تقدّم النائب ألان عون بتاريخ الرابع من شهر كانون الأول 2023 باقتراح قانون معجل مكرر يرمي إلى تخصيص يوم السادس من أيار من كل سنة لاستذكار “مأساة الحرب العالمية الأولى على لبنان دون أن يكون يوم عطلة رسمية، على أن تتولى وزارتا التربية والداخلية تنظيم العيد”. ويأتي هذا الاقتراح مشابهًا لآخر سبق وتقدم به نائبان من الكتلة ذاتها وهي كتلة لبنان القوي، هدفا إلى إعلان الثالث عشر من نيسان “عيدًا للوحدة الوطنية والسلام والروح الرياضية”. وكانت المفكرة قد نشرت تعليقاً عليه.
وقد ورد في الأسباب الموجبة للاقتراح أنّ الحرب العالمية الأولى نتج عنها “مآسٍ وويلات أصابت مختلف المناطق والفئات اللبنانيّة وبصورة خاصة أبناء جبل لبنان والمدن الساحلية (…) فانتهى الأمر إلى مقتل واستشهاد ثلث سكان الجبل بسبب الجوع والحرب، وتشريد الثلث الثاني في بقاع الأرض كافة، أمّا الثلث المتبقي فاستطاع بالكاد أن يستمرّ على قيد الحياة”. وقد أضافت الأسباب الموجبة أنّ هذه المآسي التي لم تميّز بين “مسنّ وشاب وصبية، وبين طائفة ومذهب، وبين منطقة وأخرى تحتّم علينا نحن الأحفاد تخصيص يوم واحد للذكرى والتذكير”.
إن هذا الاقتراح يستوجب الملاحظات التالية:
6 أيار ذكرى مزدوجة
من اللافت في هذا الاقتراح أوّلًا أنّه يختار السادس من أيّار لتكريس ذكرى مأساة الحرب العالميّة الأولى علمًا أن التاريخ نفسه تمّ تخصيصه “عيدًا رسميًّا لتكريم شهداء الوطن” وذلك بموجب القانون الصادر في 30 نيسان 1937، وكذلك المرسوم رقم 15215/2005 النافذ حاليًّا الذي ينص على أنه “يجرى الاحتفال بذكرى الشهداء التي تقع بتاريخ السادس من أيار في الأحد الأول من شهر أيار”.
تجدر الإشارة أوّلًا إلى التضارب في الوسيلة القانونية المُعتمدة في تحديد أيام الأعياد والعطل الرسمية إذ إنّ البعض منها يتمّ عبر القوانين والبعض الآخر عبر المراسيم لعلّ آخرها المرسوم رقم 8007 تاريخ 23 تموز 2021 القاضي باعتبار “يوم الرابع من آب ذُكرى فاجعة انفجار مرفأ بيروت، يوم حداد وطنيّ”.
أمّا ثانيًّا، فلا بدّ من التساؤل حول جدوى اختيار يوم السّادس من أيّار المخصّص أصلًا لذكرى الشّهداء لتكريس ذكرى الحرب العالميّة الأولى من دون تبرير الجمع بينهما أو ربطهما في الأسباب الموجبة. علمًا أن مقدم الاقتراح يذكر في الأسباب الموجبة وجود عيد رسمي للشهداء يتمّ الاحتفال به في 6 أيار من دون أن يشرح هل أنّ العيد الجديد سيحلّ محلّ العيد القديم أو سيتمّ الاحتفال بالعيديْن معًا في النهار ذاته. وفيما أن تاريخ 6 أيار كذكرى للشهداء مبرر بالإعدامات شنقا التي حصلت في هذا التاريخ في ساحة البرج في بيروت، والتي باتت اليوم تعرف نتيجة لذلك بساحة الشهداء، فإننا لا نجد أي تبرير منطقي لاعتماد 6 أيار كذكرى لضحايا الحرب العالمية الأولى، والذين سقطوا في أغلبهم نتيجة المجاعة.
ذاكرة شعب أم ذاكرة نُخب؟
أما الملاحظة الثانية التي تفرض نفسها فتتمثل في إيجابية اعتماد ذاكرة أكثر شمولية للمآسي التي تعرض لها لبنان خلال الحرب العالمية الأولى. وهذا ما ورد في الأسباب الموجبة للاقتراح الذي سجّلفارقة تخصيص عيد “لذكرى الشهداء الذين قضوا شنقًا في 6 أيار، من دون أن يخصص يومًا لذكرى عشرات آلاف ضحايا المجاعة من الأرواح البريئة خلال هذه الحرب هم من جميع المناطق والطوائف اللبنانية من دون استثناء”. وبذلك، أتى الاقتراح بمثابة نقد للتوجه الذي اعتمدته الدولة اللبنانية خلال الانتداب الفرنسي التي سارعت إلى إحياء ذكرى تقتصر على قلّة من النخبة بينما لم تهتمّ حينها لتذكّر المجاعة التي أبادت قرى بأكملها في لبنان وبقيت محفورة في ذاكرة أجيال تتناقلها من دون أيّ اعتراف رسميّ. ومن هذه الزاوية، يؤشّر الاقتراح إلى اتجاه نحو اعتماد ذاكرة أكثر ديمقراطية وأقل نخبوية وإن بقيت الذاكرة المراد تكريمها أسيرة تاريخ مرتبط بالمأساة المرتكبة بحق شهداء الصحافة من النخب. ومن المهم بمكان أن نشير إلى أن هذا الاتجاه في حال تكريسه يشكل تصحيحا وانعطافة ليس فقط على فهم الذاكرة المعتمد في فترة الانتداب، ولكن حتى على فهم الذاكرة في إثر حرب 1975-1990 والذي تجلى في قانون العفو العام الصادر في 1991 والذي استثنى من العفو الجرائم المرتكبة ضد النخب السياسية والدينية (القادة) من دون أي إشارة إلى المجازر المرتكبة هنا وهنالك والتي شكل العديد منها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ذاكرة أم تذكر؟
أخيرا، ورغم أهمية الاتجاه الذي اعتمده الاقتراح لجهة تصحيح خلل اختزال الذاكرة بالنخب، يبقى أنه تجنب الخوض في أيّ نقاشات تاريخية لا يوجد إجماع حولها وبخاصة بشأن من يتحمل مسؤولية المجاعة ونطاقها وأعداد الضحايا الذين قضوا خلالها، كما لم يتضمن أيّ مسعى لتوثيق الذاكرة أو لأي عمل فكري في هذا الخصوص. وبذلك، يأتي الاقتراح بمثابة لفت نظر إلى واجب الدّولة بتكريم ذاكرة عدد كبير من الضحايا تمّ تجاهلهم حتى الآن، من دون أن يعلن إطلاق أي ورشة فكرية أو عملية لحفظ هذه الذاكرة أو فهم الأحداث المحيطة بها في اتجاه تحقيق فهم أفضل وأعمق للماضي الذي قلما يمضي، والأهم في اتجاه تحقيق تصالح معه.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.