قناة "الري" غير الصالحة للاستعمال والتي تغذّي وحدات سكنية عديدة في عكار
يضحك أيمن بُضم، رب أسرة من منطقة البحصة في ببنين، على الحد مع بحنين في عكار، بسخرية وهو يمسك بقسطل مياه مثبت على “الري”، وهي قناة الجر الإسمنتية المسحوبة من نهر البارد: “هيدا القسطل بيسحب المي لبيتي وفي متله نحو 600 إلى 700 مضخة أخرى بتأمن المي لـ 300 وحدة سكنية ساكنين بالبحصة”. سخرية أيمن تتأتى من سؤاله عن مخاوفه وجيرانه من الكوليرا “عم تحكيني بالكوليرا؟ ما نحن أولادنا جربانين، كلّنا نساء ورجال وأطفال عنا أمراض جلدية، وتعي اكشفي تياب أي واحد منا وشوفي القيح والحبوب الملتهبة، نحن مش بس ما عنا مي نضيفة، نحن ما معنا حق مراهم لنعالج أمراضنا وأمراض أولادنا، يمكن كلنا كولرنا”، (أي أصيبوا بالكوليرا) “ليش مين بيروح ع الحكيم إذا صار معه إسهال؟”، يضيف.
“الري”، هي القناة الإسمنتية التي تجر مياه نهر البارد نحو مناطق المحمرة وبحنين وببنين مروراً بـ برج العرب ودير دلوم وصولاً إلى سهل عكار، ومخصصة للري فقط، على سطحها يطفو البراز وكمخة مياه المجارير، كيف لا، و”المفكرة القانونية” عاينت بالعين المجرّدة تسليط مياه مجارير المنازل إليها أو القنوات الرئيسية للصرف الصحي، فيما حوّلها اللبنانيون، ومعهم بعض اللاجئين في المخيمات، إلى مكب لنفاياتهم التي رأيناها متجمّعة حول الجسور المستحدثة على القناة لتسهيل عبور سكان القرى من حولها. وبالقرب من بعض المجارير رأينا بأم العين مضخات سحب المياه إلى المنازل، المنازل نفسها التي بنيت على ضفاف القناة بالآلاف على مجراها من نهر البارد إلى آخر سهل عكار حيث تنتهي في البحر، وسط كل الروائح النتنة التي تنبعث منها وتسبب الأمراض الصدرية والحساسية والربو. ومع الصهاريج التي تعبئ المياه من القناة لتبيعها للمنازل البعيدة عنها، تستغرب لماذا تأخرت الكوليرا حتى أصابت عكار وسكانها لغاية اليوم، طالما أن أهم أسباب انتشارها هو تلوث المياه والخضار والأطعمة.
صدى الواقع الصحي في عكار لم نجد صداه في اجتماع للجنة الوزارية المكلفة مكافحة انتشار الأوبئة والذي عُقد برئاسة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في 11 تشرين الأول 2022 في السراي الحكومي. إثر الإجتماع خرج وزير الصحة فراس أبيض ليقول “ما يجمع بين حالات الكوليرا في لبنان أنّ غالبيتها هي من النازحين السوريين، مما يزيد الاعتقاد بأنّ هناك انتشاراً للوباء الموجود في سوريا، في لبنان”، مشيراً إلى أنّ “ما يشكل أرضية خصبة لانتشار الوباء في لبنان هو غياب الخدمات الأساسية في أماكن تجمّع اللاجئين من مياه سليمة أو صرف المياه الصحية”.
وقال أبيض، قبل أن يصل عدّاد الكوليرا مساء الأربعاء 12 تشرين الأول 2022 إلى 26 إصابة 18 منها في عكار و7 في عرسال، إضافة إلى وفاة واحدة، إنّ القرار الأوّل الذي اتخذه المجتمعون تركّز على “تأمين الطاقة الكهربائية بالتعاون مع الشركاء الدوليين لمحطات ضخ المياه ومحطات الصرف الصحي خاصة، بالإضافة الى تأمين المعقّمات اللازمة لتوزيعها على مؤسسات المياه، إضافة إلى البلديات وصهاريج توزيع المياه، وهذا الأمر سيتمّ بالتعاون والتنسيق مع وزارة الداخلية والبلديات والجمعيات الأهلية وعلى رأسها الصليب الأحمر اللبناني”.
