4 توجّهات خطابيّة في ذكرى 4 آب الثانية: إلى أين يمضون في ذاكرة آلام الضحايا؟


2022-08-13    |   

4 توجّهات خطابيّة في ذكرى 4 آب الثانية: إلى أين يمضون في ذاكرة آلام الضحايا؟

بمناسبة ذكرى 4 آب الثانية، غرقت وسائل التواصل الإجتماعي بمواقف متباينة حول هذا الحدث ودلالاته. وفي حين شهدنا الكثير من المواقف المتضامنة وبخاصة من القوى التغييرية مع ضحايا تفجير المرفأ وسعيهم للعدالة، رشح خطاب القوى السياسة الطائفية عن إرادة في تأطير دور القضاء ونقض مرجعيّته، ولو بأشكال مختلفة. وقد سعينا إلى تأطير تلك المواقف بعد رصدنا لها، تحت أربعة توجهات:

–   تحويل مسؤولية تعطيل التحقيق، من خلال إلقاء اللوم بتعطيل القضاء على القضاء نفسه، مقابل الادّعاء بالحفاظ على سلامة القانون،

–   محاولة إحلال الأجندة السياسية محلّ ذاكرة الضحايا التي تمّ عمليا طمسها،

–   استغلال الذّكرى لتسجيل مواقف سياسيّة تبعا لافتراض وجود دوافع حزبيّة طائفيّة وراء التفجير.

–   أما التوجه الأخير فهو التوجه الداعي إلى الإقرار بمرجعية القضاء.

نطرح فيما يلي مضمون التوجهات، علّ بيداغوجيا “قضيّة المرفأ” الكاشفة عن أدوات “الإفلات من العقاب”، تنبّه إلى خطورة “فيتو” التحشيد الطائفي و”فيتو” العرقلة السياسيّة بوجه العدالة، في القضاء على ما تبقى من استقرار مجتمعي.

إلقاء اللوم على القضاء: الحقيقة ضائعة

بدأ هذا التوجّه مع تصريح لالياس بو صعب في 2 آب على برنامج “نهاركم سعيد” يلوم فيه القضاء على تعطيل القضاء. وقد تلقّف حزب الله وحلفاء له هذا التصريح ليبنُوا عليه سرديتهم في الذكرى الثانية. وفي وقت لا زال القضاء مكبلاً والقانون معلّق، قدمت حركة أمل موقفها على أنها ملتزمة القانون والدستور، دون أن تشغل بالها في نقاش “العدالة في قضيّة المرفأ”، بعدما نجحت في إبقاء المدعى عليهم المقربين عنها بعيدا عن قبضة المحقق العدلي طارق بيطار. وذهب هذا التوجّه إلى نوع من الإبتزاز السياسي العنيف للقاضي طارق بيطار في تحميله مسؤوليّة تعطيل القضاء ككل بسبب عدم تنحيه عن ملف “تفجير المرفأ”. كما سعى هذا التوجه إلى قلب واقع تعطيل العدالة، من خلال دحض واقع “العدالة المكبّلة” للتحدّث عوضاً عن ذلك عن “الحقيقة الضائعة”، بهدف الطعن بالتحقيقات القضائية.

كان من جملة ما قاله بو صعب في تثبيته واقعة تعطيل القضاء أن “الباب مسكر من خلال الطعون بحق القاضي بيطار وهذه الطعون لا تحل الا باستعمال التعيينات”. ليستنتج بعد ذلك أن “الكرة اليوم بملعب مجلس القضاء الاعلى والقرار اليوم بيد القضاء”. وأضاف ” من يمنع القاضي أن يقول أنه لا يستمع إلى أحد.” ثمّ تابع التهجّم على القضاء بالقول أن “هناك قاضياً وافق على إفراغ حمولة النيترات ولم يتم توقيفه”. وذهب أبعد من ذلك لتبرئة الوزراء، فقال “إذا الوزير تدخل وأخذ قراراً بازالة البضاعة هل لديه هذه السلطة؟” مشيراً إلى أنه لا صلاحية لدى أي وزير بكسر قرار القاضي بحجز البضاعة. وتابع سرديته بالقول أنّ الوزراء عندما رأوا أن القاضي أوقف اشخاصاً ظلماً تردّدوا في الاستجابة للاستدعاءات.

