يبدو أنّ التخبّط وعدم الوضوح هما سمة تعامل مؤسّسات الدولة حتى الآن مع مبلغ “900 مليون دولار” الذي يرجّح أن “يصل إلى حساب الدولة في مصرف لبنان من صندوق النقد الدولي نهاية شهر آب المقبل”، وفق ما أعلنه وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني في جلسة مجلس النوّاب الأربعاء الماضي 30 حزيران 2021، وبشّر به رئيس مجلس النواب نبيه برّي خلال الجلسة نفسها قبل أن يعطي الكلام لوزني لشرح الأمر للنوّاب.
المبلغ نفسه أثار بعض النقاش بين الخبراء الماليين والاقتصاديين والناشطين وبخاصّة لجهة كيفيّة الحرص على عدم تحوّل هذه الأموال إلى رصيد إضافي يستعمله أركان النّظام السّياسي في لبنان بالطريقة نفسها المعتمدة خلال الأزمة التي تعصف بلبنان منذ نهاية 2019 ولغاية اليوم والتي بدّدت نحو 17 مليار دولار من احتياطي مصرف لبنان، لم يستفد منها سوى كارتيل الاحتكار وكبار التجّار ذوي النفوذ السياسي والعلاقة الوثيقة بالسياسيين، على وقع التهريب. وغرّد الخبير الاقتصادي جان رياشي على حسابه على تويتر معتبراً أنّه “لا يمكن لمصرف لبنان أن يبتلع هذه الأموال فقط لإصلاح احتياطاته المستنفدة”، ورأى أنّه “يجب مناقشة استخدام هذه الأموال علناً”. ويقفز هاجس الشفافية وترتيب أولويّات الأمن الاجتماعي إلى الواجهة في نقاش استخدام هذه الأموال بعيداً عن الزبائنية والاستثمار اللذين تنحو قوى السلطة إلى تعميقهما قبل أشهر على استحقاق الانتخابات النيابية.
وكان المتحدث الرسمي باسم صندوق النقد الدولي جيري رايس قد أعلن في ختام اجتماع المجلس التنفيذي للصندوق يوم الأربعاء نفسه عن مناقشة الأخير قرار تخصيص 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصّة (Special Drawing Rights (SDR موزّعة على 189 دولة من أعضائه، وبخاصّة الأكثر ضعفاً، للتغلّب على أزمة كوفيد 19. واعتبر رايس أنّ مناقشة إدارة الصندوق “تُعدّ خطوة أخرى في العملية نحو تخصيص حقوق السحب الخاصّة الجديد، والذي نتوقّع أن يكتمل بحلول نهاية شهر آب المقبل”. وتوزع 650 مليار دولار على 189 دولة وفق حصّة كلّ منها والتي تُبنى على اشتراكاتها في الصندوق. وتبلغ حصّة لبنان 850 مليون SDR أي ما يوازي 900 مليون دولار. وعلمت “المفكرة القانونية” أنّ المكتب التنفيذي للصندوق أبلغ المديرة التنفيذية كريستالينا جورجيفا توجّهه للموافقة على اقتراحها هذا. ومن المتوقّع أن يضع الصندوق شروطاً عامّة حول استخدام هذه الأموال لكلّ الدول وليس لكلّ دولة على حدة، في ردّ عمّا إذا كان الصندوق في صدد الاشتراط على لبنان حول كيفية صرف الـ900 مليون دولار. وجاء اقتراح جورجيفا لمساعدة الدول في الأزمة العالمية التي تسبّب بها فيروس كورونا.
وحقّ السّحب الخاصّ هو أصل احتياطي دولي استحدثه الصندوق في عام 1969 ليصبح مُكمّلاً للاحتياطات الرسمية الخاصّة بالبلدان الأعضاء. وقد تمّ حتى الآن توزيع 204.2 مليار وحدة حقوق سحب خاصّة (ما يعادل 293 مليار دولار أميركي) على البلدان الأعضاء، منها 182.6 مليار وحدة تمّ توزيعها في 2009 عقب الأزمة المالية العالمية. وتتحدّد قيمة حق السحب الخاص وفقاً لسلّة من خمس عملات – الدولار الأميركي واليورو واليوان الصيني والين الياباني والجنيه الإسترليني[1]. وتعدّ المبالغ الموزّعة على الأعضاء على هذا الوجه حقاً مكتسباً لهم لا يستحق عليها أي فائدة. وأشار وزير المالية غازي وزني في جلسة مجلس النواب إلى أنّ هناك “نسبة 0.05% تحسم من المبلغ كمصاريف إدارية تتحمّلها كل الدول وليس لبنان فقط”، وفق ما أكدته مصادر وزارة المالية لـ”المفكرة”.