هذا على الصعيد الرسمي حيث عُقد اجتماع اللجنة بعد جولة لوزير الصحة فراس أبيض إلى عكار مع رئيس لجنة الصحة والعمل النيابية بلال عبدالله وممثلين عن منظمات دولية عاملة في لبنان، والتي من المفترض أن تكون للوقوف ميدانياً على واقع الحال في المحافظة التي شهدت تسجيل الإصابات الأولى بالكوليرا.
أما في الميدان، فقد أكد مدير مستشفى حلبا الحكومي الدكتور محمد خضرين لـ “المفكرة القانونية” استقبال ثلاث إصابات كوليرا في المستشفى بينهم لاجئ سوري واحد تمّت معالجته ومغادرته إلى منزله، وطفلة وسيدة لبنانيتان من بلدة ببنين العكارية، وأنّ السيدة في العناية الفائقة، فيما الطفلة في غرف الاستشفاء العادي، أي أنّ إصابتين بالكوليرا من أصل 3 هما لبنانيتان.
واليوم الخميس 13 تشرين الأول رفعت مستشفى حلبا الصوت لتشير إلى الضغط الناتج على قسم الطوارئ وضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم الخلط بين المرضى المشتبه بإصابتهم بالكوليرا وبين المرضى العاديين، كونه لا يوجد سوى مستشفى حكومي واحد في المنطقة.
وبالنسبة للقرار الأول المتخذ في الاجتماع لناحية تأمين الطاقة الكهربائية لضخ المياه وتشغيل محطات الصرف الصحي، يؤكد رئيس مصلحة مياه لبنان الشمالي خالد عبيد لـ “المفكرة” أنّه “لا يوجد محطة تكرير صرف صحي واحدة في كل عكار لتشغيلها”، فماذا ستستفيد عكار من قرار تشغيل محطات الصرف الصحي طالما لا يوجد فيها محطة واحدة؟، مع العلم أنّ معدل تصريف الوحدة السكنية الواحدة يبلغ متراً مكعباً على الأقل يومياً من مياه الصرف الصحي. ويلفت عبيد إلى أنّ نحو 65% من سكان عكار غير مشتركين في مياه الدولة، مما يعني أنّهم “لا يستهلكون مياهاً آمنة”.
ويؤكد رئيس مؤسسة مياه لبنان الشمالي أنّ المؤسسة المسؤولة عن 145 محطة في الشمال كلّه كانت تضخّ المياه عبر 22 محطة فقط، مزوّدة بخطوط كهربائية مباشرة غير خاضعة للتقنين وتغطي البترون والكورة وطرابلس، بينما تقتصر تغطية هذه المحطات في عكار على منطقة العيون التي تغطي 46 ضيعة ومنطقة عين يعقوب (7 ضيع)، من أصل 216 بلدة وقرية في عكار.
ويشير عبيد إلى أنّه بسبب الأزمة الراهنة بدأ التقنين منذ بداية 2022 “صرنا نشتري مازوت بس ما بقدر شغل 145 محطة”، لافتاً إلى أنّ الضخ توقف نهائياً منذ بداية أيلول لمدة 20 يوماً، وبسبب التدخلات عدنا إلى التقنين من 21 أيلول لغاية نهاية الأول من تشرين الأول بعد تأمين بعض الوقود”. وبعد نفاد الوقود (الذي تأمّن بسبب التدخلات) في 1 تشرين الأول “انقطعت المياه نهائياً لغاية اليوم (10 تشرين الأول)، حيث تعهدت اليونيسف بتأمين 23 ألف ليتر من وقود المازوت الذي سيشغل المحطات الـ 22 لمدة أسبوع واحد فقط، كوننا نحتاج إلى 11 ألف لتر يومياً في حال تشغيل كل المحطات الـ 145″، يؤكد عبيد.