في ملاقاة هذا التصريح، أصدر حزب الله بياناً في 4 آب قال فيه “لقد شهدْنا خلال العامين المنصرمين موجةً هائلةً من الحملات السياسية والإعلامية المكثّفة والتي تضمّنت اتهامات باطلة وزائفة وقدراً كبيراً من التحريض أدّى إلى توتّر داخلي في غاية الخطورة”، مستذكراً حادثة الطيونة. وعاد إلى التذكير بالسرديات القديمة من باب مطالبته “بتحقيقٍ نزيهٍ وعادل وشفاف وفق الأصول القانونية ومراعاة وحدة المعايير بعيداً عن الاستثمار السياسيّ والتحريض الطائفيّ والمزايدات الشعبوية”. واستذكرت حركة أمل في بيان السرديّة ذاتها إذ شكّكت بالتحقيق ودعتْ إلى “إجراء تحقيق جدي وشفاف وفق الدستور والقوانين المرعية الإجراء بما يكشف الحقيقة ويحقق العدالة التي تطمئن النفوس وتضمّد الجراح”، وأشارت إلى استثمار سياسي “لا يؤمّن إلا مصالح من يقف وراءه”، وتحريض طائفي وفتن “تقفز فوق الحقيقة التي نتمسك بها”.

ثم في خطاب للسيد حسن نصر الله في 4 آب، قال بمناسبة ذكرى الانفجار إنّ “أهم مشكلة واجهتها هذه المصيبة هي التوظيف السياسي البشع، منذ اليوم الأول”. وكرر سرديّة الاستهداف السياسي لحزب الله والمقاومة. وأضاف نصر الله أنّ “التحقيق معطَّل لأن قاضي التحقيق لا يقبل التنحي”. محملاً بذلك على نحو مباشر القاضي طارق بيطار مسؤولية تعطيل القضاء.

نواب آخرون من التيار الوطني الحر صبّوا في اتجاه لوم القضاء على تعطيل القضاء. النائب غسان عطاالله تساءل في تغريدة ” وحدو المجرم الحقيقي ما بدو الحقيقة، هل القضاة المسؤولين عن القضية حلفاء المجرم؟”. وقال في تغريدة أخرى: ” ما يتعمد بعض القضاة فعله من خلال تعطيل مجرى التحقيق وتأخير الحقيقة والسماح للمذنبين بالهروب من المحاسبة، وقعه أقسى وأكثر إيلاماً من الانفجار بذاته”. أما النائب أسعد درغام فقال لبرنامج صوت الناس أن “القاضي بيطار يستطيع أن يصدر القرار الظني وان لم يكن ذلك باستطاعته فليستقل”.

فيما اكتفى رئيس مجلس النواب نبيه بري بالقول أن “المسار الذي يوصل حتماً إلى العدالة وكشف الحقيقة تطبيق الدستور والقانون”. بدوره دعا عضو كتلة “التنمية والتحرير” قاسم هاشم إلى أن تتحقّق العدالة وتتكشف معالم الجريمة، استنادا للقانون والدستور، لينال كل مرتكب جزاءه”. وهو الموقف ذاته الذي كان أخذه بالمناسبة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي في آذار الماضي أثناء الضغوطات التي كان يمارسها على مجلس القضاء الأعلى، إذ عقدت جلسة لمجلس الوزراء قبل الانتخابات النيابية في 19 آذار، طلب خلالها المجلس بأن “يأخذ القانون مجراه من دون أي تمييز أو إستنسابية وأن تُتخذ المبادرة لمعالجة الأوضاع القضائية”. وذلك لمجرّد تسجيل موقف في ظل تورط الرئاستين في الضغوطات على القضاء وتعطيل عمله.