وفيما أشارت مصادر في رئاسة مجلس الوزراء لـ”المفكرة” إلى أنّ “الصورة غير مكتملة حتى الآن”، لافتة إلى أنّ “أولويات الحكومة هي تمويل البطاقة التمويلية”، أكدت مصادر وزارة المالية لـ”المفكرة” أنّ الحكومة هي التي تقرّر كيفية صرف هذا المال وليس حاكم مصرف لبنان أو وزير المالية. وبدا الاتّجاه في مجلس النواب خلال النقاش الذي تلا إعلان وزير المالية عن مبلغ 900 مليون دولار ينحو نحو استعمال المال في تمويل البطاقة التمويلية، فانبرى النائب حسن فضل الله إلى المطالبة بعدم “مس هذا المبلغ من دون قانون يُقرّ في مجلس النواب”، وهو ما وافقه عليه الرئيس بري. وأكّد فضل الله في اتصال مع “المفكرة” أنه طالب بقانون “من أجل الرقابة على إنفاق المال العام، ولكي لا يتم تبديده في وقت نعرف جميعاً حقيقة الوضع في لبنان”. ورداً على أن القانون يأخذ وقتاً لإقراره بينما الوضع الاقتصادي والمعيشي في لبنان لا يحتمل التأجيل، رأى فضل الله أنّه “عندما يكون هناك إرادة سياسية يتم إقرار قانون خلال يومين”. وأضاف: “رأينا أن يُصرف المال ضمن خطة تعافي اقتصادي مالي متكاملة، وأن تكون كل قرارتنا المالية تصب ضمن هذه الخطة، وليس على طريقة سياسة الترقيع والعشوائية”.
شبكة أمان اجتماعي لا زبائنية انتخابية
ونتيجة المخاوف من كيفية تصرّف الدولة اللبنانية بمبلغ صندوق النقد الدولي، يبحث بعض الخبراء في احتمال الطلب إلى صندوق النقد الدولي عدم منح لبنان الـ 900 مليون دولار أو وضع شروط عليه تضمن الشفافية في كيفية صرفه والأولويات الواجبة، أو “أن يأتي التأثير من المجتمع الدولي عندما يقوم لبنان بتحويل المبلغ المخصّص له إلى دولار، كونه لا يمكن تسييل هذا المبلغ إلاّ عبر بيعه إلى دولة أخرى”، وفق ما قاله أحد الخبراء الاقتصاديين الذي فضّل عدم ذكر اسمه “بانتظار جلاء الصورة”. وتبلغ حصة لبنان 850 مليون SDR أي ما يوازي 900 مليون دولار عند تسييلها.
من جهته، رأى الخبير د. كريم ضاهر أنّ إنفاق مبلغ صندوق النقد يجب أن يتم “بطريقة مدروسة لدعم تأسيس شبكة أمان اجتماعية تؤمّن الحق في المأكل والطبابة والتعليم والسكن كخدمات بديهية، وكذلك ضمان البطالة، ودعم العائلات الأكثر فقراً بعيداً عن الرشوة الانتخابية، بل أن يكون واضحاً للبنانيين أنّ هذا المال ليس من القوى السياسية في السّلطة، بل هو مال عام من حق المواطنين، وأن تتم العملية بطريقة مدروسة وشفافة”.
ويؤكد الخبير المالي جان طويلة أنّ صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي يعرفان تماماً الوضع في لبنان، ولذا من المفترض أن يحرصا على معرفة كيفية صرف هذا المبلغ. ورأى أنّ الجهد اليوم يجب أن ينصّب على “السبل الكفيلة بدفع السلطة السياسية والسياسيين لاستعماله لبناء شبكة أمان اجتماعي تحمي الشعب اللبناني، حيث هناك نحو 80% منه فقراء ومن بينهم الطبقة التي كانت وسطى”. ويرى أنّه يمكن استعمال الـ 900 مليون دولار أيضاً لدعم هؤلاء مباشرة ولتمويل البطاقة التمويلية عبر آلية شفافة وواضحة، مشيراً إلى أنّ البنك الدولي وفي إطار استجابته للقروض التي منحها للبنان، ومنها قرض 246 مليون دولار عبر برنامج الغذاء العالمي، “قدّم آلية واضحة للصرف مع شروط، لكن لبنان والحكومة لم يؤمّنا هذه الشروط حتى الآن، وهو ما يزيد المخاوف من عدم توفر الآلية المناسبة لصرف الـ 900 مليون دولار كذلك”. وأبدى طويلة مخاوفه من استخدام المال كـ “أوكسيجين مؤقّت للطبقة السياسية يخدم أفرقاءها في الانتخابات المقبلة لصرفها عبر المنظومة المستفيدة نفسها من التهريب ومن التجّار المحتكرين ذوي النفوذ السياسي والعلاقات الوثيقة مع السياسيين للاستمرار بمنظومة الزبائنية الانتخابية”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.