ولكن أين تذهب مياه الصرف الصحي كونه لا يوجد محطة تكرير واحدة في كل عكار؟ يقول عبيد إن المجارير “مسلطة إلى الأودية ومجاري الأنهر والسيل والسواقي والحفر الصحية”.
إذاً ماذا يشرب سكان عكار؟ “لا يمكنني أن أقول سوى إنّهم لا يستهلكون مياهاً آمنة عندما يؤمّنون حاجاتهم من خارج محطات مياه الدولة، إذ أنّنا نفحص المياه بشكل دوري وهي صالحة للشرب، غير ذلك لسنا مسؤولين عن نوعية المياه التي يستهلكها الناس”، يضيف.
المياه تختلط بالصرف الصحي والنفايات للبنانيين واللاجئين
كلام عبيد تترجمه بشكل واضح نهارات العكاريين وحياتهم. صهاريج المياه تجوب القرى والبلدات من الصباح الباكر ولغاية المساء لتزوّد المنازل بحاجتها من مياه الخدمة المنزلية، فيما يقصد السكان محلات تكرير المياه لشراء مياه شفة ليس هناك من تراخيص أو شهادات تؤكد سلامتها وصلاحيتها للشرب، كما مياه الصهاريج. وتترواح كلفة صهريج الماء الذي لا تتعدى سعته ألفي لتر، بين 200 إلى 250 ألف لتر. وتحتاج عائلة متوسطة من خمسة أفراد إلى 5 نقلات مياه شهرياً كمعدل وسطي، وفق أحد الشبان الذي يعمل على صهريج مياه، أي ما بين مليون ومليون و250 ألف ليرة لبنانية، فيما يراوح سعر مياه الشفة والطبخ 20 ألف ليرة لغالون بلاستيكي سعة 10 ليترات كحد أقصى. والأهم من الكلفة التي تفوق راتب عسكري في الجيش اللبناني، وهو الدخل الأساسي لمعظم العائلات العكارية، أنّ هذه المياه غير آمنة وفق ما أكده عبيد.
مع شراء المياه، يبدو واضحاً أنّ عكار ترزح تحت تلوث سببه مياه الصرف الصحي حيث لا يوجد محطة تكرير واحدة في طول المحافظة وعرضها، كما سبق وأكد رئيس مؤسسة مياه لبنان الشمالي. وتكفي جولة على أنهر عكار الرئيسية من البارد إلى الأسطوان والنهر الجنوبي الكبير ومعها عرقا، لرؤية مصبّات الصرف الصحي التي تصبّ مباشرة في النهر ومجاري المياه والسواقي والسيل والأودية، ومعها نفايات بعض القرى وطبعاً المنازل القريبة التي تسدّ المجاري وسط انعدام تنظيف المجاري وتعزيلها. وتستعمل هذه المياه في ري المزروعات في سهل عكار وفق نظام محاصصة لكل بلدة وأراضيها مقرّر وموثق ومسجل منذ العثمانيين، يقوم على تطبيقه من يُعرفون بنواطير المياه، ما يطرح سؤالاً جوهرياً حول نوعية المنتجات الزراعية التي يستهلكها السكان ومعهم كل لبنان من ثاني أكبر سهل في البلاد بعد سهل البقاع.
مياه المجارير الفالتة عينها تهدّد المياه الجوفية مع الأنشطة البشرية من بناء وحفر صحية للمنازل في الأعالي ومنها القموعة التي تتربع في أعالي عكار على ارتفاع يراوح في سهلتها من 1650 متراً ليصل إلى 2250 متراً في الأعالي المحيطة بها. وتشهد القموعة حالياً طفرة في بناء المنتجعات السياحية والشاليهات والمطاعم والأنشطة السياحية الأخرى.
نحن نتحدث عن عكار المنسية على مساحة 776 كيلومتراً مربعاً، بقراها وبلداتها الـ 216 ونحو 350 ألف مواطن لبناني و200 ألف لاجئ سوري (من بينهم 106 آلاف مسجّل مع الأمم المتحدة) ونحو 40 ألف لاجئ فلسطيني، تذهب نفاياتهم من الصرف الصحي والنفايات العضوية والصلبة إلى الطبيعة من دون أي معالجة.
على ضفاف “الري”
هناك على قناة “الري” في البحصة وبحنين وببنين، التي تشقها القناة من أولها إلى آخرها، ومعهما بحنين وبرج العرب ودير دلوم وصولاً إلى السهل وقراه “لا حول ولا قوة للناس”، كما يقولون، “من وين منجيب مي لنغسل؟”، تسأل رضا سلمى من سكان ببنين، مؤكدة أنها تغسل ثياب عائلتها وتستحم مع أطفالها من “الري”، “بس ما منشرب منها”، تؤكد، لتقف على عجز الناس “كل الناس اليوم”، كما تقول، عن شراء صهاريج المياه “الصهريج الصغير بس بيعبي خزان البيت، حقه 200 ألف ليرة أو 250 ألف ليرة وكل 5 أيام بدنا صهريج، وما معنا ناكل بالأول لنشتري مي كمان”. سمعت سلمى بالكوليرا “نحن خايفين كتير، بس شو منعمل؟ أصلاً عطول أولادي مرضانين وجسمهم كله حبوب ملتهبة وأنا بعرف أنه من المي، بس ما عنا حلّ”.
ويصرّ أهالي البحصة على مناشدة المنظمات الدولية لمساعدتهم “الدولة ما رح تعمل لنا شي”، لشراء مضخة وتأمين تجهيزات للبئر التي حفرها لهم “محسن كريم”، كما قالوا “أمنا البئر لنتخلص من مياه قناة الري، ولكننا نناشد المنظمات الدولية مساعدتنا لسحب مياه البئر وتشغيله لنوزّعه ع 300 منزل في البحصة لنرد الموت والأمراض عن أطفالنا، نحن أيضاً لاجئين ببلادنا، لا أحد يسأل عنا”، يقولون.
هذا الواقع الذي عاينته “المفكرة” تزامن مع جولة وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس أبيض إلى عكار (الأحد 9 تشرين الأول 2022) وزيارته بعض مخيمات اللاجئين والمناطق مع ممثلين لبعض المنظمات الدولية في لبنان، جولة وصفها رئيس بلدية ببنين الدكتور كفاح كسار في حديث مع “المفكرة” بـ “الاستعراضية والإعلامية” ليسأل “هل نظّم وزير الصحة ورشة تقييم للأسباب التي أدت إلى عودة الكوليرا بعد 30 عاماً على أخر ظهور لها، تمهيداً لوضع الحلول التي تقضي على أسبابها؟ وهل وضع خطة المعالجات اللازمة للمتابعة على الأرض؟”. وبعدما يلفت كسار إلى أنّ أحداً لا يرد عليه “لا وزير صحة ولا مدير مركز الترصد الوبائي في عكار بيردوا ع اتصالاتي أو رسائلي”، يؤكد أنّه “لا يمكن للبلديات مواجهة الكوليرا وأسبابها وحدها”، وأن الدولة بوزاراتها وأجهزتها ومؤسساتها هي المسؤولة عن ذلك و”إلا سنذهب إلى الأسوأ”.
الدكتور كسار نفسه، وهو طبيب مسؤول في مستوصف الإيمان في ببنين، يؤكد أنّ المستوصف وحده يستقبل، وقبل الإعلان عن وجود إصابات كوليرا في عكار، نحو مئة حالة على الأقل يومياً من المصابين بالإسهال و”هذا اعتيادي في مواسم الإسهال المعروفة عالميا وليس فقط في لبنان، من دون أن ننفي مشكلة تلوث المياه طبعاً”. وينفي الدكتور كسار وجود حالات كوليرا في ببنين، بلدته التي يترأس بلديتها، ليعود ويقول عندما نعلمه بمعاينتنا حالتين في مستشفى حلبا الحكومي، ووفق تأكيد مدير المستشفى محمد خضرين لـ “المفكرة”، أنّ أحداً لم يعلمه بهذا الأمر “كيف ما خبّروني حتى تعرف البلدية شو ممكن تعمل؟”.
ويؤكد د. كسار أنّ ببنين التي يبلغ عدد سكانها نحو 60 ألف نسمة، وهي أكبر البلدات العكارية، كانت تتزوّد بالمياه من بئر نظيف في الرياحانية “ولكن تم الاعتداء على البئر وتكسير معداته بهدف السرقة، وعليه انقطعت المياه عن البلدة منذ 3 أشهر”، مضيفاً أنّ منظمة “جي آي زد” الألمانية تساعد البلدية في تشغيل بئر أخرى “وانشالله قريباً رح ترجع المي ع ببنين”.
طبيب آخر في عكار فضل الكشف عن اسمه “حتى ما يتهموني أنه مش عم بلّغ وزارة الصحة”، يؤكد للمفكرة “أن واحدا من المستوصفات المهمة في عكار يستقبل في بعض الأيام ما يفوق مائتي حالة إسهال في اليوم، هذا ولم نتحدث عن الذين لا يقصدون الطبيب، أو يقصدون مستوصفات أخرى”، لافتاً إلى أنّ تلوث المياه يتسبب بمشاكل صحية لا تقف عند الإسهال “اسألوا عن حجم استهلاك المضادات الحيوية المستخدمة في علاج البكتيريا والالتهابات، الوضع بيخوّف بالمنطقة، وكل ذلك بسبب انعدام المياه النظيفة”.
في منطقة وادي الجاموس، يؤكد الطبيب رامي عكاري للمفكرة أن المستوصف الذي يعمل به (مستوصف النجاة الطبي) يستقبل يوميا ما يراوح بين 20 إلى 30 حالة إسهال حاد ومثلهم طفرة جلدية نتيجة استهلاك المواطنين للمياه الملوثة والاستحمام بها وغسل ملابسهم أيضاً”. ويلفت عكاري إلى أن الأطباء لا يطلبون تحاليل الكوليرا لكل المصابين بالإسهال “الناس فقيرة وما معها تعمل فحوصات، فمنعطيهم أدوية وعلاجات ومنبعتهم ع بيوتهم”، لافتاً إلى الاشتباه بحالة كوليرا اليوم الأربعاء في 12 تشرين الأول 2022 “عندها إسهال حاد من 4 أيام فحوّلناها ع المستشفى”.
مخيمات اللاجئين وهلع الوصمة
عندما أُعلن عن تسجيل الإصابة الأولى بالكوليرا في أحد مخيمات اللاجئين بين ببنين وبحنين (حيث تبارت البلدتان في إنكار وجود المخيم فيهما)، قصدت “المفكرة” المخيم المذكور لتجد الطريق التي تمر فوقه تفيض بمياه المجارير العائدة لمنطقة الريحانية، ومنذ عام تقريباً. المجارير عينها تتسرب ببطء تحت الطريق نحو المخيم وخصوصاً خلال الشتاء وغزارة الأمطار. في المخيم عينه، يخرج الشاويش المسؤول، حيث يرفض أي من قاطنيه الإدلاء بأي حديث: “الشاويش بس بيحكي”، ليؤكد أنّ إصابة الكوليرا لا علاقة لها بمخيمه بل هي في مخيم آخر في بلدة بحنين. ومن مخيم إلى آخر، جالت “المفكرة” على ثمانية مخيّمات للاجئين نفوا نفياً قاطعاً إصابة أي من القاطنين بالكوليرا. يقول شاويش أحد هذه المخيمات إنّ اللاجئين يخافون من تكرار العنصرية التي واجهوها خلال تفشي وباء كورونا “صاروا يعاملوننا يومها وكأننا نحن سبب الكورونا بلبنان ونحن لي عم ننشرها، فكيف اليوم مع الكوليرا، وهناك انتشار للمرض في سوريا؟ إيه والله بيسكروا علينا المخيمات وما بيسمحوا لنا نطلع لبرا”.
في المحمرة وعلى قناة الري الجارية من نهر البارد والملوثة بمياه المجارير كانت لاجئة سورية من مخيم صقر تركز وعاء غسل الملابس على القناة وتغسل “كومة” من ملابس عائلتها، فيما يلعب طفلها بمياه القناة. تعرف السيدة، وفق ما قالت لـ “المفكرة” أنّ المياه ملوثة وغير صالحة للاستعمال، لتؤكد أنّ لا خيار آخر لديها وأنّ أطفالها يصابون بشكل دائم بالإسهال والطفرة الجلدية والحبوب الملتهبة في رؤوسهم وأجسادهم، “بس ما عنا مي بالمخيم، كيف بغسل تياب الأولاد؟”. المرأة نفسها تضع بقربها غالونات بلاستيكية لملئها من القناة والعودة بها إلى المنزل “بدي حمّم الأولاد فيهم”.
بالقرب من السيدة يتّكئ يحيى عبد الرحيم عزّ الدين على جدار منزله الملاصق للقناة ليؤكد لـ “المفكرة” أنّ نحو 50 منزلاً في محيط منزله يعتمد على مياه القناة في حياتهم اليومية “منتوضّى منها ومنتحمّم ومنغسل تيابنا ومنّضف البيت فيها”، مؤكداً أنّه دفع نحو 15 مليون ليرة لبنانية علاجاً لزوجته المريضة بسبب المياه “وكمان أولادي عطول مرضى”.
ليس بعيداً عن المحمّرة، وتحديداً في البحصة في ببنين ضبطت “المفكرة” صهريج مياه يملأ خزانه من قناة الري الملوثة ويقوم ببيعها للمنازل التي لا تريد استهلاك مياه الري. اقتربنا من صاحب الصهريج وسألناه إذا كان بإمكانه تزويدنا بالمياه، فأجاب “إذا كنتو ساكنين بـ بنين أو محيطها باخد لك، بس أبعد من هيك ما بروح”. وإثر إبلاغ بلدية ببنين بقيام أصحاب الصهاريج بتعبئة خزاناتهم من مياه الري الملوثة وبيعها إلى المواطنين على أساس أنها مياه نظيفة، تم استدعاء هؤلاء لإنذارهم بوجوب التوقف عن ذلك. وإثر هذه الخطوة، وصلت “المفكرة” رسالة صوتية لصاحب أحد الصهاريج يؤكد أنّه وزملاؤه وعددهم نحو 30 صهريجاً لا يجدون مياه الري ملوثة وأنّ أرزاقهم ستقطع في حال منعهم من التزوّد بالمياه من القناة.
يقول الفيديو التوعوي الذي وزعته وزارة الصحة إنّ سبل الوقاية من الكوليرا تعتمد على:
1-شرب مياه آمنة ومعروفة المصدر
2-تعقيم المياه للشرب وغسل الخضار والاستخدام من خلال غليها أو تعقيمها بالكلور
3-طبخ الأكل جيداً وعدم تناول الأكل المكشوف وغسل الخضار والفواكه بمياه نظيفة ومعقمة..إلخ
تضحك نورا الحصني لدى رؤية الفيديو وتشير بيدها إلى الصهاريج الكثيفة على الطرقات والمتجهة نحو منازل العكاريين لتقول “من وين المياه الآمنة والمعروفة المصدر؟ ليش معنا مصاري لنشتري كلور ونعقّم؟ ونغسل الخضار والفواكه بمي نضيفة؟ ليش نحن فينا نشتري فواكه؟ وعنا كهربا حتى نحفظ الأكل بالبرادات وما نتسمم ونمرض؟ وتختم “نحن بدنيا ووزارة الصحة وكل المسؤولين بـ دنيا تانية، جيرانا مشتركين بمي الدولة، بس من سنة ما نزل نقطة مي من الحنفية، وجارنا التاني عنده بير مي طلعت ملوثة، عكار عايمة ع المجارير”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.