من ناحية أخرى استعادت السرديّة مطلب كشف “الحقيقة المطلقة”، كأنه يوجد شيء اسمه حقيقة مطلقة يمكن حصرها في بيان أو ملف، وكأن ما كشف من حقائق ثابتة في هذه القضيّة حتى الآن لا يخوّل القضاء استدعاء أفراد لاستكمال التحقيق. كما يوحي مطلب كشف الحقيقة أن التعطيل والتهجم على القاضي بيطار لن يستمر في حال خرج الأخير ليصرّح بكل ما توصّل إليه التحقيق من حقائق قبل إصداره القرار الظني.

بأي حال، تداعت على تويتر سلسلة المواقف المطالبة ب “الحقيقة الكاملة”. فغرّد رئيس الجمهورية ميشال عون مؤكداً التزامه “بإحقاق العدالة المستندة إلى حقيقة كاملة، يكشفها مسار قضائي نزيه يذهب حتى النهاية، بعيداً عن أي تزوير أو استنسابية أو ظلم”. وغرّد رئيس مجلس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قائلاً “يوم حزين لن ينجلي سواده قبل معرفة الحقيقة الكاملة”. رئيس الوزراء السابق تمام سلام دعا إلى معرفة “الحقيقة الكاملة”، وقال “في الذكرى الثانية لمجزرة انفجار مرفأ بيروت علينا الاستمرار في سياسة الضغط لمعرفة المخطِّط والمنفِّذ والشريك والمتدخّل في جريمة المرفأ”. النائب إدكار طرابلسي قال أن “عدم تجاوب الدول بتزويد لبنان بصور مفيدة لتلك اللحظة هو لعدم كشف الحقيقة”. وتحدّث النائب غسان عطالله عن “تأخير الحقيقة”. واكتفى النائب السابق سليم سعادة بتغريدة وصورة تقول فحسب “4 آب…الحقيقة الضائعة”.

مظلوميّة الموقوفين وطمس ذاكرة الضحايا

تمثّل هذا التوجّه في تفعيل سرديّة مظلوميّة الموقوفين، التي سبق لرئيس التيار الوطني الحر وادعى أنهم (أي التيار) عكس بقيّة الأطراف سلّموا بسلطة القضاء ولم يعرقلوا عمله. وكأنه يقول اليوم بتفعيل سرديّة مظلوميّة الموقوفين أنّ الوقت حان بعد مرور عامّين لإفلات موقوفين محسوبين على التيار من العقاب. وقد سارت هذه السرديّة بالتوازي مع إلقاء نواب التيار اللوم على القضاء في تعطيل عمل القضاء. وبدأت الإشارة لتسعير هذه البروباغندا مع تصريح نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب قال فيه أنّ “الكرة اليوم بملعب مجلس القضاء الأعلى والقرار اليوم بيد القضاء”.

ففي الوقت الذي كان نائب رئيس الوزراء السابق غسان حاصباني يتحدّث عن ضرورة تقسيم بيروت طائفيا. كان نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب يقول خلال مقابلة له على برنامج “نهاركم سعيد” أنه أصرّ على حمل ملف “المرفأ” رغم أن البعض نصحه بألا يفعل ذلك لأن الملفّ سيحرق أصابعه. لنكتشف بعدها أنه يقصد من فتح الملف إعادة قولبته من باب مظلوميّة الموقوفين، فقال أنّ “هناك ظلما في التأخير بملف تفجير المرفأ تجاه اهالي الضحايا وأهالي الموقوفين واليوم القضاء يعرقل القضاء”.  وأوضح موقفه بالقول أن هناك اليوم من هم في السجن ظلما “ومنهم بدري ضاهر وشفيق مرعي”.

نائب الحزب التقدمي الإشتراكي هادي أبو الحسن بدوره تحدّث عن صخبٌ على مدى سنتين في قضيّة المرفأ في وقت أن الوطن منكوب “والموقوفون بعضهم مظلوم ٌوالحقيقة ضحية تعثر التحقيق، والكلّ غافل عن القاتل وعن مسبّبات الكارثة”. وحاول التقليل من شأن الإهمال المتمادي لسنوات فقال “نجحوا بإلهائنا عمّن أدخل النيترات ولأي غرض ومن فجر المرفأ ولماذا. فإلى متى سيبقى التحقيق معلقاً؟” دون أن يشير إلى أسباب التعليق.

في اليوم التالي (3 آب)، دعا رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في تغريدة للتأمل والصلاة ” للمتضرّرين وللموقوفين ظلمًا”. النائب نقولا الصحناوي شارك تويت باسيل (ريتويت)، وقال “منصلّي لتحقيق العدالة بالسما، وعالأرض”. في إيحاء منه أن عدالة الأرض تتحقق بإطلاق موقوفين في قضيّة المرفأ. وبدأت بعدها تتوالى تويتات نوّاب التيّار المتضامنة مع موقةفين، ونشر بعضهم صور تجمعهم  مع المدير العام السابق للجمارك بدري ضاهر. عاد باسيل وغرّد في 5 آب قائلاً: ” كل يوم سجن ظالم هو جريمة، الظلم أقسى من القتل؛ نحنا منعرف معنى الظلم، ونحنا ناس ما منترك ناسنا” (عرض في التويت صورة له مع الموقوف بدري ضاهر). وكأنّ باسيل يوحي بذلك أنه معني فقط بتحصين المقربين من التيار الوطني الحر من القضاء. وفي حين أعاد ما قاله إلى الذاكرة مقولة السيد حسن نصر الله “نحن لا نترك أسرانا في السجون”. فلا نبالغ إذا قلنا أن باسيل يوحي بذلك أن قضيّة بدري ضاهر تتشابه وقضيّة الأسرى بسجون الاحتلال الإسرائيلي.

النائب غسان عطالله لام في سلسلة تغريدات القضاء على تعطيل القضاء، ورأى في تغريدة أن “الموقوفين ظلماً بدن الحقيقة وبدن تبرئة إسمن”.  وقال في تغريدة ” بعد سنتين صار وقت نعرف نتيجة التحقيقات لمحاسبة المجرمين وانفك أَسر المظلومين يلي عم يدفعوا أثمان ما الن فيها”. وتحدث في تغريدة ثالثة عن ظلم يطال من سماهم “الموقوفين قسراً”. وكأنه يوحي في تغريدته أن هناك نوعاً آخر من الموقفين هم “الموقوفين طوعاً”! وكأنّ التوقيف هو مسألة أخذ ورد مع القضاء.  وعرض عطالله على فيديو فيه مجموعة صور تجمع بدري ضاهر ونواب التيار الوطني الحر. كذلك فعل آخرون ومنهم النائب سيزار أبي خليل الذي عرض صورة تجمعه ببدري ضاهر احياءاً لذكرى 7 آب. للتقدمّ مرة جديدة ذاكرة “المسؤول الضحية” أو “البطل الضحية” على ذاكرة  الضحايا.

كما شهدنا سلسة تغريدات “مظلوميّة” التيار في 4 آب، النائب أسعد درغام دعا فيها إلى “الكف عن التوقيفات العشوائية التي طالت (الموقوفين) من دون أي وجه حق”.  وأشارت النائبة ندى البستاني إلى الأمر نفسه فقالت “بعد سنتين ما في شي تاني انهزّ والملف تجمّد وانحرموا أهل الضحايا من العزا والمظلومين من العدالة هيدي أكبر جريمة”. كذلك اعتبر النائب سليم خوري أنه بعد مرور عامين على الانفجار يجب أن ” ينال كل مرتكب أو مقصر عقابه و ينال كل مظلوم برائته”. أمّا النائب السابق إدي المعلوف فاستذكر بمناسبة 4 آب “المتضررين معنوياً ومادياً، وعلى رأسهم المعتقلين ظلماً في السجون بسبب تواطؤ وتقاعس السياسة والقضاء”. وطالب بالرحمة للشهداء ورفع الظلم عن “المعتقلين”. واعتبر النائب إدكار طرابلسي أن “التوقيفات العشوائية وعدم إصدار قرار ظني هو للتعمية وللتغطية وللاقتصاص السياسي”.

ولم يشِر أحد من نوّاب التيار إلى الحقيقة الثابتة المتمثّلة بفضيحة الإهمال الكبرى في إدارة مرفأ بيروت. ولم يشِر أي منهم إلى نهج دعاوى الرد المستجد على القضاء في كونه هو السبب في تأخّر التحقيق لمدّة عامين، وفضّلوا لوم القضاء على تعطيل القضاء.

تسجيل موقف سياسي

بالرغم من أن أطرافا عدّة شاركت التضامن مع الضحايا ونددت بتعليق عمل القضاء، إلّا أن بعض الأحزاب والنوّاب المتضامنين استغلّوا الذكرى لتسجيل مواقف ضدّ أطراف سياسية محددة تارة ولمقاربة انتخابات رئاسة الجمهورية تارة أخرى. وسعتْ هذه الأطراف عموماً إلى ربط تعطيل القضاء في قضيّة المرفأ بإدعاءاتهم أن هناك من يستغلّ القضاء سياسياً وطائفياً في قضايا أخرى مثل قضيّة المطران موسى. مشكّكين بذلك بكل الجسم القضائي ليطعنوا هم أيضاً في شرعيّته. وقد ذهب البعض أبعد من ذلك في اتّجاه استغلال المناسبة للحديث عن تقسيم بيروت الإداري الطائفي.

ضمن هذا التوجّه، أصدرت الكتائب بياناً في 2 آب بمناسبة الذكرى الثانية لجريمة المرفأ, وبعد حديثها عن “التسلّط على القضاء وشلّ عمله”، ربطت الأمر ب”عمليات تخوين وتخويف واستدعاءات غب الطلب”، في إشارة منها إلى قضيّة المطران موسى الحاج. كما استغلّت المناسبة للدعوة إلى ” توحيد المواقف لمنع وصول رئيس للجمهورية يشكل امتداداً لنهج اللادولة”.

أمّا النائب غسان حاصباني، فقارب القضيّة بشكل مختلف واعتبر تفجير بيروت جريمة بحق الانسانية وأنّ المسؤولين عنها يتوزعون بين مرتكب وفاسد ومهمل. وقال حاصباني عقب قداس للمناسبة في 2 آب، أنه على يقين أن العدالة السماوية ستتحقق، مشككاً بتحقيق عدالة الأرض “لأن ثمة من يحاول جاهدا عرقلتها”. لكنه عاد لينتقد بلدية بيروت التي أقرّت مساعدات للمتضررين ولم توزع، ملمحاً لأسباب طائفية متسائلاً إذا ما كان الانفجار ميز بين طائفة وأخرى. وعليه انتهى إلى أنه يريد “حلا يتيح انتخاب أعضاء المجلس البلدي من كل منطقة تتكون منها بيروت على حدة”، مسترجعاً فكرة التقسيم الإداري لبلديّة بيروت، التي برأيه “تحافظ على خصوصيات مكونات بيروت المناطقية وقيم العيش المشترك”.

بدوره رئيس حزب القوات سمير جعجع، عقد مؤتمراً صحافياً في معراب في 3 آب، مستغلاً الذكرى للقول أنّه “مرشّح طبيعي لرئاسة الجمهورية”. وبعد التحيّة لأرواح الضحايا والشهداء، بدأ جعجع كلامه بالتهكّم على أهميّة تعزيز القضاء المحلّي. قال أنّه “في مفهومهم يجب على القضاء اللبناني أن يأخذ مجراه لأننا في بلد فيه حكومة قائمة وقضاء يعمل. ولذلك، ترك المجال للتحقيق المحلي، ولكن للأسف انتهت المسألة: مش معروف شي من شي”. موضحاً بالمقابل أنه كان يعمل منذ البداية على الاتصال بالدول الصديقة للمساعدة. واستغلّ جعجع الذكرى للتهجم على حزب الله في تغطيته للفساد، ولتفنيد المسارات الممكنة للانتخابات الرئاسيّة.

النائب نديم الجميّل في مقابلة على “تلفزيون لبنان” رأى أن هناك “فريق(اً) لبناني(اً) يهدّد الجميع بسلاحه أدخل النترات إلى مرفأ بيروت وبإهماله فجّر المدينة”، وعاد وتحدّث عن “مشروع إيراني” يفرض علينا، ووجّه الاتّهام المباشر لحزب الله في القضيّة. قال: “عندما نتهم حزب الله بتفجير المرفأ وغيره من التفجيرات يحملوننا مسؤولية تهديد السلم الأهلي، فمن هو وفيق صفا ليهدد القضاء ويُترك من دون توقيف ومحاسبة؟”

وعلّقت النائبة غادة أيوب في تغريدة في 3 آب أنّ المطلوب انتخاب الرئيس الذي يعيد للجمهورية اللبنانية سيادتها، متحدّثة عن “دور الرئيس في رفض استخدام القضاء لإيصال رسائل سياسية”، في إشارة منها أيضاً إلى قضيّة المطران الحاج. و سبق واعتبرت في تغريدة لها أنّ قضيته “سياسية بامتياز والهدف منها محاولة إسكات صوت الكنيسة اللبناني والسيادي”. كما ربطت أيوب في تغريدة أخرى قضيّة المرفأ بحرب الـ100 يوم والاغتيالات السياسية، والتي ذكرت منها اغتيالات كمال جنبلاط وبشير الجميل ورفيق الحريري. وجمعت هذه الجرائم في سرديّة واحدة تقول أن الهدف منها كان “تركيع شعب لبنان”. فيما تحدّث النائب مصباح الاحدب بدوره عن حجم حقد وإجرام وفساد وإهمال المسؤوليين معتبراً أن لبنان الذي تأسس عام 1920 انتهى في 4 آب 2020 “بسبب مشروع حزب الله وعدم توحد الفريق الآخر”.

ولا تكمن خطورة هذا التوجّه في ادّعاء امتلاك “حقيقة تفجير المرفأ”، إنما في سوق اتهامات سياسيّة وطائفيّة من نوع “استهداف لبنان” أو استهداف الطائفة الفلانية، على أنها “الحقيقة” المطلقة. ما يؤدّي إلى التعمية عن المسؤوليات الشخصيّة والفرديّة. ثمّ أن الإستهداف الخطابي هذا تحوّل ورقة بيد المتهمين في قضيّة المرفأ للتحشيد الطائفي المضاد والإدّعاء أنّهم مستهدفون سياسياً وطائفياً، والقول أن القضاء يمارس هذا الدور وأنّه لا يستدعيهم لأسباب تتعلّق بارتكابات ومسؤوليات فرديّة. ثم في سياق آخر، يقدم الفريق نفسه المدافع عن “استهداف لبنان”، أداة التحشيد الطائفي وتحقير القضاء ذاتها للإفلات من العقاب في قضايا أخرى.

إتجاه الاعتراف بمرجعيّة القضاء

في مقابل التوجهات الثلاثة، نتلمّح توجّهاً رابعاً يدعو إلى الكفّ عن التدخّل في عمل القضاء تارة ومحاولة الضغط عليه وتسييسه تارة أخرى. ويدعو إلى تكريس الذاكرة كذاكرة ضحايا، عليه أثناء الدعوات إلى مسيرة 4 آب، جرى تناقل تويت يذكّر بالجريمة واستمرار تعطيل العدالة، ويقول ” تفجير بيروت أكثر من 224 قتيل و7000 جريح و150 شخصاً مصاباً بإعاقة دائمة و300000 شخص تشرّد. بـ 4 آب 2020، في نظام سياسي فجّر العاصمة، وأحزاب تحاول تعطيل التحقيق والإفلات من العقاب.” 

كان أبرز من عبّر عن هذا الإتجاه، وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم حيث غرّدت: “انفجار 4 آب قد يكون عملاً مقصوداً أو غير مقصود، وهذا ما على التحقيق أن يبيّنه. أما عرقلة المسار القضائي فهو حتماً عمل مقصود”.

كما صبّت مواقف عدد من النواب التغييريين في هذا الاتجاه، فحمّل النائب ابراهيم منيمنة الحكومة مسؤولية التقصير وقال في تغريدة: “نعتبر أن مسؤوليتها مشتركة مع معرقلي التحقيق في هدر حقوق الضحايا والمتضررين. وسنلاحق هذا التقصير والتواطؤ ومن يتورط به نيابيا وقانونيا”. وعبّر في تغريدة أخرى عن مشاركته الضحايا مأساتهم: “المأساة المعمّقة بفعل غياب العدالة وعدم المحاسبة وعرقلة التحقيقات وحماية النافذين من الاستجواب والملاحقة القضائية والاعتقال”. فيما دعت النائبة حليمة القعقور وزير الماليّة إلى “توقيع التشكيلات القضائيّة للهيئة العامة لمحكمة التمييز”. ودعتْ مجلس النوّاب إلى “تعديل أصول طلبات الردّ والمخاصمة لمنع التعسّف في استخدامها، وإلى إقرار قانون استقلاليّة القضاء العدليّ وفقاً للمعايير الدوليّة. واعتبر حزب “لنا” في تغريدة أن “4 آب ليس يوم ذكرى، بل يوم تظاهر وغضب”.

وبدوره أورد النائب الياس جراده سلسلة تغريدات تساءل فيها “كيف يمكن لنا أن نقبل بتحقيق لم ينتهِ في جريمة استهدفتنا جميعًا؟ أو أن لا يُعلن أمام الملأ لكشف الحقيقة في وجه من أجرم ومن أهمل ومن تستّر؟ كيف لنا أن نقبل بترهيب القضاء وتكبيله واستمرار نهج مواجهته للإفلات من العقاب؟” واعتبر أن كشف حقيقة هذه الجريمة، والمحاسبة الجريئة، تأكيد لسيادة القانون، وتثبيت لعدالة الدولة، وإصرار على تحمّل المسؤوليّة تجاه المجتمع حاضرًا ومستقبلًا، لنحول دون تكرارها مجدّدا. وأردف أنه “أمام استمرار النزيف والألم، نعلن موقفنا: – وقوفنا خلف القضاء ليصدر أحكامه بإستقلالية تامّة.- مواجهتنا لكل الممارسات التي تفضي إلى تعطيل عمل المحقق العدلي. – مطالبتنا بإتمام التعيينات القضائية في الهيئة العامة لمحكمة التمييز”.

النائب ملحم خلف قال لموقف “هنا لبنان” أن هناك رغبةٌ بعرقلة التحقيقات وعدم تبيان الحقيقة وعرقلة المسار القضائي، وأضاف: “21 شكوى قضائيّة بين طلب ردّ وطلب نقل تمّ تقديمها حتّى الآن، ولو بالمبدأ يمكن التقدُّم بها، إلّا أنّها تعكس تعسّفًا باستخدام الحق؛ وهذا أمر غير مألوف ويجب أن يخضع للمساءلة”. وقال خلف أيضاً ل “صوت لبنان”: ” لقد قمنا بتأليف خلية أزمة نتج عنها قيام مكتب الادعاء وهو يتضمن 4 محامين وهم أسبوعيا يلتقّون من 6 آب حتى اليوم الدعم المطلق من نقابة المحامين سواء أكان في ولايتي السابقة أو اليوم”. ودعا النائب مارك ضو الى إطلاق يد المحقق العدلي في جريمة تفجير بيروت وقال أنه “بعد عامين على 4 آب من غير المقبول تكبيل التحقيق واستمرار وقاحة المطلوبين”.

النائب فراس حمدان قال أن “الذي اقترفته الطبقة الحاكمة وعرقلت مسار التحقيق فيه عمداً وفرقت بين أهالي الضحايا عبر الحسابات الطائفية والسياسية، لا يمكن أن تمرّ مرور الكرام”. وذكّر بفئة المتضررين من اعتداءات الأجهزة ضد المتظاهرين واعداً بالعمل على تأمين سبل المحاسبة القانونية في تحقيق انفجار مرفأ بيروت. النائب ميشال الدويهي قال لـ”الجديد”: أنا كمواطن لبناني لديّ رأيٌ بمن هو السبب بانفجار مرفأ بيروت ولكن كنائب عليّ أن أحترم المؤسسات الدستورية وأنتظر ظهور نتيجة التحقيق”, وأضاف أن “هناك أشخاصاً صدرت بحقّهم مذكّرة توقيف عليهم أن يمثلوا أمام القضاء لإثبات براءتهم إذا كانوا كذلك “. كما قال الدويهي في تغريدة “من داخل المجلس وفي الساحات سنحمي الذاكرة الجماعية وسنبقى إلى جانب أهالي الضحايا وسنطالب بالعدالة والمحاسبة مهما طال الزمن”.

النائب وضاح الصادق قال في تغريدة أنّ “المتهم الذي يعلم أنّه مذنب يعرقل العدالة بكل الطرق. البريء الواثق من براءته يقاتل من أجلها. عدالة ضحايا المرفأ محتجزة لدى السلطة منذ عامين.”. كما شارك الصادق تغريدة “خط أحمر”(ريتويت)، تقول “جريمة القتل والإهمال، لن تمرّ. جريمة تعطيل التحقيق والهروب من الاستجواب، لن تمرّ. جريمة السطو على القضاء وتسييسه، لن تمرّ. جريمة حماية المتّهمين، لن تمرّ”. النائب أسامة سعد قال أن “التحقيق قد توقف منذ مدة طويلة نتيجة العرقلة من قبل المتنفذين في السلطة السياسية ذاتها !! والقضاء الذي لا يزال محروماً من الاستقلالية يعاني من أمور عديدة، ولا سيما من التدخلات السياسية في عمله”.

أخرون أيضاً صبوا في الإتجاه ذاته، فقال النائب نعمت افرام ” قد تكون الجريمة الأولى في انفجار المرفأ متعمّدة ولكن الأكيد أنها كانت نتيجة الإهمال والتقصير والتواطؤ. أمّا عرقلة التحقيق اليوم فهي جريمة متعمّدة فقط لا غير”. وكذلك صبّ الوزير السابق فادي عبود في هذا الاتجاه، إذ أشار إلى قول الأخصائيين أنه “لو وجد نظام إطفائي أوتوماتيكي في العنبر المخصص للمواد القابلة للحريق ربما كنا نجونا من هذا الانفجار الرهيب”. وتساءل بعد ذلك “من يقبض عائدات المرفأ ومن ويدير؟” وأردف أن “اللجنة المؤقتة لادارة واستثمار مرفأ بيروت مؤقتة عمرها أكثر من 30 سنة، تجبي ضرائب سيادية وتنفقها كما شاءت غير قانونية ومستمرة”. ولعلّه يجيب في ذلك على ادّعاء تطبيق القانون والدستور. وقال النائب الياس حنكش أنه ” مع أهالي الضحايا في ذكرى السنتين على تفجير المرفأ… ثقتنا كبيرة بالقاضي بيطار وفي حال استمروا في تعطيله، ستتشكل لجنة تحقيق دولية وسنعرف الحقيقة ويعاقب من كان السبب”.

أما المفكرة القانونية فأصدرت بياناً، تحدثت فيه عن رهانها منذ حصول تفجير بيروت حول إمكانية “خرق جدار الإفلات من العقاب والخطوط الحمراء التي طالما فرضتها القوى السياسيّة لمنع المحاسبة في كلّ قضيّة تطال مسؤولاً أو شخصاً ذا نفوذ”، ورهانها حول الاستفادة من الكارثة لإصلاح مؤسساتنا القضائية ونظام العدالة. ودعتْ المفكرة في المناسبة إلى تغليب “ذاكرة الضحايا” على “أمجاد الزعامات التي ما فتئت تقسّمنا وتضعفنا وصولاً إلى تدمير الدولة”. وأكّدت على “ضرورة تثبيت مرجعية القضاء في ضمان العدالة للضحايا”، وأنّ ذلك لا يتحقق إلّا بحراك مواطني واسع للحؤول دون استخدام الوسائل والفنون المعهودة في فرض إرادة القوى السياسيّة على القضاء والتهرّب من قبضته.

وقد ترافق هذا الخطاب مع خطاب لا يقل وقعاً ودلالةً وهو الخطاب بشأن المحافظة على الإهراءات المهددة باللهيب المشتعل داخلها، لتكون نصباً حيّاً شاهداً صامتاً على الجريمة، ورمزاً للبنان الضحية. وهو خطاب سندرسه على حدة بالنظر إلى أهميته.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني