتي شكّلت السند الأساسي للمقالتيْن المدعى بهما، خلصت إلى قرارها بالتبرئة بعدما تثبّتت أنّ المدّعى عليهم أبرزوا أدلّة منتجة وذات أسس جدية تستدعي إفادتهم من البراءة التي أباح المشرّع إمكانية منحهم إياها سيّما بالنظر إلى فداحة النتائج التي تعكس إضراراً بالمال العام. وللتوصّل إلى ذلك، استندت المحكمة إلى ثلاثة أنواع من الأسناد:

  • أسناد واقعية تمثلت في القرارات الصادرة عن ديوان المحاسبة،
  • أسناد مستمدّة من المبادئ العامّة والأحكام الدولية ومن أبرزها المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 10 من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان (وهي معاهدة لم يصدّقها لبنان) فضلاً عن المادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد التي نصّت على وجوب إشراك المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في مكافحة الفساد عبر حماية حرية التماس المعلومات المتعلّقة بالفساد وتلقّيها ونشرها وأيضاً للمبادئ التوجيهية لمجلس أوروبا حول مكافحة الفساد والتي أشار المبدأ 20 منها إلى أهمية دور الإعلام في إذكاء الوعي العام حول الفساد وأسبابه وكيفية مكافحته. وقد ركّزت المحكمة في عرضها هذه الأسناد ليس فقط على حرية التعبير من حيث اعتبارها حرية عامّة، بل أيضاً على وظائفها الحمائية والتنموية للمجتمع[1]،
  • قانون العقوبات وتحديداً المادة 387 منه والتي تبرّئ المدعّى عليه من جرم ذمّ بحق موظف عام إذا كان موضوع الذمّ عملاً له علاقة بالوظيفة وثبتت صحّته. ولم تكتفِ المحكمة هنا بإيراد هذه المادة، إنّما أعطت تفسيراً لها من شأنه تعزيز دورها في حماية حرية التعبير وذلك من زاويتين: الزاوية الأولى، تحديد مقاصد المشرّع من وضع هذه المادة، حيث جاء في الحكم أنّه أكّد من خلال وضعها على الأهمية التي يوليها “لحسن سير المرفق العام ولوجوب انتظام العمل فيه بشرعية وقانونية صوناً للمال العام”. كما أكّد على إرادته بـ”إخضاع كلّ شخص يتعاطى شأن المرفق العام لرقابة الرأي العام ولإمكانية تسليط مجهر الإعلام عليه والإضاءة على كلّ انحراف من شأنه الإخلال بحسن سيره متيحاً في هذه الحال الذمّ به بصورة استثنائية”. أمّا الزاوية الثانية، فقد اتّصلت بماهية الإثباتات المطلوبة من المدّعى عليه للتبرّؤ من الجرم. وفي هذا المضمار، وضعت المحكمة بوضوح كلّي أنّ الإثبات يُعدّ كافياً بمفهوم هذه المادة عند إبراز الدليل على أنّ المادة المكتوبة المدّعى بها ليس كذباً مجرّداً أو مختلقاً.

وعلى أساس هذه الأسناد، انتهت المحكمة للتبرئة، بعدما اعتبرت أنّ المدّعى عليهم تمكّنوا من إبراز أدلة منتجة وذات أسس جدية، تستدعي إفادتهم من البراءة سيما بالنظر إلى فداحة النتائج التي تنعكس إضراراً بالمال العام. وقد اعتبرت المحكمة أنّ الإثبات المطلوب على مضمون المقالة الأولى بحق السنيورة متوفّر طالما أنّه اقتصر على استعادة مضمون قرارات ديوان المحاسبة في هذا الشأن. النتيجة نفسها توصّلت إليها المحكمة بالنسبة إلى المقالة الثانية، بعدما تثبّتت أنّ المجلس البلدي أقرّ صفقة الكاميرات بتجاوز لقرار ديوان المحاسبة برفضها لأسباب قانونية. واللافت أنّ المحكمة تشبّثت بهذا الموقف رغم أنّ ديوان المحاسبة عاد وعدل عن موقفه في اتجاه الموافقة على الصفقة من دون تبرير في وقت لاحق لنشر هذه المقالة.

يستدعي هذان الحكمان الملاحظات الآتية:

1- التوسّع في حرية التعبير من خلال تفسير متميّز للمادة 387 عقوبات:

هنا تجدر الإشارة إلى أنّ محكمة المطبوعات في بيروت تميزت في حكمها المذكور ليس فقط بإعادة إحياء تطبيق المادة 387 عقوبات التي تبرّئ المدّعى عليه بذمّ قيّم بخدمة عامّة في حال ثبت أنّ الذمّ المتّصل بوظيفته صحيح، بل أيضاً بتفسيرها على نحو يؤدّي إلى توسيع مداها.

فهي أعادت إحياء هذه المادة في اجتهاد محكمة مطبوعات بيروت، من خلال استخدامها للمرّة الأولى منذ 1999 لتبرئة وسيلة إعلامية. وبالفعل، نحتاج للعودة إلى السنة المذكورة لنجد التطبيق الأخير (الحكم الصادر في 25/1/1999) والذي حصل في إطار الدعوى التي أقامها الوزير السابق شاهي برصوميان ضدّ جريدة النهار على خلفية اتّهامه بالتورّط بفضيحة الرواسب النفطية. في المقابل، امتنعت محكمة المطبوعات في هيئاتها اللاحقة من ثمّ أي طوال عقدين وحتى تاريخه عن أيّ تطبيق آخر لهذه المادة في اتّجاه تبرئة المدّعى عليه، بل بدت دوماً وكأنّها تقيم الاعتبار الأهم لمقام المدّعي الذي هو في الغالب مسؤول سياسي أو أحد كبار الموظفين، بما يعكس نظام المقامات.

كما تميّزت المحكمة في الآن نفسه من خلال تفسير المادة المذكورة (387) على نحو يؤدّي إلى تسهيل تطبيقها وتالياً توسيع الحرية الإعلامية في فضح عوامل الخلل والفساد في الوظيفة العامّة. وقد تحقّق هذا الأمر من خلال اعتبار أنّ الإثبات المطلوب وفق هذه المادة يعدّ متوفّراً عند إبراز دليل على أنّ المقالة المكتوبة المدّعى بها ليست كذباً مجرّداً أو مختلقاً. بمعنى أنّ الإثبات المطلوب وفق المحكمة هو مجرّد إثبات على جدّية المقالة، وعمليّاً على حسن نيّة كاتبه وانتفاء أي نيّة سيّئة لديه. وبذلك، بدت المحكمة وكأنّها تذهب أبعد ممّا ذهب إليه حكم 1999 الذي كان اشترط لإبراء المدّعى عليه وفق المادة 387 إثبات توفّر معطيات متينة وجدّية من شأنها توليد قناعة مشروعة لديه بأنّ ‘الخبر المشكو منه’ صحيح فضلاً عن إثبات أنّه توخّى من نشره إثبات وقائع تهمّ المجتمع، ويقتضي إطلاعه عليها، اعتقاداً منه بصحّتها، على أساس من التثبّت والتحرّي الواجبين”. ومن البيّن أنّ شروط القرارين محلّ هذه المقالة أكثر تساهلاً من حكم 1999 وإن اتفقت القرارات الثلاثة على عدم اشتراط “الإتيان بالدليل الجازم والحاسم لإثبات ما تدلي به” للاستفادة من المادة 387.

كما يسجّل لغالبية أعضاء الهيئة الحالية أنّهما كانتا شاركتا في إصدار حكم آخر مشابه لا يقلّ أهمية وإنْ سهَا عن تطبيق المادة 387. وهو الحكم الصادر في قضية ناجي كرم ضدّ وزير الثقافة السابق غابي ليّون بتاريخ 4/12/2018، والذي انتهى إلى إبطال التعقّبات بحق كرم وهو أستاذ بمادة الآثار في الجامعة اللبنانية على خلفية تصريحاته دفاعاً عن الآثار والمباني التراثية في لبنان. وقد بُني الحكم آنذاك على عبارة محورية مفادها أنّه “لا يستقيم عدالة وقانوناً إدانة من يصوّب ويدلّ على الفساد بشكل موضوعي”.

2- قرارات تستكمل أعمال القضاء المستعجل في مجال حرية التعبير

الملاحظة الثانية الواجبة، هي التقارب الحاصل بين القرارين والقرارات التي كانت صدرت سابقاً عن عدد من قضاة الأمور المستعجلة في سياق رفضهم التدخّل الاستباقي لمنع النشر، وبخاصّة لجهة الاستشهاد بالمادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد أو أيضاً الحديث عن وظيفة حرية التعبير في تحقيق التنمية الاجتماعية. وكانت “المفكرة” نشرت عدداً من المقالات تعليقاً على أحكام مماثلة آخرها قضية “أوجيروو”سكّر الدكانة“. واللافت أنّ بعض الأشخاص الذين رُدّت طلباتهم أمام القضاء المستعجل كما هي حال مدير “أوجيرو”، عادوا وتقدّموا بدعاوى أمام محكمة المطبوعات، الأمر الذي يؤمل معه ردّها.

3- أحكام تعكس توجّها قضائياً مستجدّاً لمكافحة الفساد:

الملاحظة الثالثة تتّصل بتوقيت هذين القرارين، حيث صدرا في وقت نستشرف فيه توجّهاً متجدّداً لدى عدد من الهيئات القضائية لإثبات دورها في مكافحة الفساد. فإلى جانب هذين الحكمين، لا بدّ أن نشير إلى الحكم الذي صدر في قضية التخابر غير الشرعي بإدانة ميشال غبريال المر واستوديو فيزيون بعدما كان الحكم الابتدائي قد برّأهما بعد صرفه النظر عن إجراء التحقيقات اللازمة. كما برزت في الأسبوعين الماضيين الأحكام الصادرة عن القاضي المنفرد المدني في صور محمد مازح والتي أدّت إلى إصدار قرار بمنع سفر مدراء مصرف “بلوم”، تمكيناً لأحد المودعين من استخراج قيمة وديعته لتسديد نفقات استشفاء والدته. يضاف إلى ذلك بدء الملاحقة في قضية الفيول المغشوش.

تكمن أهمية هذا التوجّه في أنّه يأتي بمثابة ردّة فعل على سلسلة من القرارات القضائية هزّت الرأي العام وذهبت في المنحى المعاكس، ومن أبرزها القرارين الصادرين عن الهيئة الاتّهامية في بيروت بشأن تطبيق قانون الإثراء غير المشروع وملاحقة النقابي عصام خليفة والمخالفات المرتكبة من النيابة العامّة التمييزية في مجالي المصارف والاعتداءات على الأملاك البحرية.

وإذ يبقى عدد الأحكام القضائية التي تندرج في مكافحة الفساد أقلّ بكثير من المأمول في بلد يكاد الفساد يدمّره ويدمّر حظوظ أجياله المقبلة، فإنّه يؤمل أن يشكّل هذان الحكمان رافعة لمزيد من الاجتهاد في هذا المضمار.

أخيراً، كان يؤمل في الاتّجاه نفسه أن تبادر الهيئة الحاكمة إلى إحالة الملفّين إلى النيابة العامّة لمباشرة التحقيقات حول احتمال المسؤولية الجزائية للشخصين المذكورين (السنيورة وحمد). فالمأمول ليس فقط حماية حرية الإعلام في الكشف عمّا قد يشكّل أعمال فساد، لكن أيضاً وقبل كل شيء إجراء التحقيقات في هذه القضايا تمهيداً لمحاسبة أيّ إخلال للقانون أو تورّط في التستّر عنه فضلاً عن استرداد المال المنهوب.

حكم محمد زبيب

حكم رلى إبراهيم


  • [1]  وقد جاء تفصيلياً الآتي: أنّ العديد من الاتفاقيات الدولية التي انضمّ لبنان إلى معظمها أشارت إلى أهمية حرية الصحافة والإعلام كحق إنساني ومبدأ أساسي حامٍ للحريات والمجتمعات، حيث أنّ لها (أي للصحافة) الدور الرائد في استقصاء ومراقبة أعمال أشخاص السلطة العامّة وإعلام المواطنين بها وتسليط الضوء على مكامن الفساد في المجتمع الذي يعدّ اكتساب الثروة الشخصية بصورة غير مشروعة وجهاً من أوجهه ومن شأنه أن يلحق ضرراً بالغاً بالمؤسّسات الديمقراطية والاقتصاد الوطني وسيادة القانون ويهدّد التنمية المستدامة للشعوب بحسب الفقرة 19 من إعلان جوهانسبرغ للتنمية المستدامة عام 2002،
  • أنّ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي انضمّت إليها الدولة في 2008 أوجبت في المادة 13 منها إشراك االمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في مكافحة الفساد عبر حماية حرّية التماس المعلومات المتعلّقة بالفساد وتلقّيها ونشرها،
  • أنّ تعزيز حرية الإعلام يعدّ مبدأ من المبادئ العشرين الموجّهة لمكافحة الفساد وفق توصية مجلس أوروبا (24/97) حيث يكون دورها أساسياً في إذكاء الوعي العام حول الفساد وأسبابه وكيفية مكافحته، وأنّ السلطة القضائية تعدّ الملاذ لحماية حرية الصحافة والتعبير المصانة في الدستور والقوانين النافذة على أن تكون حرية مسؤولة وإعلاماً موضوعياً.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني