عدالة انتقالية مليئة بالشوائب: وجهة نظر الضحايا والناجين في النيبال


2020-01-13    |   

عدالة انتقالية مليئة بالشوائب: وجهة نظر الضحايا والناجين في النيبال

خلفية

خلّف النزاع المسلّح في النيبال على مدى عقد كامل (1996 ـ 2006) ألماً هائلاً ومعاناة كبيرة لعدد كبير من الناس. وكان الأثر الاجتماعي للنزاع كبيراً أيضاً حيث تعرّض الضحايا (لاسيّما المخفيين قسراً وضحايا الاغتصاب) للوصم في عائلاتهم وأوساطهم. وقد أطلقوا حملات شعبية على نطاق واسع شملت جميع المناطق والمقاطعات المتأثرة بالنزاع، تهدف إلى تسليط الضوء على آلامهم ومعاناتهم وإدراج السياق المحلّي في السياق الوطني العام. وبعد سنوات من حرمانهم من العدالة على المستوى العملي، اعتمد ضحايا النزاع استراتيجيات تكيّف متنوّعة لمواصلة حياتهم مثل ربط نشاطهم الشعبي بتوليد الدخل من خلال التعاونيات المحلية والتمويل المصغّر والأعمال الفنية ومبادرات محلّية لتخليد الذكرى واستراتيجيات لكسب العيش كمقاربات للمساعدة الذاتية لمواصلة حركتهم.

وعلى الرغم من أنّ كاتماندو تشهد منذ وقت طويل نقاشاً بشأن مختلف الأحكام والإجراءات الخاصة بالعدالة الانتقالية، إلّا أن القليل من الاهتمام يولى للبحث في ما الذي تعنيه العدالة للضحايا. كما يغفل من هم في السلطة ومن ينفذون عملية العدالة الانتقالية كيف غيّر الحرمان من العدالة لفترة طويلة من الزمن المفاهيم التقليدية للعدالة الانتقالية في عقول الضحايا. فالمقاربة الإقصائية التي تنتهجها السلطة من رأس الهرم إلى أسفله أقصت الضحايا أكثر وزادت نزعتهم إلى لزوم الصمت. والحقيقة أنّ الدعم الاقتصادي وتخليد الذكرى كجزء من اعتراف وطني عام هما من الأولويات الرئيسية التي يريدها الضحايا أن تتحقق في العملية الانتقالية. فغالبية هؤلاء يسعون إلى العدالة الاجتماعية أكثر من العدالة القانونية، وهو أمر لن تتمكّن لجان تقصّي الحقائق من تلبيته ما لم تعتمد فهما أعمق للعدالة محوره الضحايا.

آليات العدالة الانتقالية

قادت عملية السلام الرسمية إلى عدد من الإجراءات هدفها إضفاء الطابع المؤسسي على السلام بما في ذلك إنشاء وزارة السلام وإعادة الإعمار وإدماج المقاتلين الماويين السابقين وتأسيس الصندوق الاستئماني للسلام لاستخدام مساعدات المانحين في تعزيز السلام[1]. ولكن هذه العملية لم تقد إلى مخطط شامل لجبر الضرر. فلم يبدأ تنفيذ برنامج الإغاثة المؤقت IRP سوى في العام 2008 وقدّم الإغاثة لأكثر من 100 ألف ضحية غالبيتهم نزحوا داخلياً خلال النزاع. وشمل البرنامج مدفوعات هامة لعائلات القتلى والمفقودين ولكن لم يتواز مع موجبات للدولة تجاه الانتهاكات أو اعتراف أوسع بكونهم ضحايا، فيما بقيت العديد من الفئات (ضحايا الاغتصاب والتعذيب والإصابات البالغة) غير مؤهلة للحصول على مساعدات.

في العام 2006، تم التوقيع على اتفاق السلام الشامل[2] الذي نصّ على أن يتم خلال ستة أشهر تأسيس لجنتي الحقيقة والمصالحة والتحقيق في حالات الإختفاء القسري[3]. ولكن استمرار إفلات جميع الأحزاب السياسية والقوى الأمنية من العقاب أخّر عملية تشكيل اللجنتين حتى ففري 2015. ومنذ التوقيع على اتفاق السلام، كان الميل العام لدى اللاعبين السياسيين هو استغلال عملية العدالة الانتقالية لتعزيز مصالحهم الخاصة. وإزاء هذا الواقع، برز مؤشر إيجابي تمثل في قرار المحكمة العليا في النيبال (2 جانفي 2014 و26 ففري 2015) الذي يقضي بإلغاء أحكام العفو في قانون تشكيل لجنتي الحقيقة والمصالحة والتحقيق في حالات الإختفاء القسري[4] معتبراً أنّها تخالف المبادئ الراسخة للعدالة والأحكام الدستورية والقانون الدولي والقرارات السابقة للمحكمة المرتبطة بطلبات الضحايا.

إلا أن منظمات المجتمع المدني ما برحت تشكك كثيراً في عمل اللجنتين وتدرس مقاطعتهما. كما أن عدداً من الجهات المانحة تبدي شكاً أيضاً. وبالفعل فقد فشلت اللجنتان في التوصّل إلى نتيجة خلال ولايتهما الأصلية البالغة سنتين وخلال فترة التمديد اللاحقة التي قررتها الحكومة. فالأخيرة لم تقدّم لهما الموارد المناسبة ولا الدعم الإداري للتحقيق، كما رفضت تصحيح الخلل في قانون تشكيلهما. وفي بداية العام 2019، أقيل جميع مفوّضي اللجنتين من دون تحقيق[5] فيما الأمانة العامة معطّلة وتخطط مجدداً لإعادة تعيين مفوضين جدد من دون تعديل القانون ومن دون مشاورات أوسع كما تطلب مجموعات الضحايا والمجتمع المدني. وبالتالي بات مستقبل العدالة المنصفة غير أكيد.

توقعات الضحايا

  • إنّ أول ما يتوقعه الضحايا في النيبال هو أن يكون الهدف النهائي لتنفيذ إجراءات العدالة الانتقالية ـ الحقيقة والعدالة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار ـ منح الاعتراف للضحايا وإرساء الثقة وتعزيز الحكم الديمقراطي للقانون. ولا يمكن لأي من ذلك أن يحصل على حساب الضحايا أو من دون مشاركتهم الفعلية.
  • التوقع الثاني هو ألّا يكون الاعتراف بديلاً عن العدالة. ففي أجزاء كثيرة في العالم، تستخدم الأنظمة السابقة الاعتراف كأداة لانتزاع سماح الضحايا. وهذا الأمر لا يجب أن يحصل.
  • التوقع الثالث هو التركيز بشكل خاص على الموقع المركزي للضحايا في عمل لجنتي التحقيق. ويمكن لعقد جلسات استماع علنية أن يؤمن مبدئياً العديد من الفرص لإلقاء الضوء على الضحايا ومنحهم المساحة التي يستحقونها في الحيّز العام.
  • التوقع الرابع هو الاعتراف بالطبع. فالتهميش الطويل الأمد الذي مارسته الدولة على العديد من الشرائح التي تأثرت بشكل كبير بالنزاع، يقود إلى مطلب الاعتراف من خلال تخليد الذكرى ومنح القتلى مكانة الشهداء إضافة إلى جبر الضرر. وترتبط مسألة الاعتراف بالإقصاء الاجتماعي الطويل الأمد الذي سهّل وقوعهم ضحايا. بهذا المعنى، يرتبط جبر الضرر والغبن في النزاع بشكل وثيق بالسجالات السياسية المستمرة في النيبال حيال دور الأقليات والاعتراف بالإقصاء الذي حصل تاريخياً.
  • التوقع الخامس هو الحصول على الدعم الاقتصادي لضمان سبل العيش وتلبية الحاجات الفورية مثل الهواجس النفسية والصحية. بشكل عام، لا يفهم ضحايا النزاع مفهوم العدالة الانتقالية، فالعدالة بالنسبة إليهم تعني العيش بكرامة وتلبية حاجاتهم اليومية. وهم يتوقعون أن يتم استجلاء الحقيقة وتحقيق العدالة التصالحية. ويواصل الضحايا تسليط الضوء على حاجاتهم الاجتماعية الاقتصادية وربطها بالعدالة. ففي حياتهم اليومية، يرتبط معنى العدالة بالنسبة لضحايا النزاع بحاجاتهم الاجتماعية والثقافية والنفسية والمادية.

الحاجات والتحديات

يرغب الضحايا وعائلاتهم في مواصلة حياتهم الفردية والعائلية بشكل مريح بكرامة واحترام كاملين في مجتمعهم. والتحديات الرئيسية المشتركة بينهم اقتصادية ومرتبطة بكسب عيشهم في الوقت الراهن. ولكن ثمة مجموعة متنوعة من الحاجات والأولويات كلّ حسب وضعه ونطاقه الجغرافي وطبيعة الغبن اللاحق به. فالحاجات تختلف حسب كل فئة مثل الشباب والعجزة والجرحى والمعوّقين وضحايا العنف الجنسي والنساء ـ لاسيما زوجات أو أرامل المفقودين. في السياق النيبالي، لدى الضحايا دور ضئيل أو لا دور لهم في عملية العدالة الانتقالية. وبدلاً من ذلك فهم مجبرون ليس على الاكتفاء بالمتابعة فحسب بل أيضاً على قبول القرارات التي اتخذت نيابة عنهم من دون استشارتهم.

بالنتيجة، لا يتم تمثيل حاجات الضحايا وأجنداتهم بما يكفي ويتم التقليل من قيمة دورهم وقدرتهم على الإضافة إلى عملية العدالة الانتقالية.

في الواقع، إن العديد من الضحايا هم من أوساط فقيرة تاريخياً ومهمّشة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وكنتيجة مباشرة لذلك، تعرّضوا للعنف والإخفاء والقتل والاغتصاب والتعذيب والإصابة والتشريد من طرفي النزاع. فحملة الضحايا كانت في الأساس مشرذمة نتيجة اختلاف التوجّهات والتلاعب السياسي والاستغلال من قبل مروحة كبيرة من المجموعات التي لديها مصلحة (بما في ذلك المنظمات غير الحكومية والجهات المانحة).

كان الضحايا مستبعدين من العملية الرسمية التي كانت تقاد من أعلى إلى أسفل وفشلت في تمثيل الآلاف منهم وبالتالي لم يتم إرساء مفهوم العدالة الانتقالية من منظار الضحايا. وبالتالي، كانت العملية هذه إقصائية لشريحة من الناس تماماً كما هي الدولة تقليدياً.

إلا أنّ الضحايا حافظوا على أجندتهم وطرحوا هواجسهم. وضمّ الناشطون من أجل الضحايا ومجموعات الضحايا، ضحايا من الجانبين مصممين على الترويج للنشاط الجماعي. ولكنهم فشلوا في تحقيق تغيير للضحايا ولم يكن لديهم تأثير يذكر على التشريع. من جهة أخرى، حصلت المجموعات المرتبطة بأحزاب سياسية وبمنظمات دولية غير حكومية على إمكانية الوصول إلى موارد ولكنها لم تنجح في تمثيل الضحايا أيضاً.

ملاحظات ختامية

لا تزال عملية العدالة الانتقالية في النيبال تقاد من كاتماندو في ظل حكومة مترددة لديها أولويات أخرى تتملّقها منظمات غير حكومية محلّية ودولية ليس لديها تواصل يذكر مع ضحايا من المناطق الريفية. فأجندة المجتمع المدني تأتي من خطاب عالمي لحقوق الإنسان يبدّي المحاسبة الجنائية على جميع المقاربات الأخرى على الرغم من اتساع أولويات الضحايا وحاجاتهم. وصحيح أنّ التعويضات أصبحت مسألة مطروحة على أجندات المنظمات غير الحكومية ولكنها لن تكتسب أي معنى إن لم تأتِ من التواصل مع الضحايا وإشراكهم في العملية. فالضرر الذي ألحقته بهم الانتهاكات يحدد ما الذي يحتاجونه لجبره. وتمثل مجموعات الضحايا وأعضاؤها في المقاطعات الطريقة الأنجع للضحايا ليقوموا بدور في عملية يجب أن يكونوا مركزها للتعبير عن تلك الأضرار.

يعتبر النزاع في النيبال نتاج مجتمع مبنيّ على الإقصاء الممنهج لغالبية الشعب. وهذا الإقصاء الاجتماعي سواء على أساس الطائفة أو العرق أو الجنس، يمنع مشاركة شرائح كبيرة في العديد من المجالات، وليست ممارسة حقوق الإنسان استثناءً على ذلك. ولكن من المرجح أن يكون ضحايا الانتهاكات من الأوساط المهمشة مثل المجتمعات الأصلية، أو من الطبقات الدنيا. وبالتالي نجد أنّ أجندة الحقوق مقيّدة بالأهداف السياسية والمدنية التي تتجاهل بشكل أساسي قضايا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية: وهذه هي القضايا التي يوليها الضحايا الأولوية أيضاً والتي قادت إلى الإقصاء الاجتماعي الذي أجّج تاريخ النزاع في النيبال.

لذلك فمن أجل طرح آراء ضحايا النزاع الذين لا صوت لهم ومن أجل معالجة الإقصاء الاجتماعي الذي لا يزال ينتهك حقوق الأغلبية، يجب أن تكون الأولوية تعبئة الضحايا لتمثيل أنفسهم ودعم مجموعات الضحايا من الشرائح الشعبية في المقاطعات والقرى الريفية.

  • نشر هذا المقال في العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

الحقيقة والكرامة في أفق جديد


 [1] اتفاق السلام الشامل، 2006، 5.2.4. وافق طرفا النزاع على تشكيل اللجنة الوطنية للسلام والمصالحة والعمل من خلالها من أجل تطبيع الوضع السلبي الناتج عن النزاع المسلّح، والمحافظة على السلام في المجتمع والقيام بأعمال إغاثة وإعادة تأهيل للضحايا والمشرّدين نتيجة للنزاع.

[2] 5.2.5 يتفق الجانبان على تأسيس اللجنة العليا للحقيقة والمصالحة من أجل التحقيق حول المتورطين في الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية في سياق النزاع المسلح وتهيئة مناخ للمصالحة في المجتمع.

[3] 5.2.3 يتفق الجانبان أيضاً على الإعلان، خلال 60 يوماً من توقيع الاتفاق، عن الأسماء الحقيقية للمفقودين أو القتلى في النزاع وطوائفهم وعناوينهم وإبلاغ أفراد عائلاتهم.

[4] رام كومار بانداري وآخرون ضد الحكومة النيبالية، توجيهات المحكمة العليا بشأن قانون العدالة الانتقالية ومشاركة الضحايا.

[5] تلقّت الجمعيتان 66 ألف شكوى من ضحايا وناجين بشأن جميع أنواع الانتهاكات المرتكبة خلال النزاع.

انشر المقال

متوفر من خلال:

آسيا ، مقالات ، عدالة انتقالية ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني